بتاريخ 04/12/2009 عممنا الحلقة الأولى من كتاب الأمين نواف حردان "صانعو تراثنا الثقافي والحضاري".
اليوم نعمم الحلقة الثانية، من الكلمة التي قدم بها الأمين نواف حردان كتابه.
على مذبح التوراة
انتصرت المسيحية وراحت تنتشر في العالم الروماني، بعد أن تنصّر الامبراطور قسطنطين 332 ميلادية، وجعل الدين الجديد دين الامبراطورية الرومانية الرسمي.. وخرجت التوراة اليهودية مع انتصار المسيحية من مخابئها المظلمة إلى النور، وبدأ آباء الكنيسة ينشرون التوراة كما ينشرون الانجيل، اعتقاداً منهم أنها تمهد له وتعززه.. أو لأسباب أخرى لا مجال لذكرها الآن.
بدأوا ينشرون التوراة بعد أن ترجمها القديس هيرونيموس إلى اللاتينية، وترجمها افرام السرياني إلى الآرامية.. وغيره إلى لغات أخرى، وراحت الكنيسة تدافع عنها فيما هي تنشرها وتكافح ما عداها.
صارت الكنيسة حاكمة العالم المسيحي بعد ثلاثمئة عام ونيف من ظهور المسيح، وبدأت تحارب كل المعتقدات المخالفة والمغايرة والمزاحمة لما جاء في التوراة وتهدم الهياكل القديمة وتحولها إلى كنائس وتحرق الكتب.
كم من الكتب القديمة، السومرية والبابلية والفينيقية، الحافلة بالمعطيات والعلوم والحكمة اتلفت وأحرقت؟ كم من الهياكل والآثار والتماثيل الفنية هدمت ودمرت؟ هذا ما لا يعلمه أحد اليوم.
ما نعلمه وما يعنينا في هذه الدراسة، أن ايزوبيو أسقف قيصرية مثلاً وأحد آباء الكنيسة الكبار، أتلف كتاب المؤرخ البابلي برعوشا (تاريخ بابل وآشور) ولم يبق منه إلا نتفاً قليلة وصلت إلينا.. أبقاها لإستغلالها لما يريد، كما أحرق كتب المؤرخ الفينيقي سنكونياتن وكتب فيلون الجبيلي وبعض كتابات برفير، كما دمر الاكليروس البيزنطي هيكلاً لعشتار وأدونيس كان قائماً بالقرب من مغارة أفقا في لبنان .. كما حوّل هيكل الإله اداد في دمشق إلى كنيسة، وحطم ما لا يحصى من التماثيل الفنية الرائعة. والعديد العديد من الهياكل الاخرى "أحرقوا كل الكتب ففي التوراة غنى عنها" هكذا صدر الأمر من الكنيسة، فصارت الكتب تجمع وترمى في النيران الملتهبة المرتفعة، فيتصاعد دخانها ليؤلف غيوماً تحجب وجه السماء. أو تتلف وتذرى أجزاؤها أمام الرياح.
ولا ندري بأية أعجوبة أنقذت بقايا بعض الكتب القديمة حتى وصلتنا أسماء بيتاغور واحيقار وفيلون وسنكنياتون وزينون وغيرهم.
أحرقت جميع الكتب والتواريخ القديمة، التي كانت تلقي أضواء كثيرة على تاريخ الانسان، ولم يبق منها إلا التوراة، كتاباً "تاريخياً كبيراً مقدساً جليل الفائدة" يلقي علينا دروساً مغلوطة كاذبة ويعطينا تاريخاً مشوهاً مزوراً عن الماضي ودروسه وعبره وغناه.
أحرقت الكتب القديمة واختفت معها أسماء العلماء والمؤرخين والشعراء والحكماء، السومريين والبابليين والفينيقيين، وذابت في رماد الحرائق العديدة التي ارتفعت تحرق نتاج العقول الكبيرة العبقرية.
دفنت الاساطير السورية القديمة، الحافلة بالمعاني الفلسفية العميقة السامية، مع من ماتوا ودفنوا، ولم تبق أسماء نينوى وبابل واور واوروك وبورسيبا معروفة إلا من التوراة، أو من بعض ما كتبه هيرودوت وغيره من المعلومات القليلة، حتى إن الكثيرين صاروا يشكون بأن تلك المدن والحضارات القديمة وجدت بالفعل.
بحجة "مكافحة الوثنية" أحرقت الكتب القديمة من جهة. وبفعل أحقاد اليهود المتنصرين الجدد، أمثال ايسوبيو المؤرخ الكنسي اليهودي الاصل، على شعبنا من جهة ثانية. وعن هذا يقول المؤرخ يوسف الحوراني في مقدمة ترجمة الجزء الاول من كتاب ايسوبيو "التمهيد للحياة الانجيلية": "فالمسيحية الأولى لم تكن في موقفها من العقائد الفينيقية غير يهودية متجددة، حتى يخال المرء أن الذين حكموا على كتب الفلسفة بالحرق، هم أحفاد الكهنة الذين حكموا على يسوع بالصلب، وعلى كهنة البعل فوق الكرمل في زمن ايليا التشبي الذي كان لاجئاً في لبنان، البلد الأصلي للبعل وكهنته وعبادته".
وفي هذا الصدد أيضاً يقول العلامة البطريرك السرياني افرام الاول برصوم في كتابه "اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والاداب السريانية": "وكان جدودنا حين اعتناقهم الدين المسيحي المبين وتذوقهم حلاوته، قد ضحّوا في سبيله بأغلى ما عندهم، فأحرقوا كل الكتب والآثار المدنية والعلمية، خشية أن توقع معالمها الوثنية أحفادهم في شراك التوثن".
كنوزنا تخرج للنور
لم يبق من الكنوز الفكرية الثقافية الكنعانية والبابلية شيء يذكر، وصار الكثيرون يظنون بأن أسماء أوروكاجينا وحمورابي واحيقار وسنكونياتن، هي أسماء مختلفة لأشخاص وهميين، لأن نينوى وبابل وفينيقية قواعد انطلاق أولئك العظماء المحسنين للانسانية الخالدين، كانت قد هدمت ولم يبق من آثارها فوق الارض شيء ظاهر.
هكذا كانت الحالة في منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأ المنقبون الأوروبيون يتوجهون إلى العراق ليبحثوا عن نينوى وبابل واور. ولم تمر سنوات قليلة، حتى بدأت كنوز الحضارة السورية القديمة تظهر للنور. وإذا بنينوى وبابل واور وأوروك وخرزباد وماري، تخرج من تحت الارض، تضم بين بقايا قصورها وهياكلها المكتشفات الغنية الكثيرة، التي كان بينها مكتبة الملك آشور باني بعل، المحتوية عشرين الف لوحة من الآجر، وإذا بهذه المكتبة مدخل كبير لمعرفة الحضارات السومرية الآشورية البابلية. وكان الملك العالم قد نظمها تنظيماً جيداً، بعد أن حصل على قسم منها من أصدقاء له، وعلى القسم الآخر من جميع أنحاء مملكته.
ومع هذه المكتشفات الغنية، وخروج كنوزها للنور، بدأ العالم وبدأنا معه .. رويداً رويداً، نعرف أسماء صانعي الثقافة والحضارة في بلادنا، الذين كنا لا نعرفهم من قبل، أمثال أوروكاجينا واورنمو ولبث عشتار وحمورابي وغيرهم الكثيرين، من ابطال الفكر والثقافة والتشريع والحكمة، الذين يتناولهم هذا الكتاب.
الفينيقيون سوريون
وإذ نحن بصدد الحديث عن الفينيقيين .. الذين قد يعجب البعض من إعطائنا لهم هوية السوريين .. بعد أن كادت تسود لدى الكثيرين .. فكرة أنهم كانوا "لبنانيين" يقطنون على السواحل اللبنانية الحالية فقط.. في صيدا وصور وجبيل.. ولذلك لا يمكن أن تكون لهم علاقة بسورية والسوريين.. نبادر إلى الايضاح والتأكيد .. بأن الفينيقيين هم الكنعانيون أنفسهم .. أي أنهم هم أنفسهم الذين كانوا يقطنون سورية الجنوبية أو فلسطين.. أرض كنعان القديمة .. قبل أن يدخلها اليهود .. في القرن الثاني عشر ق.م. كما كانوا يقطنون السواحل السورية الشمالية .. في طرطوس وأرواد وجبله واوغاريت إلى كيليكية .. وجبال اللاذقية حيث لا تزال مئات البلدان والقرى تعرف بأسمائها الفينيقية إلى اليوم.. مثل قدموس وبدادا وصافيتا وصلنفة وكفرون وكفرام ومصياف وبعمره وعمريت وجبلة الخ..
وقد اطلق اليونانيون على سكان صور وصيدا وجبيل .. تسمية الفينيقيين .. في الحقبة الاخيرة فقط أي حوالي 1200ق.م..
هجرة الفينيقيين
اتسع البحر أمام بلاد الفينيقيين .. عندما ضاقت بهم رقعة الأرض التي كانوا يقطنون فيها.. امتدت انظارهم إلى ذلك البحر.. الكبير المجهول المحفوف بالألغاز والمخاطر.. وقرروا أن يسيطروا عليه.. ويعرفوا ما وراءه...
لم تقعد بهم همتهم.. عند شواطئ البحر، فدفعهم طموحهم إلى إقتحامه وإستغلاله وإكتشاف المجهول وما لبثوا أن بنوا القوارب والسفن الكبيرة واتقنوا فن الملاحة.. فكانوا البحارة الماهرين الأوائل في التاريخ.. وانطلقوا كرواد أوائل أيضاً يكتشفون ويتاجرون... ويزرعون الألفباء والعلوم.. وينشرون الحضارة في جزر البحر وآسية الصغرى، واليونان وجنوبي إيطالية وفرنسة وإسبانية وشمالي أفريقية على إتساعه.. وبنوا المستعمرات والمحطات والقرى والمدن الجديدة.. وفرضوا مدنيتهم وهيبتهم واحترامهم في كل مطرح.
وليست قرطاجة وحضرموميت وقادس وقرطجنّة في أفريقية ومرسيلية وعوتيق وبرقة في إسبانية وكروطونا في جنوبي إيطالية إلا مدناً فينيقية بناها الفينيقيون أنفسهم، قواعد ومنارات انطلاق حضاري توزع أنوارها على العالم.
حتى أوروبة نفسها التي اكتشفوها كان اسمها فينيقيا... كما كانت ليبيا إسماً آخر فينيقياً للقارة الثانية المقابلة التي صارت فيما بعد تدعى افريقية.
في تلك المدن والمحطات الموزعة.. هنا وهناك على شواطئ آسية الصغرى... واليونان وأوروبة وأفريقية... وفي الجزر العديدة استقر الفينيقيون، وأنشأوا لهم أوطاناً جديدة.. بعد أن وجدوا مجالات فسيحة لطموحهم ونشاطهم.
وفي بعض الجزر وفي اليونان وجنوبي إيطالية، وشمالي افريقية كان لهم جاليات عديدة كبيرة... .
بعضها ظل محافظاً على فينيقيته الصافية وعلى اتصاله بالوطن وولائه له.. كما في قرطاجة وإسبانية.. وبعضها اختلط بالسكان الأصليين مع الوقت، وأثّر فيهم نظراً لتفوق ثقافته.
إلا أن الفينيقية والاثم الكنعاني ظلا فاعلين في تلك الجاليات.. حتى ليصبح القول أن البحر المتوسط أصبح بحيرة فينيقية.. وحوضه كاد يتفينق كلياً.
ظلوا سوريين
ذلك أن الفينيقيين حملوا معهم الفباءهم ومعارفهم وعلومهم وفنونهم... ونشروها في أوطانهم الجديدة.. وليس من ينكر بأنهم مع البابليين، مواطنيهم الآخرين في سورية الشرقية، كانوا معلمي اليونان وأوروبة...
كان التجار منهم والمعلمون والحكماء.. يضطرون إلى تعلم لغة البلاد الجديدة، ليخاطبوا الشعب بها.. في بعض الأماكن وهم يقومون بنشاطهم، ويؤدون مهماتهم التجارية أو الثقافية الحضارية.
بعضهم استقر وقطن تلك المدن والمناطق الجديدة. وولد له بنين فيها.. فنشأ بنوه يتكلمون لغة تلك البلاد.. إلى جانب آبائه وأجداده.. مع احتفاظه بولائه لبلاده الأصلية ونفسية شعبه المتفوقة المتشبعة بكل فن وكل علم وكل فلسفة في العالم.
ومن هؤلاء الحكماء والقادة النوابغ.. كان هاني بعل أعظم نابغة حربي في كل العصور وكل الأمم.. كما كان طاليس الفيلسوف الأول في العالم وتلميذه البابلي انوكسيمندر، بيتاغور وزينون الرواقي وطيرانس عافر وسيرو الأنطاكي وغيرهم.
علم هؤلاء العباقرة النوابغ الخالدون.. بلغة الشعوب التي قطنوا بينها، كاليونانية واللاتينية إذ لم يكن بد من ذلك.. كما تركوا آثارهم فيها.. ولكنهم أبداً لم يتحولوا إلى يونان أو لاتين كما زعم الغرب وما يزال يزعم.. بل ظلوا فينيقيين أو بابليين سوريين.. كما كانوا بالفعل.. محتفظين بنفسية شعبهم ومواهبه وتراثه الغني العظيم.
هكذا حدث في هذا العصر لجبران خليل جبران، الذي عندما كتب أفضل كتبه بالانكليزية في أميركا التي هاجر إليها.. لم يصبح أميركياً.. بل بقي سورياً.. معلناً سوريته الأصلية ومتغنياً بها.
ظل أولئك العظماء سوريين نفسيةً وفكراً وانتماءً، محسنين للانسانية.. خالدين في التاريخ العالمي.. من واجبنا أن نعرفهم.. ونكتشف المسروقين منهم ونعيدهم إلينا.. ونضمهم إلى صانعي تراثنا الثقافي الحضاري.. ونعلنهم مواطنين لنا.. بصوتٍ عالٍ... بكل جرأة وشجاعة ودون تأجيل أو تردد.
هؤلاء هم العظماء الذين توصلنا لمعرفتهم حتى الآن.. علماً بأنه ما يزال هناك غيرهم كثيرون غامضون ضائعون في تواريخ الأجانب... الذين ادّعوهم وشوهوا أسماءهم وفرنجوها وزوروا الحقائق عنهم... خلال عصور الظلام التي أطبقت علينا...
وعلماً أيضاً.. أن الكثيرين من عظمائنا القدماء أيضاً... ماتزال أسماؤهم وسيرهم ضائعة مدفونة تحت الأنقاض.. كحكماء بابل وشعرائها وكاتبي آدابها.. ومؤلف ملحمة جلقاش وغيرها من ناظمي الملاحم والقصص والأساطير الرائعة
الخالدة.
|