تبحث الدراسة في مقدمات الانسحاب وتوقيتاته ودور المقاومة في العراق وأفغانستان في قرار الانسحاب الأمريكي من العراق، وتبحث في تراجع أهمية العراق في الإستراتيجية الأمريكية وصعود أفغانستان إلى الموقع الأول، وتركز على الفترة التي شهدت انقلابات كبيرة في سياسات المقاومة بالتزامن مع خطة بترايوس في زيادة عدد القوات، وحقيقة دور الخطة في تراجع العنف الطائفي وتقليل خسائر القوات الأمريكية، والأسباب الواقعية التي أدت إلى ذلك، كما تتناول الدراسة المخاوف والتهديدات التي سيتعرض لها العراق بعد إتمام الانسحاب نهاية 2011، وتركز على أهم الأخطار كالحرب الأهلية السنية الشيعية، وتأجيج صراع قومي عربي كردي على خلفية عدم وجود حل للوضع في كركوك والمناطق الأخرى التي يطالب الأكراد بضمها إلى إقليم كردستان العراق، كما تحاول استشراف الدور الإقليمي الإيراني والتركي في عراق ما بعد أمريكا، واحتمالات تقسيم العراق إلى كيانات عدة، وتحاول الدراسة رصد ما أمكن من أشكال الاحتلال الأمريكي الخفي في المجالات الأمنية والاقتصادية وغيرها بعد الغياب الظاهري نهاية عام 2011 وفق ما تم الاتفاق عليه بين الحكومة العراقية وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
خلاصة دراسة: العراق بعد أمريكا.. واقع الانسحاب وصورة المستقبل
الانسحاب الأمريكي المرتقب نهاية 2011 سوف لن يكون أكثر من غياب ظاهري للوجود العسكري في العراق ليس إلاّ، كما إن الانسحاب المفترض سوف لا يعني عودة العراق حرا مستقلا غير منقوص السيادة.
لم يكن في وارد الخطط التي وضعت لاحتلال العراق تركه في أمد قريب، بل احتلاله احتلالا عسكريا مباشرا طويل الأمد، إلا أنّ انبثاق مقاومة مسلحة فور احتلال بغداد وتصاعد قوتها هدَّد القوة العظمى بالهزيمة بالمفهوم العسكري المتعارف عليه على شاكلة ما حدث لقوات الاحتلال الأمريكي في فيتنام.
مرَّت المقاومة في العراق بفترات من القوة التي غلبت على صورتها العامة (مرحلة القوة) بعد عام واحد على انطلاقتها في عام 2003، حتى مرحلة تراجعها بعد منتصف 2007 (مرحلة التراجع)، ثم سكونها (مرحلة السكون) منذ أوائل 2008 حتى نهاية آب 2010، وقد تستمر هذه المرحلة إلى ما بعد نهاية 2011 للخروج من واقع الإقرار الضمني لأغلب فصائل المقاومة الكبيرة بعدم إمكانية هزيمة القوات الأمريكية في فترة بقائها اللاحقة، في ذات الوقت وفي مرحلة (قوة المقاومة) مرَّتْ القوات الأمريكية بأشد مراحل ضعفها ووهنها، وكانت على وشك الإعلان عن هزيمتها رسميا في العراق لولا تداخل عوامل عدة ساهمت في إنقاذها، وارتفعت أصوات كثيرة من داخل الإدارة الأمريكية وخارجها تطالب بالانسحاب الفوري، وبلغت المطالبات حداً طالب فيه الأمريكيون الكونغرس بوقف تمويل الحرب للضغط على إدارة بوش لعودة الجنود الأمريكيين راجلين بدل عودتهم محمولين في صناديق خشبية.
في كانون الثاني 2007 أقرّ الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مقترحا للقادة العسكريين لزيادة عديد القوات (الطفرة)، وهي الخطة التي تبنى الجنرال ديفيد بترايوس تنفيذها وعرفت باسمه، وأرجع إليها الفضل في تحسن الوضع الأمني وخفض حدّة العنف الطائفي وتقليل الخسائر الأمريكية، وهذه الخطة في واقعها لم تكن هي التي أدّت إلى ذلك، بل تزامنها مع تغيير أولويات أعداء المقاومة باعتبار إيران هي العدو الأول مع تحييد القوات الأمريكية لتقوم بضرب اذرع إيران في العراق، مقابل قيام فصائل المقاومة بقتال تنظيم القاعدة، ولم تكن نتائج خطة بترايوس ذات أثر ملموس إلاّ في نهايات عام 2007 وبدايات 2008 حتى منتصفه، حيث يكون قد مضى أكثر من عام على تشكيل الصحوات العشائرية ودور ما لأهم فصائل المقاومة فيها، وبعد أكثر من نصف عام على فتنة الفصائل غرب بغداد في ابوغريب أهم المعاقل الإستراتيجية للمقاومة حول بغداد بين كتائب ثورة العشرين ومن معها من الفصائل والقوات الأمريكية والصحوات العشائرية (صحوة أبو عزام) وبعض القوات الحكومية من جهة، وبين دولة العراق الإسلامية من جهة أخرى، وبعدها بأقل من شهرين في منطقة العامرية في حزيران 2007 وما شهدته تلك الأيام من موجة عنيفة من القتال بين الجيش الإسلامي ومن معه من الفصائل والصحوات والعشائر والأحزاب السنية من جهة أخرى، وبين دولة العراق الإسلامية من جهة أخرى، انتهت بتشكيل صحوة العامرية وتوسيع رقعة نشاطاتها إلى مناطق المقاومة الأخرى، وخروج أتباع دولة العراق الإسلامية من بغداد، ما أفقد أغلب المناطق السنية قوة حماية حقيقية كما افترضها القوات الحكومية والميليشيات التي باشرت هجماتها فورا على المناطق السنية المنزوعة السلاح أصلا، فارتفعت نسبة النازحين من بغداد بسبب التهديد بالموت أو التهجير القسري تحت تهديد السلاح إلى معدلات كبيرة، كما ازدادت أعداد الجثث المجهولة الهوية والاغتيالات والاعتقالات بشكل غير مسبوق.
من الناحية الإستراتيجية تعتبر المطالبة بجدولة الانسحاب تراجع حقيقي في جوهر مشروع المقاومة وإستراتيجيتها التي لم تتحقق دون هزيمة العدو ومشروعه معاً عسكريا وسياسيا، فالكثير من فصائل المقاومة وبالذات الإسلامية منها، حقيقة لم تكن تريد انسحابا عاجلا لقوات الاحتلال بكامل قوتها وعناصر هيمنتها، كما إن تلك الفصائل لا ترى في إنهاء الاحتلال هدفا كبيرا أو غاية عظمى، بل أنّها كانت ترى ضرورة إيقاف عجلة تقدم المشروع الأمريكي آنيا كمقدمة لهزيمته عسكريا وقد نجحت فيه تماما، ومن ثمّ هزيمته سياسيا وهو الهدف الأهم، وهو ما لم تنجح فيه.
إن استجابة قوات الاحتلال لجدولة الانسحاب ليس نصرا كما تتوهم بعض القوى الوطنية المسلحة أو غير المسلحة، فالانسحاب المسؤول أو المنظم أو المجدول يعدُّ إفلاتاًً من الهزيمة العسكرية والسياسية لمشروع الاحتلال، ويمنحها الفرصة لترتيب أوضاعه في كل مرحلة من المراحل على حدة، والاستعداد للمرحلة المجدولة اللاحقة، وهكذا حتى تمام الانسحاب مع تأمين كامل المصالح، كما أن خروج جنود الاحتلال وإخلاء آلياته يفقد المقاومة ورقة الضغط الرئيسية، التي تمتلكها لاستنزافه بشريا وماليا أو إقراره عيانا بالهزيمة العسكرية لتحقيق المصالح والغايات التي قاتلت من أجلها المقاومة، وقد فقدتها المقاومة فعلا.
عمدت الإدارة الأمريكية إلى الإعلان عن توقيت الانسحاب الأمريكي في ظروف غير مؤاتية للمقاومة في العراق، ورغم أن الانسحاب الأمريكي كان انسحابا وفق توقيتات زمنية معلنة بالاتفاق الثنائي مع الحكومة العراقية دون ضمانات دولية، ورغم انه كان انسحابا آمنا لم تتعرض أرتال القوات المغادرة لأية عمليات مسلحة تعرقل انسحابه أو تلحق به خسائر كبيرة، ورغم انه لم يتم بالاتفاق بين فصائل المقاومة وبين الولايات المتحدة التي اعترفت بالمقاومة، رغم كل هذا وذاك، ترى فصائل المقاومة في العراق، أن الانسحاب يعد انتصارا تحقق بفعل ضربات المجاهدين الموجعة، ومع واقع تراجع عمليات المقاومة، فانه قد يفهم بتكتيك من فصائل المقاومة في العراق فقط من تلك التي يغلب عليها الطابع الإسلامي السني السلفي من التي لم تلقِ السلاح، وغير منخرطة في الصحوات أو العملية السياسية أو المصالحة الحكومية أو المفاوضات مع الولايات المتحدة، بعد أن تولد لديها إقرار ضمني منذ نهايات 2007 بصعوبة هزيمة القوات الأمريكية لظروف موضوعية، حيث وجدت نفسها بين مطرقة الصحوات وسندان الرفض الشعبي لها أسوة بتنظيم القاعدة الفرع الرئيسي في دولة العراق الإسلامية، بعد اقتتال الفصائل الذي ساهم في تراجع عملها إلى الحد الذي لم يعد مؤثرا على قوات الاحتلال، لذا بات الركون إلى التهدئة الاختيارية خير من العمل المسلح الذي قد يؤدي إلى نهايتها تماما، وهي تعي أن الخطر الأمريكي ليس الخطر الوحيد، وان مشروعها لن ينتهي مع خروج قوات الاحتلال.
تراجَعَ اهتمام الولايات المتحدة صاحبة القرار الأول بترتيب الأوضاع في العراق إلى حد بعيد في عهد إدارة الرئيس اُوباما، حيث ركّزت الإستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة على الخطر المفترض في مناطق وسط آسيا على الشريط الحدودي بين أفغانستان معقل التوأمين طالبان وتنظيم القاعدة، وبين باكستان النووية خشية وصول الإسلاميين (المتطرفين) إلى أزرار القنبلة النووية الباكستانية، فيما خفَّضت عديد قواتها في العراق نهاية آب 2010، وتبنت سياسة الدبلوماسية في العراق كسياسة مغايرة للسياسة التي اعتمدتها إدارة جورج بوش بالحرب الكونية على الإرهاب (الإسلام).
الرئيس الأمريكي باراك اُوباما لا يعتبر الحرب في العراق وأفغانستان حربا ضد الإرهاب أو الفاشية الإسلامية كما كان يصفها سلفه جورج بوش، بل تحدٍ إستراتيجي، وهذا التحدي كما نراه نحن المسلمون، يقف في مواجهة عقيدة دينية يؤمن بها أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين تهدد الغرب والولايات المتحدة بانتشار الإسلام على المدى البعيد، كما أن أعداد الذين باتوا يكنون الكراهية للغرب والولايات المتحدة من المسلمين بدأت تزداد يوما بعد آخر بسبب السياسات الظالمة ضد العرب والمسلمين، رغم ما تبذله الولايات المتحدة والحكومات العربية والإسلامية الحليفة لها من جهود فكرية مكثّفة لكسب القلوب والعقول، ومن جهود أمنية حثيثة في إطار التعاون للقضاء على النزعات الجديدة لدى الحركات الإسلامية التي يقودها تنظيم القاعدة لا مركزيا حول العالم في أفغانستان والعراق والصومال واليمن وموريتانيا وغيرها ضد الولايات المتحدة والغرب، وهي حرب قد لا يشهد العالم نهاية لها في المدى المنظور بسبب تعدد دوافع الحرب وتجدد رافعاتها وتبدل صورها لدى طرفي الصراع على حد سواء، وهذا هو بحق تحدٍ إستراتيجي لطرفي الصراع، وليس للطرف الأمريكي وحده، وهو على خلاف التحدي الإيديولوجي السابق إبان الحرب الباردة.
ربط قادة الولايات المتحدة بصورة مستمرة بين ضرورة تسريع الانسحاب من العراق، وبين حاجتهم للمزيد من القوات في الجبهة المركزية للحرب على الإرهاب في باكستان وأفغانستان، فعلى العكس من العراق الذي لم يسبق له تهديد الأمن القومي الأمريكي بشكل عملي أو مباشر، والذي لم يكن يوما بلدا يتبنى فكرا أو نهجا إسلاميا متشددا متطرفا أو إرهابيا، فان تنظيم القاعدة بزعامة الشيخ أسامة بن لادن اتخذ قادته وأغلب قواعده من أفغانستان طالبان مأوىً لهم ومنطلقاً لإدارة الصراع الكوني مع الولايات المتحدة قبل وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، لذا وعلى العكس من العراق، فإن الهزيمة في أفغانستان غير مسموح بها أمريكيا تحت أي ظرف كان، ومهما بلغت الأكلاف المادية والبشرية، لاختلاف الأسباب والدوافع التي قادت الولايات المتحدة لاتخاذ قراري غزو أفغانستان والعراق، والتباين في أهمية المشروعين الأمريكيين في أفغانستان والعراق وأهدافهما، والأهم تداعيات فشلهما على الأمن القومي الأمريكي، والخشية الأمريكية من أن تكون أفغانستان ملاذا ومنطلقا للحركات الجهادية الإسلامية أو الإرهاب حسب التوصيف الأمريكي.
تناور الولايات المتحدة المأزومة في أفغانستان بالربط بين تقديرات القادة الميدانيين الأمريكيين للأحوال على الأرض في العراق وبين حاجتهم لمزيد من القوات في أفغانستان، مع عدم إغفال أهمية تدريب القوات العراقية للحيلولة دون سقوط العراق بيد الحركات الجهادية الإسلامية، فالانسحاب الأمريكي الظاهري أو الإعلان عن انتهاء المهام القتالية الأمريكية في العراق يهدف إلى عدم إعطاء المزيد من الذرائع للقوى الجهادية لتجنيد أعداد جديدة في إطار الصراع العالمي بينهما، بما يتيح للولايات المتحدة الانتقال من المواقع الدفاعية على أراضيها إلى المواقع الهجومية في ساحات أخرى ستجد القوى الجهادية نفسها مرغمة على التواجد فيها بعد غياب مبررات وجودها في العراق من قبل أغلب العراقيين، وفي مقدمتهم القوى التي ناهضت مشروع الاحتلال بوسائل أخرى، أو تلك ساهمت في المقاومة المسلحة والتي خاضت معها قتالا عنيفا إلى جانب القوات الأمريكية.
(الانسحاب مع البقاء)، قد تكون هذه العبارة هي الوصف الأقرب إلى الواقع لحقيقة وضع القوات الأمريكية بعد سحب جميع القوات الأمريكية من العراق نهاية 2011، وتعمل الولايات المتحدة على الإبقاء على تواجد أمني يكفل الاستقرار اللازم لاستمرار العملية السياسية، والحفاظ عليها من خلال بناء قوات أمن عراقية على أسس العقيدة العسكرية الأمريكية، قادرة على أن تكون طرفا مؤهلا في الحرب على الإرهاب للقتال بالنيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تريد أن تكون في المقدمة، كما هو حالها في أفغانستان بعد تراجع قوات الناتو هناك إلى المواقع الخلفية.
ستعمل الولايات المتحدة على (ضمان حق المرور الدائم) عبر الأراضي والأجواء العراقية لأغراض الحرب على الإرهاب (الإسلام) من خلال الاحتفاظ بقواعد عسكرية دائمية في مناطق تغطي جغرافية المناطق الحساسة من العراق والتواجد بالقرب من حدود دول الجوار العربي والإقليمي، كما انه سيتخفى بأشكال أخرى محتملة بعد انسحابه النهائي المفترض نهاية 2011، ومنها، احتلال اقتصادي ظاهر وخفي على شكل استثمارات لمئات الشركات الأمريكية العملاقة، واحتلال مدني تمثله فرق إعادة إعمار العراق وتوابعها وعدة مئات أو آلاف العاملين في سفارة الولايات المتحدة في بغداد، إضافة إلى القنصليتين الأمريكيتين في البصرة وأربيل، واحتمالات فتح قنصليات أخرى في الموصل وبالقرب من كركوك، والحاجة لحمايتها من قبل المتعاقدين الأمنيين الذين يتوقع أنْ تزداد الحاجة إلى المزيد منهم كقوات تعويضية بديلة عن القوات المنسحبة، كما سيكون هناك وجود مدني واسع يشمل جغرافية العراق على أشكال متعددة في مجالات العمل الخيري، ومنظمات المجتمع المدني تمارس فيه الولايات المتحدة أدوارا مزدوجة خيرية ظاهرة للناس وعدائية مخفية عنهم، وقد يتستر البعض منهم بجمعيات (إنسانية) أو مؤسسات إعلامية أو غيرها، وسيتقنع أحيانا بوجوه عراقية أو عربية.
إن وجود أعداد كبيرة من المتعاقدين الأمنيين سيحلون محل القوات الأمريكية المنسحبة يقيمون في قواعد عمل ثابتة، تثير الخشية من تحولها إلى شكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني، ومع احتمالات عدم الاستقرار الأمني لأمد بعيد، فإن هذه الشركات الربحية لابد لها أن تستعين بموظفين فنيين أو عاديين بالتعاون مع شركات استجلاب المتعاقدين الأمنيين، ومع الخروج الأمريكي فان هؤلاء سيكونون بمثابة عصابات منظمة ستأخذ على عاتقها مهمة الوريث المؤتمن مقابل ثمن على مصالح الأمريكي الذي يريد البقاء بعيدا عن مصادر الخطر المباشر، والحلول البديل كوكلاء عنهم في تلك المجالات الربحية والأمنية، وهذا التداخل سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار الأمني، مع تشكل علاقات متداخلة مع العراقيين في جوانب اقتصادية تعمقها مصالح ليس من اليسير تفكيكها أو إرغامهم على التنازل عنها، مما يدفع باتجاه التمسك بها وتطويرها، بل والقتال دفاعا عنها مع عدم وجود قوات عراقية تضاهي قوتهم وتسليحهم المتطور قياسا إلى تسليح القوات العراقية، التي لم تكن إلا بحدود ما تراه الولايات المتحدة تسليحا يفي بحاجتها في الحرب على الإرهاب، أو إمكانية تهديد آخرين من حلفائها على المدى البعيد فيما لو سيطرت على العراق قوى مناهضة للسياسات الأمريكية في المنطقة ومعادية لإسرائيل، وتشكيل جيش عراقي متدني القوة يعكس في حقيقته رغبات إيرانية وخليجية وإسرائيلية، بل رغبة كردية عراقية في المقام الأول.
الحكومة الحالية وما سبقتها والتي ستأتي وما بعدها في ظل الاحتلال الأمريكي المباشر أو غير المباشر، لن تكون حكومة شراكة عادلة لقيامها على أسس غير سليمة واعتمدت دستورا لا يعكس واقع التنوع في العراق، بل ستكون حكومات طائفية وعرقية مهما تعددت المسميات وتبدلت الأقنعة، ومع هذا فان احتمالات الاقتتال الداخلي ليست مستبعدة بعد الانسحاب المرتقب، كالاقتتال الحكومي مع المليشيات والمجاميع الخاصة بعد حدوث انقسام متوقع في القوات العراقية التي تسيطر عليها الأحزاب الشيعية الحاكمة، حيث تعدد الولاءات لدى أفراد تلك القوات، كما يتوقع تفجر الاقتتال الأهلي السني الشيعي طالما ظلت الهيمنة الشيعية للأحزاب الحاكمة على الأمن والسيادة والثروات، وطالما أن خطر جيش المهدي قائما وسيبقى، وهو الجيش الذي لعب دورا موصوفا بعد أحداث سامراء بقتل السُنّة في بغداد وتهجيرهم منها وتغييبهم وحرق مساجدهم واستباحة مناطقهم، قبل أن يتَمّ تجميد نشاطاته بأمر معلن من السيد مقتدى الصدر، وقد تجنب جيش المهدي حفاظا على وجوده الدخول في مواجهة شاملة مع القوات الأمريكية والحكومية يكون هو الخاسر فيها حتماً، كما إنَّ الحكومة العراقية ذاتها لم تكن راغبة في القضاء على ميليشيات جيش المهدي والدخول معه في مواجهات شاملة، وهو بانتظار تهيئة الظروف الملائمة له لإحكام القبضة على بغداد، بعد تطور أهدافه إلى تصفية العرب السُنّة أو تهجيرهم بعد أحداث سامراء.
الطرف الآخر من الصراع المفترض، وهم فصائل المقاومة والعرب السنة، على ما يبدو هم الطرف الضعيف بعد تهجير مئات الآلاف من شبابهم، ثم الدخول في حلقة أخرى من حلقات الضعف بعد فتنتي أبو غريب والعامرية وقبول بعض الفصائل بتشكيل الصحوات أو السكوت عنها والدخول في العملية السياسية، ومع التحسن الأمني وعودة نسبة غير محسوبة من المهجرين، فإن مَنْ عاد منهم من الشباب لم يتم تنظيمهم بسبب غياب قيادات المقاومة والمجتمع عن الميدان لفترة طويلة.
احتمالات الاقتتال الأهلي السني الشيعي بعد الخروج العسكري النهائي احتمال قائم، إلا أن الاحتمال الأقرب زمنيا هو الصراع القومي العربي الكردي، فالطموحات الكردية إستراتيجياً، تتعدى الحدود الجغرافية للدولة العراقية الحالية إلى دولة كردستان الكبرى التي تضم إضافة إلى إقليم كردستان العراق أجزاءً من تركيا وإيران وسوريا وأذربيجان وأرمينيا.
أدركَ القادة الأكراد، بأنّ احتلال العراق من قبل الأصدقاء الأمريكان وفَّر لهم فرصةً تاريخيةً لمْ تتُح لهم عبر التاريخ وقد لا تتكرر، وان عليهم استثمار ما أمكَنَ من نفوذٍ في السلطة وتحالف مع الأمريكان يسهل لهم تنفيذ غاياتهم في الاستقلال الكامل بعد ضم مدينة كركوك الغنية، وبعد الاحتلال الأمريكي في عام 2003 مباشرة، بسط القادة الأكراد نفوذهم على أهم مفاصل الدولة العراقية مستغلين غياب دور العرب السنَّة، وتحالفهم العميق مع الإدارة الأمريكية من جهة والأحزاب الشيعية من جهة أخرى، وبالأخص المجلس الإسلامي الأعلى الذي يحمل هو الآخر مشروعاً فيدرالياً، ويتبنى الطرفان سياسة الدعم المتبادل التي ترتكز على عدّةِ خطواتٍ تفرَّدت بها القيادات الكردية الأكثر حماساً من دعاة فيدرالية الوسط والجنوب الممسكين بالسلطة في العراق بشكل كامل.
بعد حرب الخليج الثانية مباشرة بدأت القوى الكردية تدعِّم أركان تأسيس دولة مستقلة، لكنّ الظروف الدولية والإقليمية أجّلت زمنياً تحقيق الانفصال المنشود، وهم يسعون بهذا الاتجاه منتظرين تغيرات غير متوقعة في الواقع الجيوسياسي للمنطقة، أو عبر فرض وقائع على الأرض تؤسس لهدفهم كبناء مؤسسات دستورية وتشكيل جيش شبه نظامي (قوات البيشمركة)، ورفضهم رفع علم جمهورية العراق الرسمي وما إلى ذلك.
مثّل الوجود الأمريكي في العراق صمام أمان للأكراد من الأخطار التي تشكل تهديدا لمستقبلهم ووجودهم ومكاسبهم المتحققة قبل وبعد الاحتلال، فالأكراد محاطون بجغرافية محلية (المناطق ذات الأغلبية العربية في العراق) ودولية (تركيا سوريا إيران) رافضة لطموحاتهم وعززت سياسات القادة الأكراد مشاعر الكراهية تجاههم، كما أن النسيج الاجتماعي للأكراد تحكمه الأعراف العشائرية، وهو ليس بالدرجة المرضية من التماسك.
إن علاقة الولايات المتحدة بالشأن الكردي العراقي تحكمها ضرورات التوازن بين تحالفها العميق مع الأتراك في إطار حلف الناتو، وضرورة الإبقاء على علاقات متينة مع الأكراد في العراق لضرورات أمنية وسياسية واقتصادية تتطلبها مصالحهم في العراق ووجودهم الدائم متعدد الأشكال، والحرص على دور إسرائيلي في العراق من بوابة إقليم كردستان لخدمة الأهداف الإسرائيلية في إقامة دولة كردية مستقلة، وما تفرضه أهمية أمن إقليم كردستان الذي كان يوما ما معقلا آمنا لجماعة أنصار الإسلام المدرجة على القائمة الأمريكية للإرهاب، كما تظل الحاجة الأمريكية للأكراد ملحّة في حربها ضد الإرهاب حتى وان اتخذ التنسيق والتعاون بينهما أشكالا مختلفة بعد الانسحاب، وصولا إلى تأمين عراق خال من تنظيم القاعدة والحركات المرتبطة به أو القريبة منه في المنهج.
يحاول الأكراد الإبقاء على وجود أمريكي دائمي في العراق أو في الإقليم، إذ أن الانسحاب الأمريكي سينظر إليه الأكراد بمثابة النقطة التي ستبدأ بعدها انبثاق التهديدات الكامنة المباشرة، أو التهديدات الداخلية والخارجية غير المباشرة على مستقبلهم وقوتهم المتمثلة بقوات البيشمركة التي يريدون تحويلها إلى جيش كردي، إلا أن الولايات المتحدة لن تسمح بوجوده لاعتبارات تتعلق بالتحالف العسكري مع تركيا وما يمثله وجود جيش كردي على حدودها الجنوبية من تهديد مباشر على الأمن القومي التركي، واحتمالات التحامه على أساس المشترك القومي مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني المصنف أمريكيا على قائمة الإرهاب، والذي يخوض صراعا داميا منذ عقود مع القوات التركية كحركة انفصالية يدعمها أكراد العراق.
إن الغرور الكردي قد يؤدي إلى نهاية أحلامهم بعد تماديهم في المضي سريعاً باتجاه تحقيق ما يرونها طموحاتهم المشروعة في إقامة دولة كردستان الكبرى بدءا من دولة كردية مستقلة عن العراق، متجاهلين رغبة الأكثرية العربية في المنطقة، ومتناسين حقائق التاريخ والجغرافيا والواقع الإقليمي والدولي الذي تحكمه موازين السياسة العالمية الجديدة التي لا مكان فيها للكيانات الضعيفة، وتجاهلهم قيم تلك السياسات التي تعمل على تكريس أسس جديدة ومعايير تعتمد احترام القوي واستخذاء الضعفاء المنفردين خارج إطار التكتلات السياسية والاقتصادية القائمة إقليمياً أو دولياً.
لمْ تَتبنَ الولايات المتحدة موقفاً معلناً وواضحاً من قضية كركوك حتى أواخر عام 2006 وربيع عام 2007 لانشغالها حينذاك بمواجهة عمليات المقاومة في مناطق وسط وغرب وشمال غرب العراق، وبدا أنهم (أي قادة قوات الاحتلال) كانوا يبحثون عن علاجات مؤقتة تتسم بالتهدئة على الأرض، ومراقبة تطورات الموقف في كركوك، والاكتفاء برسم الخطوط العريضة للسياسيين العراقيين حول القضايا الخلافية، وهو أمر يعفيها من مهام عسكرية إضافية فيما لو تطورت الأمور باتجاه اقتتال عربي كردي متوقع، أو تركماني كردي أو تركماني عربي مع الأكراد فيما لو اتخذت القيادات الكردية موقفاً رسمياً وعملياً باتجاه ضم مدينة كركوك، لذلك اعتمدت الولايات المتحدة سياسة المراقبة والتحكم بمجريات الحدث وتطوراته عن بعد، أو الاكتفاء بالصمت والعمل بالخفاء طالما ظلَّت الأوضاع على الأرض تحت السيطرة، وهو الهدف الأهم بالنسبة للولايات المتحدة الباحثة عن الاستقرار الأمني وسلامة جنودها بأي شكل كان في تلك المرحلة الحرجة.
كثيرة هي الصراعات المحتملة بين المكونات العراقية بعد الانسحاب الرسمي للقوات الأمريكية من العراق، إلا أن الصراع العربي الكردي يتوقع أن يكون الأكثر دموية وتأثيرا على الأمن والاستقرار في العراق ودول الجوار العربي والإقليمي وعموم المنطقة، وتوقيت الصراع لا يعفي الولايات المتحدة من مسؤوليتها الاعتبارية، إلا أنها لن تسمح بنشوبه مع وجودها القوي المؤثر تجنبا للمزيد من الانتقادات التي ستوجه إليها من الداخل الأمريكي والخارج بعد أن تراجعت مستويات العنف بكل أشكاله إلى أدنى مستوياتها.
ينزع الأكراد لانتزاع المكاسب والتقرب إلى أهدافهم عبر الأساليب السياسية أكثر من العسكرية لأسباب تتعلق بتاريخ نزاعاتهم المسلحة مع الحكومات السابقة، إلا أن العدول الكردي عن ذلك الخيار الإستراتيجي واللجوء إلى القوة احتمال قائم تحسمه تصرفات الحكومة الشيعية وتوافقها مع مطالبهم من عدمه، فالحكم التسلطي ضد العرب السنة أو الأكراد يمكن أن يؤدي إلى تغليب خيار القوة على خيار السياسة، لأن لجوء الأكراد والسنة للسياسة بدل القوة، يعد خيارا إستراتيجيا بالنسبة لكليهما للحصول على شيء دون تضحيات بشرية، مع الفارق في أسباب ودوافع اللجوء إلى هذا الخيار، وكذلك الفارق في أسباب ومبررات العدول عنه، فالتخلي العربي السني والكردي عن منطق القوة لتحصيل المكاسب ساعد على تحقيق الأمن والاستقرار، لأسباب تتعلق بامتلاك المكونات العراقية الثلاث لجماعات مسلحة تختلف في طبيعة توجهاتها وقوتها وتسليحها وإمكانيات تحركها على الأرض، إلا أن السياسات الكردية تعتمد سياسات مختلفة ساعة ترى أجواءا ملائمة لا تعرض مستقبل طموحاتهم وتحالفاتهم الإستراتيجية ووجودهم للخطر، غير إن قيام القوات الأمريكية ببناء قوة أمنية قوية على شكل سلطة استبدادية خاضعة لهيمنة الشيعة قادرة على إخضاع السنة والأكراد معا، سيصاعد من حدة استمرار التنافس السياسي بينهم وبين السنة والأكراد.
تزايد التوتر العربي الكردي بعد الانسحاب الأمريكي من العراق قد يخلق تقاربا عربيا سنيا شيعيا تتصاعد قوته مع زيادة التوتر العربي الكردي، فيما لو حاول الطرف العربي الضغط باتجاه التقليل من الامتيازات التي تتمتع بها حكومة إقليم كردستان، كما تتصاعد حدته في حال حاول الأكراد عمليا السيطرة على كركوك ونفطها، إلا إن عوامل متداخلة قد تُلجئ العرب السنة إلى تبني خيارات أخرى، منها خيار التحالف مع القوى الكردية، وهو الأقل توقعا، وهو خيار ينطلق من منطلق الخطر الذي يهدد وجود ومستقبل العرب السُنّة الذين يربطهم بالأكراد المشترك المذهبي، وضمان الإبقاء على علاقات طيبة مع الطرف الكردي، يشجع الأكراد على تغليب المذهبي على القومي ووقوفهم إلى جانب السنة تحسبا لاحتمالات حدوث اقتتال سني شيعي مستقبلا.
كذلك ثمّة خيار يتعلق باصطفاف العرب السنة إلى الجانب الحكومي ضد الأكراد، وهو الخيار الأقوى، والذي يُفسَر وقوفا إلى جانب وحدة العراق وليس إلى جانب الحكومة، ووقوفا إلى جانب العشائر العربية في مناطق الصراع ذات الامتدادات المتداخلة معهم، إلا أن البعض قد يقف في وجه هذه الخيارات على اعتبار أنَّ الصراع سيكون في جغرافية العرب السُنّة، وسيكون هؤلاء هم وقودها وهم حطامها، وستورث العداوة والبغضاء مع جيرانهم من الأكراد السُنّة لعقود أو قرون، مع افتراض نجاح المشروع الأمريكي في تقسيم العراق، وهو احتمال وارد جدا بعد نهاية 2011.
إن خيار العرب السنة بالتوحد الشعبي مع عموم العرب الشيعة خارج الإطار الحكومي على أساس قومي، هو خيار ضعيف، إلا أنّه سيكون قويا إذا تمكن السنة والشيعة من تناسي الاقتتال الدامي طيلة عامي 2006 و2007، وتغليب الرابط الوطني كعراقيين والرابط القومي كعرب على الرابط الطائفي الديني، أما الأطراف الشيعية السياسية التي تتشكل منها الحكومة بالدرجة الأساس، وهذه خارج الإطار الشيعي الشعبي العام الرافض للقتال العربي الكردي، فأنها قد تقف إلى جانب الحكومة لأسباب تتعلق بالحفاظ على المكتسبات السياسية التي حققتها الطائفة بعد الاحتلال في المجالات السياسية، واستمرار الهيمنة على الأجهزة الأمنية والقوات الحكومية الأخرى، والمكاسب الاقتصادية وغيرها، غير إن الاضطرابات المحتملة ستكون في جغرافية غير مجاورة للجغرافية الشيعية، وهو ما يمكن النظر إليه من زاويتين اثنتين، الأولى الأخذ بنظر الاعتبار مصالح الشيعة العرب والشيعة التركمان من أتباع التيار الصدري الذين يقطنون المناطق المتنازع عليها في محافظات نينوى والتأميم وديالى، وهؤلاء يقفون بالضد من الطموحات الكردية هناك، وما يتطلبه من موقف حكومي إلى جانبهم، خاصة إذا أصبح للتيار الصدري وجود فاعل ومؤثر في قرار الحكومات المقبلة، ومن الزاوية الثانية فإن ساحة الصراع الجغرافية وما يلحقها من ضرر سوف لن يكون له تأثير سلبي مباشر على عموم الشيعة في وسط وجنوب العراق، إذ يمكن تغليب مصالح عموم الشيعة على مصالح القلة في مناطق الصراع، مما يدفع باتجاه الزج بالقوات الحكومية في أتون الصراع لتحقيق الحفاظ على ثروات كركوك وإبقائها تحت تصرف الحكومة الشيعية، وعدم التقاطع مع المصلحة الإيرانية ذات التأثير المباشر على السياسات العراقية، إن لم تكن هي التي ترسمها مستقبلا، وهي التي ترفض رفضا قاطعا حسم الصراع على كركوك لصالح الأكراد وإقامة دولتهم المستقلة في العراق، والتي ترى إيران فيها تهديدا للأمن القومي الإيراني من خلال التحالف المستقبلي على أسس القومية المشتركة بين الدولة الوليدة وأكراد إيران المهمشين والذين يقودون حركة معارضة مسلحة من داخل الأراضي العراقية في إقليم كردستان العراق، ويبقى أخيرا خيار توحد القوى المناهضة للاحتلال السنية والشيعية للتحرك الشعبي الميداني والانتفاض على الواقع المرفوض من كليهما، وفرض وقائع جديدة تطيح بالعملية السياسية القائمة، وهو ما لا تسمح به الولايات المتحدة إلا في حالة اتخاذ التحرك طابعا شعبيا على شكل انتفاضة شعبية عفوية أو منظمة تحاول الولايات المتحدة اختراقها وتوجيهها دون مواجهته بالقوة المسلحة، إذ لا تجد الولايات المتحدة مصلحة في قمعها بالقوة المسلحة لاعتبارات كثيرة.
إنّ عدم وجود حكومة عراقية قوية في بغداد قادرة على أنْ تمارس ضغوطاً على القيادات الكردية للكف عن سياساتها المؤذية للشعب العراقي، ومع تزايد احتمالات اندلاع اقتتال عرقي عربي كردي قد يمتد إلى جوار العراق شمالاً أو شرقاً أو غرباً، كل ذلك خلق لدى عموم العراقيين شكلاً من القلق المشروع على مستقبل بلدهم ووحدته أرضاً وشعباً، وعلى مستقبل التعايش الأهلي في المدى المنظور والبعيد، فالمسؤوليات الملقاة على عاتق الحكومة العراقية تتطلب اتخاذ خطوات جريئة وحازمة تنطلق من إيمانها المفترض بعراقيتها أولاً وأخيراً، وليس من منظور عرقي لدى البعض أو طائفي لدى البعض الآخر، وهذا لنْ يتأتى إلاّ من خلال تبني خطوات تسهم في إعادة بناء الثقة بين العراقيين جميعا انطلاقاً من الإيمان، بأنّ وحدة العراقيين هي الضامن الوحيد لوحدة أرض العراق وخلاصه من مشاريع التقسيم والتفتيت، والإيمان كذلك بأنَّ الرهان على عموم الشعب العراقي هو مصدر القوة الوحيد وليس الإستقواء بالعرق أو الطائفة أو الدول الأجنبية أو استجداء مساعدة غير عراقية لحل مشاكل عراقية.
السياسة الجديدة للولايات المتحدة تفرض على (العراقيين) في السلطة الاعتماد على أنفسهم في حلّ مشاكلهم الخلافية بالتفاهم فيما بينهم، باستثناء ما له علاقة بالمصالح الحيوية للولايات المتحدة والترتيبات ذات الأثر على مستقبل العراق، مثل كركوك، وعدم السماح بأي شكل كان أن يتحول العراق إلى ملاذ آمن للحركات الجهادية، ومتطلبات أمن إسرائيل ووجودها على المدى البعيد، وعدم انزلاق العراق إلى حرب أهلية شاملة في ظل الوجود الأمريكي، ومن ثم (الخروج النهائي) من العراق وهو مستقر أمنيا إلى حد ما، وغير هذا من الالتزامات التي يفرضها المجتمع الدولي على الولايات المتحدة كقوة احتلال، وعدم المساس بالإنموذج الأمريكي للعملية السياسية ونظام الحكم، ووحدة الأراضي العراقية ككيان واحد لغاية نهاية عام 2011 الموعد المفترض للانسحاب النهائي من العراق، مما يعني أن مخطط تقسيم العراق لو أريد له أن يتحقق، فانه سوف لن يبدأ تحقيقه عمليا على الأرض قبل بداية عام 2012.
مؤكد أن الأمريكيين جادون بانسحابهم من العراق، لكنه انسحاب دون ترك العراق، أي (الانسحاب مع البقاء)، ويتحدث قادة الولايات المتحدة صراحة عن دعم الحكومة العراقية لتطوير القدرات الأمنية العراقية لتكون رأس حربتها في كفاحها ضد الإرهاب في العراق، بديلا عن جنودها الذين تزداد الحاجة إليهم في أفغانستان، وهو تهرب متعمد من المسؤولية تجاه ما وصلت إليه الأوضاع في العراق نتيجة وجود الاحتلال والسياسات الفاشلة للحكومات العراقية التي جاءت بها الولايات المتحدة، وهو شكل من الحكومات تعمدت الولايات المتحدة في صناعتها على شكل حكومات لم تبلغ الحلم، وتبقى بحاجة إلى الوصاية والاستقواء بالآخر، مما يوحي باحتمالات ورود طلب حكومي مستقبلا لإبقاء القوات الأمريكية بعد الموعد المحدد لسحبها نهاية العام 2011، أو طلب عودة بعض القوات الأمريكية ثانية إلى العراق، فيما لو تم تسوية الأوضاع في أفغانستان بشكل يحقق الأهداف الأمريكية من احتلالها أفغانستان.
* العنوان الأصلي: العراق بعد أمريكا.. واقع الانسحاب.. وصورة المستقبل
الإعداد: رائد الحامد
جـهة الإصدار: مركز بغداد للدراسات والاستشارات وهو مركز بحثي الكتروني غير ممول يمارس نشاطا مجانيا إسهاما في الجهد المقاوم
تاريـخ الإصدار: الأول من تشرين الثاني 2010
عـدد الصفحات: 100 صفحة
|