صبري ، كان طويلاً ، وربما طويل أكثر من حاجة لحظة الوقوف أمام التاريخ ، ومستقبل الوطن ، ربما كثيرون غيري فعلوا الشيء ذاته .
قد يكون الألم الجسدي من جانب ، والألم النفسي – الأسوأ – من جانب آخر ، ساهم إلى حد بعيد في اتخاذي لموقف القراءة المتأنية ، وإعمال العقل ، والبحث والتدقيق ، وأعتقد أنني معتدل في كل رأي وكل قراءة ، وربما لا أكون كذلك .
لا أنكر أبداً أنني كنت من معجبي محطة الجزيرة الفضائية ، بوثائقها ، بما كنت أعتقده جرأة في الطرح وصدق في القول ، بسعة اطلاعها ، بثقافة كوادرها ، وكنت من المساهمين إلى حد ما في التواصل معها .
أكثر من شهرين من المتابعة ، بعد بداية أحداث الشام ، وأنا أتفاجأ في كل يوم بما هو مذهل ، ومثير للعجب ، وإذ لا أدخل في التفاصيل ، أكتفي بالقول أن كل ما تم وصفه بالفبركة الإعلامية ، والإثارة والتحريض ، فيه الكثير من الصحة والدقة ، وكان غريبا أن تتجه هذه المحطة للاعتماد على مصادر لم ، ولن تتمتع في يوم من الأيام بالمصداقية ، لأن الإعلام بحد ذاته ، وطبقا لميثاق شرف الجزيرة إياها ، يجب أن يكون محايداً ، وعلى نفس القاعدة التي اعتمدتها المحطة : عرض الرأي والرأي الآخر ، وهذا كان مفقود منذ البداية .
بما أنني لا أنتمي إلى الإعلام الرسمي بأي شكل من الأشكال ، ومحلل سوري محايد أتابع الأنشطة والسياسات الصهيو – امريكية في العالم ، فعل الزمن فيه ما فعل متجاوزاً منتصف العقد السابع ، أقول بمنتهى الحيادية أن محطة الجزيرة ، أكثر من غيرها ، حتى المحطات المعادية ، جعلت من نفسها طرفاً أساسياً في المؤامرة على الشام الصامدة ، وبسبب من انتمائي وانحيازي إلى سوريتي ، وتأييدي لموقف القيادة الوطني والقومي ، يمكن لي – بل من حقي – إطلاق الحكم القاطع بوفاة المصداقية ، والمهنية الإعلامية لهذه المحطة التي كانت إلى حين ، موضع احترام ، كما يمكنني القول أن دماء الخجل في وجه المحطة قد غارت حتى الجفاف ، وانقلب عناصرها : كريشان ، وريان ، عبد القادر ، الزبير ، إيمان ، وغيرهم إلى مجرد ببغاوات تنطق بما يملى عليها ، وقد تكفل الدولار بإجازة طويلة لضميرهم المهني ، وهذه خسارة لا يمكن تعويضها حتى بمرور الزمن ، وإذا كانت الجزيرة تعكس آراء قادة الدولة الصغيرة – قطر – الطامحون إلى انتفاخ لا يتناسب وأحجامهم الحقيقية – فإن عملية تسارع التقزم والانهيار لهذه المحطة ما عاد مجدياً محاولة وقفه أبداً ، ويبدو أن الجهود المضنية والمؤتمرات والدراسات التي تصدت لها لزمن طويل ، تبعثرها اليوم رياح التضليل والكذب وانعدام المصداقية المهنية .
إن أي محطة إعلام عالمية تتعرض للصفعات التي تتعرض لها الجزيرة – اليوم – لا يمكن لها الاستمرار ، وكسب المزيد من العقول ، بل تسجيل خسارة متسارعة ، أما وأن الصفعات لا تؤثر ، وكشف الشهداء الأحياء ، وشهود العيان غير الموجودين ، وخروجهم إلى العلن على محطات أخرى لتكذيبها ، لهو أمر يبعث على الحيرة ، وبدا جلياً كيف أن بعض المحطات الأوروبية – المعدودة في خانة العداء لسوريا – الموقف القومي والوطني – قد سارعت إلى الاعتذار من منطلق احترامها لنفسها ، ولجمهورها ، ومشاهديها عبر العالم ، الأهم التزامها بالمهنية ، وهذا ما لم تفعله الجزيرة ، وربما لن تفعله أبداً . . وكانت الصفعة الأخيرة الشهيد الحي أحمد بياسه وموته على يد اللواء علي مملوك ، وكأن لا عمل لهذا الضابط الكبير إلا مثل هذه الصغائر التي لا تتجاوز ما هو كائن في عقول أصحاب الجزيرة ذاتهم .
قول لا بد منه : إن انفتاح الشام على عالمها العربي ، وحدودها المفتوحة للجميع – كل من يحمل بطاقة تعريف عربية – قد تم استغلاله بأبشع صورة ، وأسوأ هؤلاء كان المرتبطون بأجهزة الاستخبارات من كل الأصناف والألوان ، وهم بالأساس مخروقون ، وإذا كان قائد الشام بإنسانيته ، ونبل أخلاقه وتسامحه ، قد يجنح في يوم ما إلى الصفح والتسامح واستقبال هؤلاء الصعاليك ، والسماح لهم بالتمتع في الشام وخيراتها ، فإن من المؤكد أنهم لن يكون مرحباً بهم من أبناء الشعب السوري الأبي الذي أثخنته طعناتهم في الظهر ، ولن يقبل الثرى السوري أن يطأوا عليه بنعالهم الملوثة ، والقليل الذي نطالب به – وهو من حقنا ، طبعاً – المعاملة بالمثل ، ومنع الأشرار من التسلل حتى وإن كانوا يحملون بطاقة " عربي " .
ما عادت القضية ، مجرد وقوع في خطأ ، لقد انقلبت إلى أزمة أخلاقية متجذرة ، هي بالتأكيد . . . قضية موت ضمير .
|