يحظى مفهوم "الأمة" بمكانة كبيرة في الفكر الاجتماعي، وتجدر الإشارة الى ان هذا المفهوم كان موضوع أبحاث واختلافات عديدة بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمنظرين على مدى قرون، فانعكس حراكاً فكرياً واسعاً مغنياً، متشعباً التفاصيل، قوامه في المقام الأول دور مفهوم "الأمة" في تحديد الهوية وتعزيز الانتماء.
يجد الباحث في موضوع "الأمة" اختلافات عديدة في أساليب المقاربة والتعريف والخلفيات الموضوعية حيال هذا العنوان. والهدف من هذه السطور ليس التمييز بين مفهومي الأمة والقومية – كما يميل بعض الباحثين- أو بين الأمة والدولة – وهي أيضا معطى سياسي قد لا يتلازم مع وجود الأمة كما لدى البعض-، وليس الهدف كذلك التأريخ لمفهوم الأمة أو إماطة اللثام عن كيفية انبثاقها وتبلورها وتطورها. فالغاية تناول مفهوم الأمة بمحدداته لدى أنطون سعاده وإرنست رينان كمفكرين بارزين كانت لهما بصمة وأثر في هذا الموضوع وأضافا الى الإرث الثقافي الإنساني مباحث غاية في الغنى والدقة.
• لماذا سعاده ورينان؟
قد يستدعي الجواب عن هذا الاستفهام استجلاباً لمطولات حول هذين الرجلين وأثرهما في الفكر الإنساني، فأنطون سعاده، باعث النهضة السورية القومية الاجتماعية التي مثلت بحق أول حركة قومية فكرية عقائدية ثورية منظمة عرفها شرقنا، هادفاً الى إنقاذ الأمة من التشرذم والضياع والتجزئة، ومن الاستعمار والاحتلال. وإذ يعجز اللسان عن إعطاء هذا الرجل حقه، حسبنا في هذه العجالة أن نحيل على ما جرت به الأقلام وحبرت به الصفحات عن ألمعيته وسبقه الفكري وتضحياته التي انتهت باستشهاده في سبيل القناعة التي يحمل، حتى بات أيقونة للعلم والعمل والإيثار. وليس من المبالغة القول إن الأمة كانت محور حياة الرجل ومآل طموحاته ومنتهى أمله، لذا بذل الغالي والنفيس في الانكباب على دراستها ونشر المعرفة حولها بحثاً وخطابة وعملاً ونضالاً.
أما إرنست رينان فهو مفكر ومستشرق فرنسي توفى عام 1892. ولد في تريغييه وتلقى علومه الأولى فيها. درس الكهنوت لكنه ما لبث أن تركه لينصرف إلى الفلسفة، وحصل على درجة الدكتوراه في رسالته عن "ابن رشد والرشدية". زار فلسطين ولبنان وألقى محاضرات في السوربون عن الإسلام. والواقع أن رينان كان عالماً ملماً باللغات السامية. تأثر بالفلسفة الألمانية والهيغلية على وجه الخصوص. أما تناوله مفهوم الأمة، فكان عبر محاضرة ألقاها في السوربون في 11 آذار 1882 ومثلت أحد النصوص الأساسية في أدبيات الفكر القومي الاوروبي آنذاك. ومن اللطيف أن نشير الى أن أنطون سعاده نفسه استند غير مرة إلى رينان، بعد التنويه، ووصفه بـ"أحد كبار العلماء المفكرين"، في خطبته ذات العنوان "الاتحاد العملي في حياة الأمم" التي ألقيت في الحفلة الافتتاحية للنادي الفلسطيني في بيروت سنة 1933، إذ يقول:" "قلت إننا أمة بكل ما في كلمة أمة من معنى، وإذا اردتم شهادة عالم كبير أوردت شهادة أحد كبار العلماء المفكرين هو إرنست رينان وإليكم ما حدد به الأمة، قال:"إن الأمة تتوالد من زواج جماعة من البشر ببقعة معينة من الأرض" وإنكم تلاحظون هنا استعمال رينان لفظة "جماعة من البشر" فهو يقصد الجماعة البشرية بصرف النظر عن أصولها، ولو قصد غير ذلك لقال "جنس" أو "سلالة" من البشر بدل "جماعة" فليس شرط الأمة ان تنتسب الى أصل معين، بل شرطها الاجتماع في حياة واحدة وأرض واحدة".
• "الأمة" في فكر أنطون سعاده
يذهب أنطون سعاده في تمهيده للبحث حول الأمة في كتابه "نشوء الأمم" إلى إضفاء الضرورة العملية على مهمة تحديد مفهوم الأمة، فليس هذا التحديد بعرفه ترفاً فكرياً أو صراعاً فلسفياً أو اجتماعياً خالياً من المعنى أو الأثر المباشر في حياة الأمة. لتحديده وظيفة ذات شقين، أولاهما توكيد الهوية وتركيز السيادة بأسس نظرية تشكل صلب الماهية المبلورة للأمة وهو ما عبر عنه بالقول:"كل أمة تشعر بضرورة سيادتها على نفسها". وثانيهما دور دفاعي مقابل الأمم الأخرى عبر تحصين مصالح الأمة بمبان روحية، حقيقية كانت أو خيالية. فيقول مردفاً:"(...) وحماية مصالحها من إجحاف وتعديات الأمم الأخرى". ثم يلمع سعاده الى تفاصيل النظريات التي قد يطلقها منظرو الأمم ومفكروها لإكساب أممهم "معنويات قوية"، فيقول:"(...) بعضهم (المفكرون) يبحث عن حقيقة تاريخية أو مثال حقيقي أو موهوم من التاريخ، أو عن نزعة دينية أو سلالية(...)". ويستفيض سعاده في شرح ما قد يتعرض له تحديد الأمة من تأثر بعوامل مختلفة، مستشهداً بحالة فرنسا ونظرياتها القومية كمثال، مستعرضاً تطور مفهوم الأمة فيها من النسب الى السلالة وصولاً الى "الوطن".
يقدّم عرضاً شاملاً للمحددات العامة لمفهوم الأمة في النظريات التي تناولت هذا الموضوع بالبحث والاستقصاء، ناحتاً من خلال هذا العرض مبانيه، فيستبعد أولا العرق (مذهب منتشيني) أو السلالة (مذهب ايوانوف) كمحددات للأمة، وفي ذلك يقول:"يترتب علينا أن نزيل من اذهاننا فكرة الوحدة الفيزيائية للأمة. والذي أجمع عليه جمهور العلماء أن وحدة الأمة العنصرية أمر خيالي لا يجوز قبوله علمياً. فالأمة إذن ليست وحدة فيزيائية دموية، بل وحدة تقليدية عقلية. وبين الأمة والسلالة هوة عميقة جداً، إذ السلالة شكل فيزيائي عام، أما الأمة فليست كذلك، بل هي اقتناع عقلي عام. السلالة حقيقة طبيعية وجدت قبل التاريخ، أما الأمة فشيئ تكون مع مرور الزمن وعمل على تكونه فكر وشعور وإرادة العقول البشرية". كما يطرح جانباً العادات والتقاليد بعد ان يفرق بينهما ويحيل نشوء العادات والتقاليد على عامل الاجتماع في المجتمع، وعليه تكون بالتالي شأناً من شؤون المجتمع ومحصلة من محصلاته، ولا يكون لها البتة دور المسبب في نشوء الأمة. ثم ينأى عن اللغة، ورغم رفعه لها الى مستوى "الضرورة" لاستكمال وحدة الأمة الروحية، يذهب الى كون اللغة " وسيلة من وسائل قيام الاجتماع لا سبباً من أسبابه، إنّها أمر حادث بالاجتماع في الأصل لا إنّ الاجتماع أمر حادث باللّغة"، وفي محل آخر يذكر:"الحقيقة التي يؤيدها الواقع أنه ليس من الضروري أن يميل جميع الذين يتكلمون لغة واحدة إلى تكوين أمة واحدة. والسياسة التي تتوهم مثل هذا الميل وتستند اليه لا يكون نصيبها إلاّ الفشل. ولكن الذين يؤلفون أمة واحدة يميلون الى التكلم بلغة واحدة، وتكون هذه اللغة ضرورية لاستكمال الوحدة الروحية في الأمة". وفي الدين يشير الى افتراق منتشيني عن ايوانوف إزاء الموضوع، إذ عفا عنه الأول وأثبته الثاني، ويختار بدوره استبعاده عن محددات الأمة، ويسوق لهذا أدلته، منها:
1- "كون الدين غير قومي بوجه أولي، بل مناف للقومية، لأنه "إنساني ذو صبغة عالمية".
2- " لم يشذّ (الدين) عن قواعد الشّؤون الإنسانية ولم يخرج على مقتضيات أنواع الحياة البشريّة وحاجاتها المتباينة أو المتقاربة. فحيثما تضاربت مصلحة المجتمع، الدّولة أو الأمة، ومصلحة الدّين كانت مصلحة المجتمع هي الفاصل في النّزاع".
3- "إنّ الدّين واحد ولكنّ الأمم متعدّدة. وفي احتكاك الأمم بالأمم تتمسّك كلّ واحدة بكلّ عقيدة أو بأية عقيدة، سواء أكانت دينيّة أو غير دينيّة، لتحافظ على استقلالها الرّوحيّ فلا تخضع لأمّة أخرى بواسطة السّلطة الرّوحيّة الدّينيّة".
ثم يقوّم الدين من وجهة نظر عقلية فيرى أنه:" نوع من أنواع الفلسفة في تعليل مظاهر الكون وتقدير نهايته ومصير النفّس البشريّة". وينتهي الى ان الجامعة الدينية أرادت الحؤول دون نشوء الأمم، غير أن الأمم استطاعت ان تعدل الدين ليوافق نزعاتها القومية، وبالنتيجة يكون الدين بعرف سعاده "عنصراً من عناصر القومية" ويضيف:" إنّ شرط كون الدّين عنصراً قوميّاً أن لا يتضارب مع وحدة الأمة ونشوء روحها القوميّة فإذا فقد هذا الشّرط زالت عنه صبغته القوميّة وعادت له طبيعته العامّة".
في الوحدة السياسية يرى سعاده " التّاج الّذي تتوّج به الأمة نفسها وتحصل به على اعتراف الأمم الأخرى بحقّها في الحياة وكرامتها الشّخصيّة". إلاّ أنه لا يرى فيها شرطاً للأمة، بل ليست كذلك عنصراً من عناصر التأسيس لكنها "ضرورة من ضرورات الأمة ليكون لكيانها الاجتماعيّ-الاقتصاديّ قيمة حيويّة عمليّة".
هنا لا بد من الإشارة الى ناحية مهمة، فالعادات والتقاليد واللغة والدين لا يصح وسمها بالمحددات للأمة غير أنها تلعب دوراً أساسياً في توحيد الأمة.
بعد هذا العرض المختصر لأبرز محددات الأمة التي استبعد سعاده معظمها، نأتي الى عنوان ذي أهمية قصوى في تحديد مفهوم الأمة من منظور سعاده، وهو الإقليم أو البيئة الجغرافية الواحدة. وحريّ بنا الإشارة الى أن هذا المحدد كان محوراً لأخذ ورد لدى كثيرين ممن تناولوا فكر سعاده بالدراسة والتحليل، فذهب بعضهم الى كون سعاده يميل الى تصنيف عامل الجغرافية كعامل أولي فاعل ومؤثر في نشوء الأمم، بينما العوامل الأخرى ليست إلاّ عوامل ثانوية. وذهب آخرون إلى اتهامه بالمغالاة في التصور الجغرافي، لكن الحقيقة أن سعاده لا يقرّ للعنوان الجغرافي بالتأثير التام الأحدي في تأسيس الأمة. بل قد لا نجانب الصواب لو زعمنا أن كل تفسير يحصر مقاربة سعاده لمفهوم الأمة بالعامل الجغرافي وحده تعوزه الدقة. فالأمة لدى سعاده هي ما يعبر عنه بـ"المتحد"، إذ يقول "الأمة هي أتم متحد"، والمتحد مجموعة من البشر قائمة بذاتها لا تختلف في العمق بعدد معين من الصفات أو المصالح عن غيرها، بل تتميز بالاشتراك في حياة واحدة ضمن بقعة جغرافية معينة، بهذا تكون القرية متحداً والمدينة متحداً و"القطر الذي هو متحد الأمة أو المتحد القومي هو أكمل وأوفى متحد"، وبذلك لا يغض الطرف عن العامل الجغرافي ولا يغمض عن ضرورة البيئة للإنسان، ولتفعيل الشخصية الجماعية. فالأرض شرط أساسي لحياة النوع الإنساني. من هنا فإن عنوان الموضوع الجغرافي لدى سعاده يتمثل بالعلاقة بين الإنسان والأرض، "الأرض تكيف الإنسان وهو بدوره يرد الفعل ويكيفها. والى هذه العلاقة المتينة يعود تفوّق الإنسان على بقية الحيوانات في تنازع البقاء. يكيف الإنسان الأرض، ولكن الأرض نفسها تعين مدى هذا التكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليمية. وفي الوقت الذي يسعى هو لتكييف الأرض لتوافق حاجاته الحيوية، يجد نفسه مضطرا لتكييف حاجاته حسب خصائص الأرض النازل فيها". إن البيئة عنوان رئيسي لتقرير ماهية الجماعة، لكنه ليس عنواناً مفرداً أو كافياً لبلورة هوية الجماعة، فالجماعة تتحدد بالبيئة الإقليمية وبالروابط والمزايا النفسية والثقافية التي توحد الأفراد.
أما في موضوع التاريخ، وفيه يرد كل تفسير لا يأخذ في الاعتبار موضوع التفاعل بين البيئة والجماعة، فليست البيئات وحدها ذات خصائص تبلور ذاتها وتفصلها عن البيئات الأخرى، بل للجماعة أيضاً خاصية نفسية تميّزها. في ذلك يقول سعاده:"إن الطبيعة والجغرافية هما الطبقة الداخلية في تاريخ حياة الإنسان. فمع أنهما تميزان الجماعة تمييزاً واضحاً، فانهما فيما يختص بتاريخ الجماعة، لا تقدمان الاضطراريات، إلاّ نادراً، وفي حالات استثنائية، ولكنهما تقدمان الإمكانيات. إن التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أن الأرض هي أحد الافتراضات التي لا بد منها لنشوء التاريخ، والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطورها هي العوامل النفسية والفردية".
نأتي في النهاية الى الدورة الاجتماعية – الاقتصادية، إذ يقول سعاده:"الأمة تجد أساسها، قبل كل شيئ آخر، في وحدة أرضية معينة تتفاعل معها جماعة من الناس وتشتبك وتتحد ضمنها. ومتى تكونت الأمة وأصبحت تشعر بشخصيتها المكتسبة من إقليمها ومواد غذائها وعمرانها ومن حياتها الاجتماعية الخاصة وحصلت من جميع ذلك على مناعة القومية، أصبحت قادرة على تكميل حدودها الطبيعية أو تعديلها، على نسبة حيويتها وسعة مواردها وممكناتها". ويؤكد في موقع آخر:"شرط المجتمع ليكون مجتمعاً طبيعياً أن يكون خاضعاً للاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية اقتصادية واحدة تشمل المجموع كله وتنبه فيه الوجدان الاجتماعي، أي الشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير، فتتكون من هذا الشعور الشخصية الاجتماعية بمصالحها وإرادتها وحقوقها".
• "الأمة" في فكر إرنست رينان
ينطلق إرنست رينان في محاضرته "ما هي الأمة؟" بعد المقدمة ليقسم خطابه ثلاثة أقسام، يورد في القسم الأول بعض الوقائع التاريخية التي لها امتداد في تأسيس الأمم. ويشير في القسم الثاني الى الآراء المختلفة حول عوامل تأسيس الأمة، ويوضح في القسم الثالث رأيه حول مفهوم الأمة.
يشير رينان في مقدمته الى اشكال المجتمعات البشرية ويقسمها كالآتي:
1- تجمعات بشرية كبيرة كالصين ومصر وبابل القديمة.
2- القبيلة كما عند العرب والعبرانيين.
3- الحاضرة كما أثينا واسبارطة.
4- اتحادات البلاد المتعددة، مثل الإمبراطورية الأخمينية والإمبراطورية الرومانية.
5- الجماعات التي تعيش بدون وطن ورابطها هو الدين كما هي حال اليهود.
6- الأمم مثل فرنسا وإنكلترا وعدد من الكيانات الأوروبية الأخرى.
7- الاتحادات الفيدرالية مثل سويسرا وأميركا.
8- القرابة أو اشكال العرق واللغة عند الجرمانيين.
بعد إشارته الى أن مفهوم الأمة شيئ "جديد على التاريخ" لم يعرفه الزمان القديم، ينتقل الى القسم الأول من خطابه ويتناول فيه الأبحاث التاريخية لمفهوم الأمة، فيقول إن التجمعات البشرية التي لا يصح بشكل من الأشكال وصفها بالأمة، مثل مصر والصين وكلدة القديمة، وكانت بمثابة قطعان يقودها ابن للشمس وابن للسماء". ثم يشير الى المراكز الصغيرة أو المدن القائمة فوق مساحة إقليمية ضيقة وتتميز بالاستقلالية وتتجلى فيها الروح الوطنية ومثالها أثينا وإسبارطة وصيدون وصور. ثم يتناول مجموعة الأقوام المتضافرة التي تتميز بانعدام المؤسسة المركزية أو السلالات الحاكمة، مثل بلاد الغول وإسبانيا وإيطاليا، قبل أن تمتصها الإمبراطورية الرومانية. والإمبراطورية التي لا يصح وصفها بالوطن، ومثالها الإمبراطورية الفارسية التي كانت "إقطاعية"، والإمبراطورية الآشورية وامبراطورية الاسكندر قائلاً: "لا نجد أمة واحدة تربط أصولها بمغامرة الإسكندر الهائلة، وإن تكن هذه المغامرة غنية النتائج في ما يتعلق بالتاريخ العام للحضارة". معتبراً أن الإمبراطورية الأقرب إلى أن تكون وطناً هي الإمبراطورية الرومانية "فمع وقف الحروب الذي عاد بمحاسن واسعة، سرعان ما أصبحت السيطرة الرومانية محببة إلى القلوب، بعدما كانت قاسية جداً في البداية. كانت تجمعاً كبيراً رديفاً للنظام والسلم والحضارة. وفي الأوقات الأخيرة من حياة الإمبراطورية تولد لدى النفوس المهذبة، لدى الأساقفة المتنورين ولدى المتعلمين، شعور حقيقي "بالسلم الروماني" الذي يتعارض مع الخواء المهدد الذي تحمله البربرية". وكل ما مر لا يمكن وصفه بالأمة بحسب رينان.
ثم يبين أن"الغزو الجرماني هو الذي أدخل إلى العالم المبدأ الذي جرى استخدامه لاحقاً كأساس لوجود الجنسيات". ويذهب الى أن الاجتياحات الكبرى التي قادتها الشعوب الجرمانية أدت الى حوادث تغيير طفيف في عمق الأعراق، إلاّ أنها فرضت سلالات وأرستقراطية عسكرية على أجزاء من إمبراطورية الغرب القديمة ويحيل التسميات من قبل فرنسا، بورغنديا، لومبارديا، والنورماندي على اسم غزاتها. ثم يحيل سير فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا نحو الكيان القومي التام على معاهدة فردان، إذ يقول:" وقد رسمت معاهدة فردان مقسمات ثابتة من حيث المبدأ، ومنذئذ بدأت فرنسا وألمانيا وانكلترا وإيطاليا وإسبانيا تسير، عبر دروب تعرضت غالباً للانعطاف وعرفت ألف مغامرة نحو وجودها القومي الممتلئ، كما نشاهد تفتحه اليوم".
ويطرح السؤال:" ما الذي يسم بسمات خاصة هذه الدول المختلفة؟" واجداً الجواب في انصهار السكان المبلورين لها. يرجع ذلك الى ظرفين، أولهما "أن الشعوب الجرمانية تبنت المسيحية بمجرد حصول احتكاك متواصل بعض الشيء مع الشعوب الإغريقية واللاتينية"، وعندما يتبنى الغالب ديانة المغلوب فالتمييز على أساس ديني لا يمكن له أن يحصل. ثانيهما:" نسيان الغزاة للغتهم بالذات".
ويتابع راوياً:" رغم العنف الشديد الذي اتسمت به عوائد الغزاة الجرمانيين، فان القالب الذي فرضه هؤلاء أصبح على مر القرون قالب الأمة بالذات"، خاصاً الى أن "النسيان، لا بل الخطأ التاريخي، هما عامل أساسي لخلق الأمة"، موضحاً أن الدراسات التاريخية تنطوي على تهديد للجنسية، ذلك أن البحث التاريخي في وجهة نظره يسلط الضوء على العنف الحاصل في بداية التشكيلات السياسية، فالوحدة تحصل دائماً بصورة فظة: "اجتماع فرنسا الشمالية إلى فرنسا الوسطى كان نتيجة عملية إبادة وإرهاب متواصل طيلة قرن تقريباً". هنا يبرز النسيان كعماد للأمة، فبانعدامه تتهدد وحدة الأمة بسبب العنف الحاصل في بداية التأسيس على ما أسلفنا. يكمل رينان:" نعلم أن جوهر الأمة يكون في وجود الكثير من الأشياء المشتركة بين سائر أفرادها، وبأن سائر هؤلاء الأفراد نسوا العديد من الأشياء. إن أي مواطن فرنسي لا يعرف إذا كان بورغنديا، آلان، تايغل، فيزيغوث، وعلى كل مواطن فرنسي أن يكون قد نسي سان- برتلمي والمجازر التي وقعت في المنطقة الوسطى في القرن الثالث عشر". متبنياً أن الأمة الحديثة هي "نتيجة تاريخية حملتها سلسلة من الوقائع المتلاقية في الاتجاه ذاته، ومنها:
1- تحقق الوحدة على يد سلالة حاكمة "كما هي الحال في فرنسا.
2- تحققها بفعل الإرادة المشتركة للأقاليم كما هي الحال بالنسبة إلى هولندا وسويسرا وبلجيكا.
3- تحققها بفضل الروح العامة التي تغلبت على روح الاقطاعية، كما هي الحال بالنسبة إلى إيطاليا وألمانيا.
يلاحظ رينان أن حال الأمة في الهزيمة تقوي من عضدها، وتحضّها على الالتئام، في حين أن حال المجموعة التي لا يصدق عليها مفهوم الأمة تصاب بالضياع والتشتت حتى في حال غلبتها وتوسعها، ويسوق على ملاحظته هذا مثل إيطاليا وتركيا فيذهب الى أن الأولى "موحدة بفضل هزائمها، وتركيا منهارة بسبب انتصاراتها" والسبب في رأيه أن إيطاليا أمة بينما تركيا خارج حدود آسيا الصغرى ليست أمة.
يطرح رينان مجموعة من التساؤلات:" ما هي الأمة إذن؟ ولماذا تكون هولندا أمة بينما لا تكون هانوفر أو الدوقة الكبيرة لبارما أمة؟ وكيف تستمر فرنسا في أن تكون أمة في حين أن المبدأ الذي أنشأها قد زال؟ كيف تكون سويسرا أمة وهي تشمل ثلاث لغات وديانتين وثلاثة أو أربعة أعراق بينما لا تكون توسكانة، مثلا، أمة وهي المتجانسة إلى هذا الحد الكبير؟ لماذا تكون النمسا دولة وليست أمة؟ فيم يختلف مبدأ الجنسيات عن مبدأ الأعراق؟".
ويمهد بالقول:" لدى سماع آراء بعض المنظرين السياسيين، يخيل إلينا أن الأمة هي قبل كل شيء سلالة حاكمة، ممثلة لاستيلاء قديم، وأن هذا الاستيلاء حصل تقبله في البداية، ثم نسيه جمهور الشعب في ما بعد". ويشير الى صوابية الرأي القائل إن "غالبية الأمم الحديثة قد تم إنشاؤها على يد أسرة ذات أصل إقطاعي، وهي الأسرة التي عقدت زواجاً مع الأرض وكانت نوعاً ما نواة لعملية تمركز". غير أنه يرفض لاحقاً اطراد السلالة الحاكمة في تأسيس الأمة، بالاستناد إلى أن أميركا وسويسرا "تشكلتا على هيئة مجموعات أضيفت تباعاً إلى بعضها البعض، لم يكن لديهما أي أساس سلالي". وينتهي الى إنكار المبدأ السلالي بالنسبة إلى الأمة،:" يمكن لأمم تشكلت على أيدي سلالات حاكمة أن تنفصل عن هذه السلالة من دون أن يكون ذلك سبباً كي تكف عن الوجود".
1- العرق: يقر رينان بدور العرق في القبيلة والحاضرة القديمتين، على اعتبار كونهما امتداداً للعائلة، غير أنه يميز في هذا بين عدة شعوب كالعرب، و(اليهود)، وإسبارطة القديمة وغيرها، وبين الإمبراطورية، حيث يرى على سبيل المثال أن الإمبراطورية الرومانية نشأت في البداية عن طريق العنف، وكان للمصلحة الدور الأبرز في استمراريتها. إلاّ أن "هذا المجموع الكبير من المدن ومن المناطق المختلفة مطلقاً عن بعضها البعض، يوجه إلى فكرة العرق أخطر الضربات وأقواها". ويخلص: "الحقيقة أنه ليس هناك عرق خالص، فالبلدان الأكثر نبالة، أي إنكلترا وفرنسا وإيطاليا، هي البلدان التي اختلطت فيها دماء السكان أكثر من غيرها. هل تشكل ألمانيا حالة استثنائية في هذا المضمار؟ هل هي بلد جرماني محض؟ إنما هذا وهم كبير".
2- اللغة: يعتبر بداية أن اللغة تدعو إلى الالتقاء إلاّ أنها لا تكره أحداً على ذلك، ويقدم مثالاً على ذلك وحدة اللغة في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا من ناحية، ووحدتها في أميركا اللاتينية، وإسبانيا من ناحية ثانية، وهذا لم يؤد الى تأسيس أمة واحدة. يقول: "ثمة في الإنسان شيء يفوق اللغة: إنه الإرادة. إرادة سويسرا في أن تكون موحدة رغم تنوع لغاتها، لهو أمر يفوق في أهميته كل تشابه لغوي يتم الحصول عليه غالباً عن طريق الإرغام وضروبه".
3- الدين: لا يرى في الدين سعة لتكوين الأمة.
4- الاشتراك في مجموعة مصالح: "هو بالتأكيد رابطة قوية بين البشر. ولكن هل تكفي المصالح لبناء أمة؟ أنا لا أعتقد ذلك"، يقول رينان.
5- الجغرافية أو الحدود الطبيعية: "تحظى قطعاً بنصيب كبير في عملية تقسيم الأمم. فالجغرافيا هي أحد العوامل الأساسية للتاريخ. الأنهار ساقت الأعراق، والجبال أوقفتها عن مسيرتها. الأولى شجعت الحركات التاريخية فيما حدت الثانية (الجبال) منها. هل يمكننا مع ذلك أن نقول، كما يعتقد بعض الفرقاء، أن حدود أمة ما مكتوبة على الخريطة، وبأن من حق هذه الأمة الاستيلاء على ما هو ضروري لتوسيع بعض أطرافها، لبلوغ هذا الجبل أو هذا النهر، إذ ينظر إليه كأنه يتمتع بنوع من الملكة القادرة مسبقاً على إقامة الحد ؟ أنا لا أعرف مذهباً أكثر تعسفا وأكثر شؤماً من هذا الاعتقاد. ذلك أنه يسمح بتبرير كل عمليات العنف، ولنتساءل هنا، قبل كل شيء، هل الجبال أم الأنهار هي التي تشكل هذه الحدود الطبيعية المزعومة؟ الأمر المؤكد الذي لا جدال فيه هو أن الجبال تفصل بينما الأنهار تجمع. يضاف إلى ذلك أن الجبال ليست كلها مؤهلة لرسم حدود الدول". " لا، ليست الأرض هي التي تصنع، أكثر من العرق، أمة من الأمم. الأرض تقدم المادة، حقل الصراع والعمل، أما الإنسان فيقدم الروح. الإنسان هو الأساس كله في تكوين هذا الشيء المقدس الذي نطلق عليه اسم الشعب. والشيء المادي، مهما بلغ شأنه، لا يكفي لذلك، الأمة مبدأ روحي، تحصل من تعقيدات التاريخ العميقة، الأمة عائلة روحية، لا مجموعة محددة بترسيمة الأرض". ويختم رينان بالإشارة الى الضرورات العسكرية.
بعد تحديده الأمة بـ"نفس، مبدأ روحي" يشير رينان الى أمرين يكونان الأمة، أحدهما قائم في الماضي، والثاني في الحاضر، "الأول هو الامتلاك المشترك لإرث غني من الذكريات; الثاني هو التوافق الحالي والرغبة في العيش سوياً والإرادة القاضية بمواصلة الجهد لإعلاء شأن ما وصل إلينا غير مجزأ"، ويتابع قائلاً: "الأمة هي إذن تضامن كبير تشكل من الشعور بالتضحيات التي بذلناها سابقاً والتي نحن جاهزون لبذلها من بعد. الأمة تفترض وجود ماض، ومع ذلك نراها في الحاضر تتلخص بأمر ملموس: إنه التوافق والرغبة الصريحة العبارة في مواصلة الحياة المشتركة. وجود الأمة هو (اعذروني على هذا التشبيه) عملية استفتاء شعري تحصل في كل الأيام، كما أن وجود الفرد هو التأكيد المتواصل على الحياة".
• مناقشة وملاحظات
هدف هذا البحث المقارن ليس نقد مفهوم "الأمة" في فكر سعاده أو رينان، بل السعي إلى التوفيق بين المفكرين ومناقشة نقاط الاختلاف بينهما ونحت صيغة الأمثل لمفهوم "الأمة".
الواقع أن الناظر إلى مفهوم الأمة لدى هذين المفكرين يجد أن نقاط الالتقاء بينهما متعددة، فكلاهما استبعد العرق أو السلالة واللغة والدين وغيرها عن المحددات المؤسسة لمفهوم الأمة، مع عدم انكار أهمية هذه العناوين بل أحيانا ضرورتها في استمرار الأمة. وإن أردنا البحث في نقاط الاختلاف لظهر معنا بادئ ذي بدء ناحية الجغرافيا الذي اثبتها سعاده وأضفى عليها ضرورة وأهمية قصوى، في حين أنكرها رينان مع اعترافه بتأثيرها الكبير في تقسيم الأمم. ثم هناك الاشتراك في مجموعة المصالح، وفي النهاية تحديد الأمة، أهي "أتم متحد"؟ أم لعلها "مبدأ روحي؟" أم "إرادة الحياة المشتركة؟".
نأتي إلى العامل الجغرافي، ولو أردنا اختصار رأي رينان فيه لخرجنا بالآتي:
1- العامل الجغرافي يسمح بتبرير عمليات العنف التي قد تقوم بها أمة حيال أخرى، سعياً إلى توسيع أطرافها عبر الاستيلاء على ما هو ضروري.
2- "الأرض تقدم المادة، حقل الصراع والعمل، أما الإنسان فيقدم الروح. الإنسان هو الأساس كله في تكوين هذا الشيء المقدس الذي نطلق عليه اسم الشعب. والشيء المادي، مهما بلغ شأنه، لا يكفي لذلك".
يبدو أن رينان في بيانه حول العامل الجغرافي لم يذهب بعيداً عن الخلط بين مفهومي "الأمة" و"الدولة"، أو بين ما اختار سعاده تسميتهما بـ"المجتمع الطبيعي" و"المجتمع الاصطناعي"، فالمجتمع الاصطناعي قد يتمدد ويشمل أكثر من مجتمع طبيعي، ويكون بحسب سعاده "مجتمعاً مصطنعاً من مجتمعين طبيعيين أو أكثر"، مقدماً مثالاً على ذلك سورية الطبيعية وبلاد العرب إبان الدولة الإسلامية، إذ جمعت هذه الدولة بين المجتمعين الطبيعيين من دون أن تقضي واقعاً على الفوارق التي تفرضها طبائع كل منهما، وأبرز تلك الفوارق تنبع من عوامل متعددة أهمها العامل الجغرافي. لذا فالعامل الجغرافي هو المتشكل من المجتمع الطبيعي ولا يدعو بالضرورة لا الى عمليات العنف ولا الى توسيع الأطراف. بل لعلّ مردّ هذه الأمور رغبة بعض الجماعات في التمدد، غير أن هذا التمدد حتى لو حصل قد لا يؤثر في طبيعة الأمة أو في حدودها الطبيعية ما دام الإنسان – فرد الأمة- يقطنها. بل ما قد يقرأ في مذهب رينان نفسه يشي بنوع من التناقض في ما ذهب اليه هنا، من كون الهزيمة تقوي من عضد الأمة وتشد من أزرها وتدعوها للالتئام، في حين أن المجموعة التي لا يصح وصفها بالأمة تصاب بالضياع والتشتت حتى في حال انتصارها وتوسعها، ويستدعي مثالي إيطاليا وتركيا، فيقول إن إيطاليا "موحدة بفضل هزائمها، وتركيا منهارة بسبب انتصاراتها" والسبب أن إيطاليا أمة، بينما تركيا خارج حدود آسيا الصغرى ليست أمة. فهو بذلك يضمَن المعنى أن الجماعة خارج إطار إقليمها الجغرافي لا يصح وصفها بالأمة، ما ينسف مبناه من الأساس. وثمة ملاحظة أخرى تتمحور حول قول رينان:" غالبية الأمم الحديثة أنشئت على يد أسرة ذات أصل إقطاعي، وهي الأسرة التي عقدت زواجاً مع الأرض" (يوردها سعاده على ما أسلفنا بعبارة "جماعة"، ولعل الاختلاف يعود الى الترجمات ولا يتسع المجال لمناقشة أي الترجمتين أصح)، وهنا تصريح واضح من رينان أن إنشاء الأمة لا يتم إلاّ مع حالة المزاوجة بين الأسرة – الجماعة والأرض.
ننطلق من هنا لنعالج النقطة الثانية في مقاربته العامل الجغرافي والمتمثلة بعبارته "الأرض تقدم المادة، حقل الصراع والعمل، أما الإنسان فيقدم الروح"، إذ يصدق المثال الأول على تركيا وإيطاليا أيضا، نسأل أين الروح للإنسان مع فقدان المادة وحقل الصراع والعمل؟ إنه ما وعاه سعاده في قوله:"الحقيقة أنه ليس للأمة كيان إلاّ في وطنها. بل كثيراً ما يكون المحيط أو الوطن العامل الاساسي في إكساب الأمة صفة معلومة تميزها عن غيرها. ولولا الأرض وطبيعتها وجغرافيتها لما كان هناك وجود لأمم كثيرة". بذلك وافق سعاده ما ذهب إليه رينان من رأي حول تركيا وإيطاليا، ونقض في الوقت نفسه مذهب الأخير في العامل الجغرافي.
أما "الاشتراك في مجموعة مصالح"، فينظر إليه من وجهتين ضيقة وواسعة، أما الضيقة فتتمثل في المعاهدات التجارية، والواسعة في التفاعل الاجتماعي - الاقتصادي، إذ ينكر رينان هذا العامل في تأسيس الأمة يقول في مجال آخر: "نعلم أن جوهر الأمة يكون في وجود الكثير من الأشياء المشتركة بين سائر أفرادها". هنا السؤال: أليس العامل الاجتماعي الاقتصادي من العوامل المشتركة، بل أليس من أولى أولويات هذا الاشتراك؟؟ ثم لو أخذنا تعريفه للأمة "إرادة الحياة المشتركة" فكيف يتم هذا الاشتراك إن غضضنا الطرف عن العامل الاجتماعي الاقتصادي؟ ونختم بقول سعاده:"شرط المجتمع ليكون مجتمعاً طبيعياً أن يكون خاضعا للاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي، أي أن تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية اقتصادية واحدة تشمل المجموع كله وتنبه فيه الوجدان الاجتماعي، أي الشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير".
نعود في الختام الى تعريف رينان للأمة إذ يقول إنها "إرادة الحياة المشتركة"، بذلك تكون الأمة لديه جماعة من البشر ذات إرادة أو مشيئة بالحياة المشتركة، والواقع إن الارادة – على أهميتها في حياة الأمم- لو أخذت وحدها، دون باقي المحددات ليست من الثوابت في حياة الأمم، بل لعلها من أكثر الأمور تبدلاً وتحولاً وتغيراً تبعاً للظروف والأحوال. في حين عبّر رينان عن أن النسيان عامل أساسي لخلق الأمة وأعلن أن الوحدة تتكون من جراء القسر والإرغام، وأوضح بالأمثلة حال عدة بلدان في أوروبا اتحدت في أمم بفعل الغزو والمذابح وغيرها، نطرح التساؤل: إن كانت الوحدة تنتج عن الإرغام والغزو والاجتياح – بحسب نظرته – هل يصح القول إن إرادة الحياة المشتركة هي العامل الأساس في تحديد الأمة؟
للمزيد نتوقّف عند عنوان النسيان ويقول فيه رينان:"النسيان، لا بل الخطأ التاريخي، هما عامل أساسي لخلق الأمة"، ويدلل على ذلك بأن فرنسا توحدت إثر المجازر، فالمطلوب من الفرنسيين نسيان تلك المجازر ليتحقق لهم مفهوم الأمة. كما يشير الى خطورة الدراسات التاريخية لتسليطها الضوء على المذابح التي وقعت إثر الإجتياحات التي كان من نتائجها تأسيس الأمة. هنا السؤال: أي كيان هزيل تكونه الأمة حينذاك عندما تهدد وحدتها الدراسات التاريخية؟ بل أي تعسف يكون إزاء العلم عند تصنيف الدراسات التاريخية بالخطيرة لكونها توقظ في نفس الأمة روح الانشقاق والتفرقة؟ وهل يصح في هذا الحال إطلاق مفهوم الأمة على كيان بمثل هذه المواصفات؟ ثم ألا يجد المرء تناقضاً بين تحديده أمرين يشكلان الأمة، أحدهما في الماضي والثاني في الحاضر، وما في الماضي هو "الامتلاك المشترك لإرث غني من الذكريات"، والنسيان عامل أساسيّ لخلق الأمة؟
البناء
|