يخلط بعض الكتّاب الأكاديميين بين الوحدة السورية كمشروع استعماري أجنبي وبين كونها ظاهرة وجدان حيّ لقومية أصيلة . ولكأنّ اتفاق الاثنين على الوحدة السياسية لسورية دليل جازم على صدور أحدهما عن الآخر .
من المعروف أنّ الحزب الاستعماري الفرنسي كان قبل وخلال الحرب العالمية الاولى يهدف الى خلق «سورية فرنسية» كمستعمرة كاملة الشروط. وكان رأسماليّو وصناعيّو فرنسا يقودون هذا الاتجاه الاستعماري ويوظفون جميع الحجج التاريخية والثقافية والاقتصادية في سبيل تعزيز هذا الاتجاه ويعقدون المؤتمرات في مرسيليا وليون لهذه الغاية. لكن الاتجاه الاستعماري الفرنسي تبدّل خلال الحرب لعوامل عديدة ليس أقلها الصراع الفرنسي ـ البريطاني حول مناطق النفوذ حتى غلب أخيراً الاتجاه نحو لبنان كبير وسورية صغرى تقسّم تباعاً إلى دويلات قزمية أربع مع تخلي الفرنسيين عن الجنوب السوري والشرق السوري الموصل لصالح البريطانيين.
وخلال وبعد الحرب العالمية الثانية كان البريطانيون عبر الحاكمية الهاشمية إما في الأردن مع الأمير ثم الملك عبدالله أو في العراق مع نوري السعيد يؤيدون ويرعون فكرة سورية الكبرى وفكرة الهلال الخصيب ضمن حاكمية هاشمية تقودها تارة عمّان وطوراً بغداد. وقد كان من شهرة وشيوع هذه المشاريع ان اختلطت في أذهان العامة والخاصة ظاهرة القومية الأصيلة مع المشروع السياسي تحت العناية الاستعمارية.
واننا نرى في هذا الاختلاط سطحية فكرية خطيرة لأنها تصبغ الشعور القومي السليم بضرورة الوحدة السياسية للأمة الواحدة بتهمة التلاقي مع المشروع الأجنبي للمستعمرة الكبرى الواحدة. فإذا قامت بريطانيا تفضّل مستعمرة هندية واحدة في شبه القارة الهندية اعتبر الكتاب انّ معارضة تقسيم شبه القارة على أساس ديني الى باكستان إسلامية وهند هندوسية ممالأة للاستعمار البريطاني. فتوافق المشروع الاستعماري مع المشروع القومي ولو سطحياً على أمر الوحدة السياسية دليل لهؤلاء الكتاب على انّ المشروع القومي هو بالضرورة المشروع الاستعماري تحت غطاء محلي.
وإذا نظرنا الى الاختلاجات الأولى للوجدان الحيّ للقومية السورية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وجدنا انّ بعض الكتّاب يعزونها الى أثر الإرساليات الأجنبية ناسين أو متناسين أنّ هم ّتلك الإرساليات كان دينياً في الدرجة الاولى وأنها اذا كانت لها اهتمامات قومية فذلك حصراً لقومياتها هي وليس لإنماء أو تغذية اية أفكار قومية محلية. أما إذا كان اكتساب السوريين ثقافة على يد هذه الإرساليات وعلماً في مدارسها قد نبّه أذهانهم الى قوميتهم فإنّ ذلك لا يعيبهم قط بل يشرّفهم.
لقد نبّهت الحركة القومية من محاذير المشاريع الاستعمارية ومغبّة عمل الإرساليات الأجنبية وضرورة استقلال الفكر القومي عن التيارات الأجنبية. لكن هذا لا يعني انّ الحركة القومية لم تدرس أو تتفادى ان تدرس تجارب الأمم الأخرى ونهضاتها .في الحساب الأخير ان ما ترتضيه الحركة القومية هو ما تفرضه مصلحة سورية لا غير.
لقد قالت الحركة القومية بقومية أصيلة من دون ان تتبع في ذلك كاهناً يسوعياً أو قسّاً بروتسطنتياً أو رأسمالياً فرنسياً أو سياسياً بريطانياً. وقالت بوحدة سورية بإرادة الشعب لا بفرض أجنبي أو مشروع توسع محلي. فالحركة القومية لا تقول بسورية كبرى ولا بهلال خصيب انما تقول بسورية موحدة في قوميتها وفي إرادتها وفي مصالحها. ومتى رأت سورية ان تقيم وحدتها السياسية في دولة قومية واحدة عملت الحركة القومية ليكون لسورية ما تريد هي لا ما يريده الآخرون.
|