يتبحّر الكتاب والمعلقون في التمييز بين التيارات السياسية والفكرية في الدولة العبرية، ويتفنّنون في التمييز بين اليهود والصهاينة، ويتحدّثون عن تيار سلم وتيار حرب في الدولة الاستيطانية القائمة في جنوبنا السوري.
ومن أسباب هذا الهفت، ربما، محاولة ساذجة لاستغلال أي تفسّخ في المتحد العبري لخدمة المسألة الفلسطينية. واكثر من يسعون في هذا الاتجاه أولئك الذين يراهنون على حلّ جزئي في ظلّ السيطرة «الإسرائيلية» - أي الذين يحاولون الحصول على مكاسب باهتة ومفلسة من ضمن «عملية السلام الاسرائيلي».
ومن أسباب هذا الهفت، ربما، محاولة ساذجة لتفادي الوقوع في شرك خصومة عنصرية دينية، أو تفادي لقب عداوة السامية الذي يحلو للدولة العبرية ومريديها إشهاره في وجه أي نقد، ولو طفيف، لأي ّعمل تأتيه هذه الدولة وعمالها وأجهزتها.
ومن أسباب هذا الهفت، ربما، محاولة ساذجة للتمهيد لدولة واحدة يتعايش فيها اليهود وسوريّو الجنوب، دولة تسمّى ديمقراطية، كما نادت بذلك بعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في أوائل السبعينات، وينادي بذلك اليوم أصحاب خيار السلام بعد مرور أربعين عاماً على الدعوة الأولى. وكما كان الخياليّون اليساريّون وراء الدعوة الأولى، نجد أصحاب المقاومة السلمية واللاعنف وراء الدعوة الحالية.
نقرّ بالطبع انّ هناك يهوداً غير صهاينة وصهاينة غير يهود. الفئة الأولى تعادي أحياناً الفكرة الصهيونية نظرياً، وتتكوّن من خليط متنافر من المتشدّدين الدينيّين والليبراليّين واليساريّين الخياليّين. والفئة الثانية هي من مسيحيّي الغرب المتصهْين. وتصرّف الفئة الأولى عند الأزمات التي تعانيها الدولة العبرية يدفعنا إلى السؤال: هل كون بعض اليهود غير صهاينة أمراً ذا شأن ما داموا يوجدون في فلسطين؟ إنّ مجرّد بقائهم في جنوبنا تأييد عمراني فعلي للدولة العبرية. فاليهوديّ الصهيونيّ في فلسطين واليهودي غير الصهيوني في فلسطين يتساويان في الاعتداء على حقنا القومي بمجرّد قبولهما عضوية الدولة العبرية. انّ ما يجمع أعداءنا هو أنهم يهود في فلسطين، ويبطل العداء متى رحلوا من جنوبنا. فمن منظار الحق القومي ليس للتمييز بين اليهودي والصهيوني أية قيمة عملية أو نظرية، بل ان لهذا التمييز سيّئة كبرى إذ انه يكرّس إمكان عدم عدائية اليهوديّ غير الصهيوني لقضيتنا رغم اشتراكه في حياة وفَلاح الدولة العبرية. ويكفي ان نذكر انّ المتشدّدين الدينيّين غير الصهيونيّين ليسوا أقلّ خطراً على حقنا في فلسطين من العلمانيّين الصهيونيّين.
أمام اليهودي المحبّ للسلام خيارَ: أنْ يبقى في فلسطين أو يغادرها. ومقياس محبته للسلام في نظرنا هو مدى بعده عن حيفا ويافا وعسقلان. ونقول لليهودي المحبّ للسلام : لتأكيد مصداقيتك، إرحلْ!
أما مسألة العداء للسامية فهي من الخيالات الخطرة، وهي من نوع قميص عثمان، أو بالأحرى قميص يهوذا. انّ العداء الحقيقي الباهر هو ذلك الذي تمارسه الدولة العبرية على شعبنا بمجرّد وجودها. فلم يمض السوريّون الى ريف بولونيا بحثا ًعن قرية يهودية يدرسون معالمها، ولم يذهب السوريّون الى أصقاع روسيا ليطردوا الفلاح اليهودي من أرضه، ولم يزوروا مدن ألمانيا ليحاصروا الغيتو اليهودي ويدمّرون مبانيه.
لقد اختصرت الدولة العبرية جميع المناقشات اللفظية حين أعلنت نفسها دولة اليهود في فلسطين. وتعلن الحركة القومية انّ في ذلك ما يكفي لتحديد هوية العدو الذي نحاربه.
|