إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

أبـنــاء الـمـنـفـي رواية وتاريخ للأمين نواف حردان

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2021-08-19

إقرأ ايضاً


من المؤلفات غير المعروفة كثيراً، للأديب والمؤرخ الأمين نواف حردان، كتاب أبناء المنفي، للكاتب الإسباني فرناندو كونساليز.

الى المهتمين بما أنتج الأمين نواف من روايات تاريخية، ومن مؤلفات مختلفة جديرة بأن تُقرأ، نورد ما كان نشره في عدد مجلة الرابطة، عن شهر تشرين الأول 1973، عن كتاب "أبناء المنفي" الغني جداً بالمعلومات عن الفترة الأخيرة للوجود العربي في بلاد الأندلس.

ل. ن.

*

لدينا كتاب قديم، لمؤلفه الكاتب الاسباني الكبير، فرناندو كونساليز، مترجم للبورتغالية ومطبوع في ليشبونة عام 1876.

الكتاب مدهش فعلاً.. وهو رواية تاريخية تقع في مجلدين من أربعة أجزاء و1435 صفحة، تروي بأسلوب بديع مؤثر أخاذ، قصة الحروب الأخيرة التي دارت بين العرب والإسبان، قبل ان يلقي العرب سلاحهم نهائياً بعد خسارتهم إسبانية، وتنبش من زوايا التاريخ، تفاصيل المقاومة البطولية الطويلة للاحتلال الاسباني، التي قادها يحي بن الأحمر آخر الامراء العرب في إسبانية.

يحتوي الكتاب معلومات كثيرة مستقاة من مصادر موثوقة لا تزال مجهولة من العدد الكبير بيننا، ويسجّل حوادث تاريخية صادقة بأسلوب روائي بلغ فيه الكاتب قمة الابداع، وأنصف العرب إنصافاً عادلاً شريفاً، ودعا الاسبان للإنحناء أمام بطولاتهم إعجاباً واحتراما، واعترافاً بما أعطوه لإسبانية وأوروبة من علم وثقافة ومعرفة وحضارة.

عنوان الكتاب "أبناء المنفي" وسنقوم في المستقبل بترجمته للعربية نظراً لقيمته الكبيرة... نكتفي الآن بإعطاء القارئ صورة مصغرة عنه، وننقل منه فصلاً خاصاً برأي المؤلف في "الحروب" الأخيرة التي دارت بين العرب والاسبان، واعترافه الكبير بما أدّاه العرب لإسبانية .

" يشعر المؤلف بإشمئزاز حقيقي كبير، اشمئزاز من الهول والوحشية عندما يصل الى هذه الحقبة المصبوغة بالدماء من تاريخ تلك الأيام. لأن ما سيتكلم عنه المؤلف لم يخلقه خياله العاطفي الثائر... انه وقائع مخيفة، نتيجة الضغط المخيف من سلطة طاغية أثيمة على العرب في مملكة غرناطة خلال 67 عاماً.

خلال هذه الحقبة من الزمن، لم يعامل العرب كبشر، ولكن كأشياء كان يتصرّف بها الفاتح المتوحش بحسب إرادته.

كل المظالم التي يمكن ان توجد، كل التجاوزات والاعتداءات على كرامة الانسان، كل الاهانات والاضطهادات تعرّض لها العرب في إسبانية.

لم يحاول الفاتح ان يترك لعامل الزمن كي يساعد على ان يهضم الاسبان العرب بإعتدال وتساهل، بمعونة الدين والشرائع والعادات... لم يحاول ان يعمل لتفاعلهم وانسجامهم مع الشعب الاسباني تدريجياً.. لم يحاول ان يخفف عنهم ثقل النير كما كانت تقضي شروط التعامل الشريف وشروط السياسة... ولماذا لا نقول... شروط الرحمة؟

منذ البدء.. منذ اليوم التالي لفتح غرناطة... بدأ السعي لتدمير العرب.

إسبانية التي أفقرها الرهبان.. إسبانية المتعصّبة العمياء، كانت تجهل تمام الجهل كم هي مدينة للحضارة العربية.

اذا كان لديها صناعة ما في تلك الايام، فهي صناعة العرب. اذا كانت قد ارتقت نفسيتها الغوتية القاسية، فبفضل احتكاكها بهم.. واذا كانت زراعتها ازدهرت، واذا كانت اراضيها التي كانت قبلاً قفراء بائرة، تحوّلت الى حقول خصبة ترويها أقنية الري، فتلك الاقنية حفرها العرب. اذا كان اطباؤها ومثقفوها يعرفون شيئاً ما، فلأنهم شربوا المعرفة من مدارس قرطبة أو قرأوا الكتب التي طلعت من تلك المدارس أقباساً من النور.

ان روح الحضارة العربية تغلغلت بعمق في الشعب الاسباني.. منها سمع الكاستلياني أصواتاً لا تحصى، ومن قوانينها أخذ عدداً كبيراً من الشرائع. حتى انه استعمل نفس نظامها المالي والإداري، حتى ألقاب قضاته وألقاب الموظفين الكبار في الدولة.

في الحقبة القليلة التي سيطر فيها العرب على اسبانية، كان رئيس القوات البحرية الاسبانية كان يدعى أمير البحر (اميرال). القاضي يدعى (القاضي) والقائد كان رئيس الجند (والوالي) كان المحافظ، (والوكيل) كان موظفاً كبيراً.

عمارات الاسبان، ملبوساتهم، وأسلحتهم، تلوّنت باللون الشرقي الذي كان يميزها عن عمارات وملبوسات وأسلحة الشعوب الاوروبية الأخرى، حتى في دينهم يوجد تأثير عربي على القداديس الموزارابية.

في الشعر.. في الموسيقى.. أعطونا ميزاتهم وآلاتهم. الشعر الاسباني الجيد في أيامنا هذه، لا يزال يحتفظ بالايقاع الجميل والشكل المقفى المقطع للشعر العربي.

لا نزال نحتفظ بالقيثارة كآلة طرب مفضلة، والصنوج والطبول كآلات تستعمل في الحروب.

إشارات وعلامات الشرف.. الاعلام التي قادتنا مرات عديدة الى الحروب والانتصارات، ليست الاعلام والنسور الرومانية، ولكنها الأعلام ذات الجناحين، التي نقلد بها الاعلام العربية التي كانت تخفق في قرطبة وطليطلة وغرناطة.

ولكن لماذا نجهد النفس لكي نبرهن على تأثر حضارتنا بالعادات العربية؟

يكفي أن تطأ قدم غريبة ما الأرض الاسبانية، حتى يجد صاحبها آثار ذلك الشعب الذي كان... الحصن، الكنيسة، المدينة، الحقول، تدل بوضوح في كل اسبانية على التأثير العربي.

اللغة... العادات.. الاغاني الشعبية.. الأعياد.. لا تزال تحفظ حيّة روح ذلك الشعب الذي مرّ من هنا كالشهاب، مع طيران الفتح السريع الذي امتدّ من اليمن حتى جبال البيرينيه، زارعاً في كل مكان آثار مروره التي لا تمحى.

يمكن التأكيد بدون اي خوف من ان يكذب القول بان نصف دماء الشعب الاسباني هي عربية، وبكلمة مختصرة: اذاً كان اجدادنا هم المتحدرون من بيلاجو وتيودوريمو، فأجدادنا هم أيضاً المتحدرون من طارق بن زياد وموسى بن نصير...

أتريدون أن تعرفوا امرأة عربية أصيلة؟ اذهبو الى الاندلس وفالنسيا.

اتريدون أن تروا هذه الامرأة بكل صفاتها وكل اشعاع جمالها الرائع الاخاذ؟ توغلوا في جبال البوخراس، وسيروا على شواطئنا من حويلفة إلى جبل طارق، وعلى شواطئ البحر المتوسط من جبل طارق الى فالنسيا.. اختلطوا بسكانها، وتعرّفوا على لغتهم ولهجاتهم، ولاحظوا عاداتهم، وادرسوا عواطفهم. عندئذ تتأكدون بانكم ترون بين أولئك السكان، المرأة الشرقية التي أتى بها العرب الى اسبانية.

وتسمعوا الى الانشاد الشعري عند ذلك الشعب، تجدون الخيال العربي بكل حقيقته وكل اتساعه وكل احاسيسه. شعر حب. شعر ألم.. شعر أمل.. بأربعة أبيات مقطّعة... شعر غير مكتوب يرتجله القلب وتنشده السعادة طوراً، وتارة ينشده اليأس، وأحياناً يغنيّه الشوق العارم.

وتفرّجوا على الرقص، يرافقه الغناء والقيثارة. لاحظوا التنورة الطويلة التي ترتديها الراقصة بكل طيّاتها وألوانها الزاهية، والصدرية المشدودة الى قد أهيف، وكتفين متحرّكين وصدر بارز وذراعين بضيّن شهيين... لاحظوا ذلك المنديل الجميل ذي الالف لون، الذي يغطي شعراً أسود كالليل، تنحدر جدائله لتلامس وجهاً ضاحكاً أسمر أو أبيض نقياً، ذي عينين سوداوين ناعستين ترشان نظرات برّاقة حباً، وذا شفتين توزّعان الابتسامات كي تساعد العينين في معارك الحب الكبير.

حدّقوا جيداً بذلك الشاب الذي يرافق الراقصة في رقصها، وزناره العريض الملون، وسرواله المشدود العريض، وجزمته اللامعة أو حذائه الأبيض... لاحظوا سكينه أو موساه يطلّ رأسه من جيبته الداخلية.. واصغوا جيداً الى اصوات الفقاشات، وتصفيق الحضور يرافق القيثارة والأغاني والرقص... والمشهد الجميل الذي يبدو امامكم.. وارفعوا عيونكم لتروا فوقكم سماء صافية تغمر ذلك المشهد بأنوار حارة، فتتأكدون عندئذ بانكم تشهدون رقصاً عربياً..

جذور قوية وعميقة ترك ذلك الشعب في الارض الاسبانية، فامتزجت دماء الغالب بدماء المغلوب، حتى أنه لم يبقَ فرق بينهما سوى كتابين.. كتابين متشابهَين جداً لا يتعارضان.

اذا نزعتم القرآن من ايدي عرب اسبانية واعطيتموهم الانجيل، واذا نزعتم الانجيل من الاسبان واعطيتموهم القرآن، عندئذ لا يبقى أمامكم سوى شعب واحد.. شعب ممتاز.

يقول البعض بأن العرب أخذوا كثيراً من اخلاق الاسبان! أما نحن فنقول بأن الاسبان أخذوا من اعدائهم كل ما تمكّنوا من أخذه، حتى أنهم صاروا شبيهين بهم، ولا فرق بينهما ".

هذا بعض ما قاله الأسباني الكاتب فرناندو دي كونساليز مؤلف هذه الرواية في أحد فصولها: كلمات صادقة حارة كبيرة، نابعة من وجدان كبير، أنصف العرب فيها، كما أنصفهم في سرده لحوادث الرواية، وسلط أضواء ساطعة على وطنيتهم واخلاصهم وشجاعتهم، وتمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم وتشبثهم بايمانهم وتعاليم دينهم، واستبسالهم في الدفاع عن حقهم بالحرية والكرامة والاستقلال والسيادة والمعتقد وممارستهم البطولة، حتى ليكاد يتراءى للبعض أن البطولات العربية التي تصفها الرواية تشبه البطولات الاسطورية. وما هي باسطورية بل واقعية تاريخية القواعد والاسس أضفى عليها قلم الكاتب الكبير تلك المسحة السحرية البديعة التي لونتها بالجمال والشعر والحماس والحب والقوة والفروسية والشهامة والعز وببعض الخيال الرائع أحياناً، وبألف لون ولون من العواطف الانسانية العديدة التي يتصارع فيها الحب الشامل الغامر الناكر الذات الذي لا حدود له، مع الحقد العنيف الجموح الطاغي، والبخل الشديد الحقير، مع العطاء السمح الذي لا يقيس التضحيات، والقومية المدافعة الصامدة المجابهة المتفانية، مع الرغبة النبيلة بالسلامة الشخصية والراحة وانقاذ الذات، والطموح الفولاذي المجنح الذي لا يرتد ولا يلتوي، فيدوس مشاعر النفس النبيلة الشاعرة المتألمة ويسحق نزعاتها الشريفة أحياناً في سبيل بلوغ الأهداف والغايات المرسومة.

لم يكتف المؤلف بذلك بل تغلغل بثاقب نظره وحدة ذكائه الى اغوار النفس العربية فسبرها وخبرها ورسم بريشة الفنان المبدع كبر تلك النفس وعزتها وكبرياءها شموخها وقوة جلد العربي وصبره وقدرته على تحمل الشدائد.. كما اقتلع من اعماق التاريخ الكثير من الاسرار التي كانت مدفونة منسية في زواياه، فأخبرنا مثلاً كيف امتدت ايدي آخر المحاربين العرب (المنفيين) الى العالم الجديد المكتشف عندئذ، أميركا، تنتزع منها الذهب والكنوز وتغذي بها حربهم الاخيرة. وكيف كانت عيون أمير (المنفيين) يحيى بن الاحمر لا تعجز حتى عن النفاذ الى قصر الامبراطور الاسباني عدوه اللدود تراقبه وتحصي عليه الانفاس.

لماذا أخفق العرب في دفاعهم الاخير عن وجودهم في اسبانية؟ تعطي هذه الرواية الجواب التاريخي الاسباني على السؤال. ومن واجب العرب كما من حقهم الاطلاع على هذا الجواب وعلى رأي الاسبان فيهم وفي حضارتهم وفي أسباب فقدانهم اسبانية.

ومن أجل ذلك قررتُ ترجمة هذه الرواية للعربية.

ولأنها علاوة على ذلك كما قلت في بدء هذه المقدمة: تحفة ادبية تاريخية رائعة كبيرة القيمة.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024