إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

عندما تتصادم الاستراتيجيات الكبرى من المشرق العربي إلى القوقاز (1)

نظام مارديني - البناء

نسخة للطباعة 2009-05-19

إقرأ ايضاً


تبدأ البناء وعلى مدى حلقات ثلاث نشر هذه الدراسة التي تضيء بشكل واضح على العلاقات الملتبسة والشائكة بين قضايا الشرق الأوسط وقضايا القوقاز والفضاءات الأستراتيجية للدول والأمم الكواسر.

لم يكن المطروح في أزمة القوقاز التي تم إيقاظها فجأة، وحسمتها موسكو بسرعة إن كنت الى جانب روسيا أم جورجيا،إنما إدارة الأزمة بتلك الحنكة السياسية، التي يتمتع بها رئيس الوزراء الروسي فلادمير بوتين، التي أكدت بقوة عودة الحرب الباردة من جديد، بعدما تعود العالم على القطبية الأحادية التي تزعمتها الولايات المتحدة، منذ سقوط الأتحاد السوفييتي في آب العام 1991 . وليس سراً أن إدارة جورج دبليو بوش السابقة، وحلفائها من المحافظين الجدد بقيادة وولفوويتز، وديك تشيني، ورامسفيلد وكوندليزا رايس، كانوا هم المسؤولين عن دفع العالم من جديد الى مناخات المواجهات الدولية، في وقت كانت الشعوب أكثر أقتناعاً بأن التعددية في مراكز القرار العالمي، هي أفضل من أنفرادية الأحادية القطبية. هذه المقدمة كان لا بد منها، ولكن السؤال الذي بدا أنه تاه وسط ضجيج آلة الحرب بالقوقاز، هو لماذا تعامل الروس بهذه الحدة مع معضلة ظلت لسنوات طويلة ) 1993 ( محور شد وجذب مع جورجيا؟ وهل صحيح أن أوسيتيا الجنوبية كانت هي الدافع الأساس للتحرك العسكري الروسي؟

مصالح متشابكة

من الطبيعي القول أن اندلاع المواجهات كان متوقعاً ، ولكن المفاجئة أن ميدان المواجهة كان أقليم أوسيتيا التي تفتقر لأي مواقع إسترتيجية، وليس أقليم أبخازيا الذي يحتل شريطاً طويلاً على ساحل البحر الأسود، وبما أن للروس أسطولاً بحرياً في هذا البحر فهم كانوا بحاجة حقيقية للساحل الأبخازي، وهو الأمر الذي كان دافعاً لإعلان «مجلس السوفييت الأعلى » أنه دولة قومية مستقلة وذات سيادة منذ العام 1991 ، ولذلك أعتبرته جورجيا ورقة روسية للضغط عليها، مما شكل نقطة أنطلاق للقوات الروسية ، الى باقي الأراضي الجورجية. وقد أثبت الرد الروسي في ذلك الوقت حقائق مهمة، حددها المراقبون بالنقاط

التالية: } وجود خطط مفصلة للقوات الروسية، التي لم تتأخر في التدخل البري والجوي خلال ساعات من بدء الأجتياح الجورجي. } تمتع القوات الروسية بقدر عال من الأستعداد للتدخل العسكري المباشر. } التنسيق التام بين العمليات العسكرية وعمليات التغطية الأعلامية والسياسية، وتوجيه الأتهام الى القيادة الجورجية بأرتكاب جرائم حرب ضد المدنيين.

} أثبتت القوات الروسية أنها ما زالت رقماً صعباً في المعادلات الدولية.

غير أن هذه الحرب كان لها تداعيات أخرى على الصعيد الدولي والإقليمي، وهي:

} أولاً، لايمكن النظر الى الصراع الدائر في القوقاز بأعتباره قضية منعزلة عن العالم الأوروبي، بل بأعتبار هذا العالم المترامي هو أكثر المناطق تضرراً بسبب توقف تدفق الغاز والنفط الى أوروبا. صحيح أن صراع النفوذ بين أميركا وروسيا في أوروبا الغربية يترجم الآن بصراع «الأنابيب »، أي بين نقل الطاقة الروسية الى أوروبا الغربية و «الأنابيب البديلة والمضادة » التي تتحفز الولايات المتحدة على إنشائها. إلا أن أوروبا تبقى معنية أكثر بالصراع من الولايات المتحدة، لاسيما بعدما أعلنت روسيا عن نيتها تأسيس «أوبك خاص بالغاز .»

ويسعى الأتحاد الأوروبي جاهداً للتخلص من أعتماده على روسيا للتزود بالطاقة، حيث يستورد 25 بالمئة من حاجاته النفطية و 50 بالمئة من استهلاكه للغاز من روسيا. وهو ما شكك به ميشيل كلير مؤلف «القوى البارزة والكوكب المتقلص » عندما قال: إذا لم تعد جورجيا منطقة آمنة لمرور خط النفط فستذهب خطط التخلي عن أعتماد أوروبا على الطاقة الروسية أدراج الرياح. غير أن كلير يتناسى أنه ليس من السهل على أوروبا البحث عن مجهز غاز آخر لها، أو المجازفة بخسارة الغاز الروسي، ولذلك حاولت أوروبا التمايزعن التوجه الأميركي في قراءة أحداث القوقاز، وهو ما بدا في مناقشات حلف شمال

الأطلسي، ثم في مجلس الأمن الذي عجز عن التصرف بفاعلية لمعاجة هذا النزاع، لذلك أتخذ الأتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا طريق الحياد، مع أنه يتبوأ موقعاً جغرافياً، وقرون من التاريخ المشترك، يمنحه الأولوية بالتدخل الفوري لمنع الأزمة من التفاقم. البعض أعتبر موقف فرنسا «ايجابياً » لكنه «خطراً » في الوقت ذاته. فالموقف الأوروبي من استقلال دويلات الأتحاد السوفييتي السابق واضح ومعروف، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للنفوذ الروسي في تلك الدول. وقلق «أوروبا القديمة » لا يأتي فقط من أمكانية حدوث قطع لأمدادات الطاقة إليها وهي على أبواب الشتاء، بل قلقها ينبع أساساً من التحركات الأميركية

التي تضر بمصالح الأتحاد الأوروبي في المديين القريب والبعيد، وما التوقيع على نشر الدرع الصاروخي بين وزيرة الخارجية الأميركية والقيادة البولندية إلا مظهر من مظاهر استمرار الأدارة الأميركية على اللعب بالنار على حدود روسيا، وإذا كانت الولايات المتحدة تستهدف ترسانة الصواريخ النووية الروسية بالدرع الصاروخية هذه في بولندا وتشيكيا فإن أنتشارها العسكري )التقليدي اليوم، والنووي غداً( على مقربة من أهم مصادر الطاقة النفطية في العالم )بحر قزوين والخليج( وفي محاذات خطوط النفط الجديدة )باكو- تبليسي- جيهان(، يستهدف «ترسانة » الطاقة الروسية )من نفط وغاز( التي

يتوجه ربع حاجة أوروبا اليها منها. لقد تم تجريد روسيا حتى الآن من سلاحين من أسلحتها الأربعة الإستراتيجية:

من «سلاحها العقائدي » ومن «سلاحها الإمبراطوري »، والآن تخوض الولايات المتحدة حرباً باردة ضد روسيا من أجل تجريدها من سلاحيها الأخيرين: الترسانة النووية والترسانة الطاقية )نفط وغاز(، مما يربك الأتحاد الأوروبي ويبقيه تحت الهيمنة الأميركية. من هنا توجس «أوروبا القديمة » من التوجهات الأميركية التي تنظر الى «أوروبا الجديدة »، أي دول أوروبا الشرقية، على أنها «الحاجز الجيو- إستراتيجي الأميركي » بين روسيا والأتحاد الأوروبي، و »المنطقة الوسطى » التي يمكنها الإفادة منها كثيراً في ممارسة الضغوط الإستراتيجية على الطرفين، أي على روسيا والأتحاد الأوروبي، والأخير يدرك إن لدى الروس خطوطاً حمراء لا يمكن أن يسمحوا لأميركا أو لأي دولة في العلم تجاوزها. وإنشاء قاعدة أو قواعد مضادة للصواريخ في بولندا وتشيكيا هو تجاوز لهذه الخطوط. فهل يجتهد الأتحاد الأوروبي للدفاع عن مصالحه أم سيستمر في خدمة المشاريع الأميركية؟

} ثانياً، تتخذ تركيا في عهد الرئيس عبد الله غول ورئيس الحكومة رجب طيب أردوغان من المواقف الدولية المتوازنة والمبادرات والوساطات ما أهلها للقيام بدور الجسر السياسي لا بين الشرق والغرب فقط بل أيضاً بين الشمال والجنوب، وما التحرك الذي قام به أردوغان، شملت أتصالاته، موسكو وتبليسي، إلا محاولة لأطفاء نيران المواجهات العسكرية بالقرب من خطوط النفط، التي لتركيا نصيب وافر منها في أراضيها، وتزامن هذا التحرك لأردوغان مع موقف لافت للحكومة التركية العضو في حلف الأطلسي، حينما رفضت التصريح للسفن الأميركية المحملة بمساعدات لجورجيا بالمرور في مضيقي البوسفور والدردنيل للعبور من البحر الأبيض الى البحر الأسود. غير أن تحرك أردوغان لم يكن للوساطة فقط بل للدعوة لمشروع تركي لإتحاد دول القوقاز، وكان أستبق الرئيس التركي غول هذه الزيارة بتصريح أكد فيه أن النزاع الجورجي الروسي قد كشف عجز الأحادية الأميركية عن توجيه العالم، داعياً الى نظام دولي جديد لا يقوم على الأحادية القطبية وإنما على تعدد المراكز لتوجيه شؤون العالم. ثالثاً: في هذه اللحظة الفاصلة من الحراك الدولي، يذهب الرئيس السوري بشار الأسد الى روسيا ويحط رحاله ضيفاً كبيراً على الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف في منتجع سوتشي على البحر الأسود. وهي الزيارة الثالثة من نوعها الى هذا البلد الحليف لقضايانا، غير أن هذه الزيارة تكتسب أهمية خاصة في ضوء الظروف الإقليمية والدولية التي تدفع دمشق وموسكو الى توثيق علاقاتهما الثنائية في مختلف المجالات العسكرية والتكنولوجية، لا سيما وأن

روسيا تشعر أنها مستهدفة في القوقازمن قبل الغرب وهو الشعور الذي عانت منه سوريا خلال طيلة السنوات الماضية. لذلك حرص الأسد عشية وصوله الى روسيا على اظهار تضامن دمشق مع موسكو في أزمتها مع الغرب.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024