إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

ميليس والقَبَّة الحمراء!

نديم محسن

نسخة للطباعة 2005-11-29

إقرأ ايضاً




في العام 1939، نحت إدوين ساذرلاند عبارة White-collar crime، أي "جريمة القَبَّة البيضاء" للتعبير عن جرائم الأعمال Business كالرشوة والتزوير واستخدام الموقع الرسميّ للإفادة الخاصّة والفساد ولتمييزها عن الـ Blue-collar crime أي "جريمة القَبَّة الزرقاء" كالسرقة المباشرة عبر الخلع والنشل وجرائم العنف كالقتل والإغتصاب.


ولعلّ التسمية تعكس صورة المجرم وشكله وهندامه: مجرم القَبّة الزرقاء معدَم ماليَّا، عامل يدويّ أو فقير، متّسخ القميص والقَبَّة بسبب عمله والعرق، يتطلّب ارتكاب جريمته جهدًا فيزيائيًّا جسديًّا. أمّا مجرم القَبَّة البيضاء فموظّف أو مدير أو صاحب أعمال، ميسور مادّيًّا إن لم يكن غنيًّا أو فاحش الثراء، يعمل من خلف مكتب، في بنك أو شركة أو مؤسّسة حكوميّة أو خاصّة، لا يحتاج لارتكاب جريمته لأكثر من هاتف أو كمبيوتر أو طائرة خاصّة ولا يزيده ارتكابُها إلاّ سلطة وسيطرة وفخرًا وقَبَّةَ قميصه إلاّ بياضًا ونصاعة وأناقة!


وبفضل نموّ القطاعات المصرفيّة والإقتصاد المعرفيّ والتكنولوجيا والإتّصالات، خاصّة في القرن الأخير، خطت الجريمة البيضاء خطوات كبيرة حتّى باتت الخسائر الناتجة عنها إحصائيًّا توازي عشرات أضعاف خسائر الجريمة الزرقاء. غير أنّ الكثيرين من الأفراد لا يشعرون إلاّ بالجريمة الزرقاء لأنّها تستهدف الفرد بشكل واضح مرئيّ مباشر حسّيّ، بينما تصيب الجريمة البيضاء المجموع فتتوزّع مصيبتها بشكل أفقيّ غير مباشر مستتر وأحيانًا بتأثير بعيد.


وإذا كانت الجريمة الزرقاء تستثير عبر الفعل العنفيّ الجسديّ الدمويّ الماديّ كلَّ بشريّ بحكم الغريزة إن لم يكن الأخلاق، فخطورة الجريمة البيضاء تكمن في أنّها غير مرئيّة، عقليّة، معرفيّة، حديثة، معقّدة، تقنيّة غالبًا، وتمرّ مرور النسيم. وينعكس الفرق بينهما على نظرة العامّة إلى مقترف الجريمة الزرقاء فتراه سارقًا عديم الأخلاق مغتصبًا مجرمًا سفّاحًا وحشًا قاتلاً، بينما تنعم على مقترف الجريمة البيضاء بـ"ذكيّ" أو "شاطر" وفي أسوأ الأحوال بـ"لَعين" أو "محتال"!


وبينما تحفل سجون العالم بمجرميّ القَبّة الزرقاء، تكاد تخلو من مجرميّ القَبّة البيضاء، لأسباب ليس مجال تفنيدها الآن، ولكن ليس أقلّها سلطة مجرميّ القبّة البيضاء ومواقعهم السياسيّة والإقتصاديّة. ولعلّ جبران قارَب الموضوع في مواكبه حين أنشد: "فالسجن والموت للجانين إن صغروا/ والمجد والفخر والإثراء إن كبروا؛ فسارق الزهر مذمومٌ ومحتَقرٌ/ وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر؛ وقاتل الجسم مقتول بفعلته/ وقاتل الروح لا تدري به البشر"!

إنّ مستوى تطوّر دولة ما أو تأخّرها، في بعض المقاييس، مرتبط بمدى قدرة أنظمتها السياسيّة والقضائيّة على تعريف الجريمة البيضاء وتنفيذ قوانين الرقابة والمحاسبة في شتّى المجالات الحيويّة التي تجري ضمن نطاق سلطتها، خاصّة وأنّ الوصول إلى، أو المحافظة على، أو تمتين السلطة السياسيّة هي من طلائع غايات الجريمة البيضاء.


إنّ نظامًا يستسهل الجريمة الزرقاء هو نظامٌ وحش، ولكنّ شعبًا لا يشعر بالجريمة إلاّ إذا استفزّته الدماء هو شعب يعيش في الزمن الوحشيّ! ولا تستثيره الجريمة البيضاء بقدر الجريمة الزرقاء وأكثر، هو شعب في غيبوبة!


2


التمديد للرئيس اللبنانيّ إميل لحّود على صبيانيّته واغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق الراحل رفيق الحريري على خطورته وتقريرا ميليس ورود – لارسن على غرابتهما، وبصرف النظر عن نهاياتهما، تفاصيل لا بدّ منها لاستكمال الغزو الأميركيّ المسلّح للمشرق بُغية إعادة تفتيته ورسم خريطته الجديدة الصُنِعَت في أميركا. تفاصيل لو لم تكن لكان غيرها. حتّى القرار 1559 السابق في تحضيراته لكلّ الأحداث تلك، والقرار 1636 اللاحق لها، على أهمّيّتهما الدوليّة، وما بينهما، مجرّد تفاصيل. والتحقيق الآتي مع الرئيس الشاميّ بشّار الأسد مجرّد تفصيل معنويّ إذلاليّ مثلما كان تفتيش القصور الرئاسيّة في العراق. فحين تستنفد الأنظمة البائسة مهمّتها وتنتهي صلاحيّة وكالتها الأميركيّة كباناما نورييغا وأفغانستان طالبان وعراق البعث العسكريّ، لا يوقف القرار الأميركيّ بالهجوم إلاّ استيفاء غاياته الإستراتيجيّة.


واهمٌ مَن يعتقد، وخبيثٌ مَن يروّج أنّ أميركا في انقضاضها على العراق والآن على الشام ولبنان إنّما تستفيد من أخطاء الأنظمة الحاكمة فحسب، وكأنّما سياسة أميركا حيال النفط والغاز الطبيعيّ في العالم، والمنافسة مع أوروبا واليابان في الميادين كلّها، واحتواء الأخطار العسكريّة للدول غير الخاضعة للأوامر الأميركيّة، واستباق القوى الإقتصادية المتنامية في الصين والهند، كأنّما أميركا، وحيدة القرن، ذات الإنتاج والإستثمار والإستهلاك العسكريّ الهائل، حامية إسرائيل وداعمتها الأولى، تنتظر قابعة قانعة في معقلها حتّى يقع نظام ما بخطء فتتحرّك آنذاك للإستفادة منه ولتنفيذ سياساتها في العالم، ثمّ تعود لتنتظر خطأ جديدًا في مكان ما لتستكمل التحرّك، وثمّ تعود وتنتظر لعلّ وعسى! واهمٌ أو خبيثٌ مَن يروّج، أو الإثنان معًا.


في 27 ت1 2005، صرّح جون نيغروبونتي المدير القوميّ للإستخبارات الأميركيّة بأنّ "تشجيع الديمقراطيّة بات يندرج في صلب الإستراتيجيّة الجديدة لأجهزة الإستخبارات الأميركيّة..." و"إنّ واحدًا من أهداف أجهزة الإستخبارات هو أن تصير أكثر تلاؤمًا مع المخطّطات الكبرى للأمن الوطنيّ التي حدّدتها إدارة بوش والتي تنوي بذل مزيد من الجهود لبسط الديمقراطيّة في العالم." أمّا كيف ينوي مدير 15 جهاز أمن من بينها السي آي إي ووكالة الأمن القوميّ "تشجيع" الديمقراطيّة و"بسط"ها في العالم، فحتمًا ليس بالمحاضرات وندوات الحوار والحلقات الجامعيّة والإقناع!


وأمّا الديمقراطيّة المبتغاة، فدومًا بحسب الرؤية الأميركيّة ومصالحها، ومَثَلها الحيّ: ديمقراطيّة التقسيم المذهبيّ العرقيّ العراقيّ! إذذاك، تكون الجرائم البيضاء من اختصاص الأمم المتّحدة ومجلس حربها، والجرائم الزرقاء من وزن قنابل العَشرة أطنان!


3


في أفضل أحوال تقرير ميليس الهجين بآلافه المؤلّفة من الإفادات والخرافات والإعترافات والإفتراءات والإكتشافات والإفتراضات، والذي استعجل إصداره في موعد باكر لم يفرضه مجلس الأمن وإنّما الرزنامة الأميركيّة، فإنّه لن يكشف أكثر من 25% من حقيقة مسألة إغتيال الحريري. والسبب؟ حصر تحقيقه بالجريمة الزرقاء إنطلاقًا من أكذوبة مقولة "النظام الأمنيّ السّوريّ – اللبنانيّ المشترك"، فيما الجريمة السّياسيّة هي خلاصة مزيج الجريمتين!


فالحقيقة أنّه منذ أن ضمن البعث العسكريّ في الشام سلطته على لبنان لقاء موافقته ومشاركته الولايات المتّحدة بتمويهٍ من الأمم المتّحدة في ضرب العراق عام 1990، ولبنان إنّما يخضع، في الدائرة الكبرى، لنظام أمنيّ - سياسيّ أميركيّ – شاميّ مشترك! نظام أمنيّ - سياسيّ أميركيّ - شاميّ حصين متين! هنا الإقتسام الأوّل للبنان.


وفق الترتيب الإستراتيجيّ هذا، يظلّ لبنان جيوسياسيًّا في الحاضنة الأميركيّة في حين يكون لبنان "زَواريبوتنفيعيًّا" في رعاية المخابرات المحلّيّة البعثيّة العسكريّة الشاميّة، ومرتعًا. أي ترسم أميركا الإطار العام، فيما ينعم البعث العسكريّ بتلوين التفاصيل، على ألاّ تخرج الألوان عن الإطار العام.


فتحكيم أنظمة متخلّفة ولكن مستقرّة ومتجبّرة كان دومًا في صلب الإستراتيجيا الأميركيّة وأفضل وصفة لتهميش أيّ دولة وتحطيم قدرة أي شعب على النهوض ريثما يتفرّغ البنتاغون للإنقضاض.


وإضعاف المسيحيّة السياسيّة في لبنان في اتّفاق الطائف وما تلاه من ممارسات سياسيّة تُخضِع قياداتها التقليديّة والحزبيّة لقيادات إسلاميّة ودرزيّة تقليديّة وحزبيّة يقع في عين الإستراتيجيا الأميركيّة بتقويض بُنية المشرق الإجتماعيّة.


وتبوُّؤ الراحل رفيق الحريري بخلفيّته السعوديّة رئاسة مجلس وزراء لبنان في العام 1992 وإطلاق تيّاره "المستقبل" السنّيّ يتماشى والإستراتيجيا الأميركيّة، خاصّة وأنّ سياساته النقديّة والإقتصاديّة تنتمي إلى المنظومة الرأسماليّة المتطرّفة في تعاطيها مع الإقتصاد أرقامًا لا إجتماعًا؛ سياسات أسقطت لبنان في دوّامة دَين مشروط إلغاؤه بصفقة "سلام" مع إسرائيل.


وحصر المقاومة في جنوب لبنان بالحزبيّة الدينيّة الشيعيّة لا يخرج عن الإستراتيجيا الأميركيّة مهما صفا المقاومون وتنزّه القادة وتحكّموا. فالمقاومة، شيعيّةً، تبقى واضحة المعالم معلّبة الهويّة مضبوطة الإيقاع داخليًّا وعرضة لصفقة مستقبليّة، أو ضربة، إقليميّة تمتدّ إلى إيران مرورًا بالعراق. والإثنان معًا، تيّار "المستقبل" وحزب الله، مادّة يمكن إشعالها والإستفادة من اقتتالها في خدمة الإستراتيجيا الأميركيّة، بعد أن ينضج إقتتال العراق الطائفيّ بهمّة الزرقاويِّ الأوّل رأس حربة المكتب البيضاويّ، أو ربّما لتنضيج اقتتال الشام!


فالحاضنة الأميركيّة تهيّئ لمشرقٍ مفتّت سنّيّ – شيعيّ؛


لمشرقٍ مجزّأ وساحةِ تصادمٍ والتحامٍ بين الأمم العربيّة ذات الكثافة السنّيّة من المغرب إلى مصر إلى الجزيرة العربيّة من جهة وإيران الشيعيّة من جهة ثانية؛


لمشرقٍ لا إسلامًا طريًّا فيه! بل أصوليّات شيعيّة وسنّيّة، فالحاضنة الأميركيّة لا تريد إسلامًا مشرقيًّا يسوعيًّا لطيفًا مرنًا عقلانيًّا منفتحًا حواريًّا حضاريًّا متسامحًا، فيه من عمليّة الحقبة الأمويّة، أو من فلسفة القرون العبّاسيّة، أو من تصوّف يسبغ على الحلاّج الكثير من عقيدة الصلب والقيامة، أو من علويّة ترى في عليّ وجه يسوع وصفاته الإلهيّة والتجسّد؛


ولمشرقٍ لا مسيحيّين فيه! فللحاضنة الأميركيّة مسيحيّتها التوراتيّة المتصهينة الخارجة من الأصوليّة البروتستنتيّة مطلع القرن العشرين والتي لا تفهم يسوع المشرق الآراميّ الآشوريّ.


أمّا في الدائرة الصغرى، فحَكم لبنانَ نظامٌ أمنيّ – إقتصاديّ (إقطاعيّ – رأسماليّ) – إجتماعيّ (طائفيّ – عائليّ) مشترك! نظام أمنيّ – إقتصاديّ – إجتماعيّ شاميّ – لبنانيّ قمعيّ رجعيّ! وهنا الإقتسام الثاني للبنان.


وأمّا كيف ارتأى البعث العسكريّ الشاميّ إدارة الشأن اللبنانيّ، أي أن يحتفظ بدفّة الأمن والعسكر فيما يوكّل دفّة المال والأعمال للحريريّ، فأيضًا من التكتيك الذي لا يخرج عن الإستراتيجيا الأميركيّة. وقياسًا على تعريف ساذرلاند، فإنّ النظام الأمنيّ - السياسيّ - الإقتصاديّ الذي حكم لبنان بقبضة من حديد منذ الطائف، هو نظام تَشارك الجرائم وتَقاسمها على أساس المِهَن: بعضه متخصّص بالأمن والمخابرات وطبيعة جرائمه زرقاء القَبّة، وبعضه الآخر متخصّص بالمال والعقارات والصفقات والتلزيمات وفوائد سندات الخزينة وطبيعة جرائمه بيضاء القَبّة، وبعضه المتبقّي ذو ماضٍ إقطاعيٍّ ميليشياويٍّ طائفيِّ المآثر والمذابح وحاضرٍ إهداريِّ الصناديق وجامعٌ للمجد من قَبَّتَيه!


على مدى سنيّ الإقتسام، قام الشقّ الأمنيّ من النظام الأمنيّ - الماليّ الشاميّ - اللبنانيّ بتأمين الشرعيّة السّياسيّة والحماية الأمنيّة للشقّ الماليّ منه، فيما قام الأخير بتأمين حصّة الأوّل من الفساد! راشٍ ومرتشٍ كيفما قلّبتها. وبالرّغم من كلّ التفاصيل اليوميّة ومناكفات الإنتخابات، حوّل الإقتسام الأمنيّ - الإقتصاديّ لبنانَ إلى مَنْهَبة، وحَكمه حكمًا دكتاتوريًّا شرسًا وتَوزَّع الأدوار وتكاتَف وتكافَل وتعايَش واستفاد من الموقع الرسميّ للربح الخاص، ولعلّ النذير في ذلك كان شركة سوليدير الخاصّة التي، وفي سابقة عالميّة، تصرّفت بأملاك المواطنين وحقوقهم مستندة إلى سلطة لا يملكها إلاّ القطاع العام!


وأمّا في حالات شدّ الحبال لإعادة التموضع وجسّ أيّ تغيير في ميزان القوى، فكان حُماة الأمن يشيّعون أنّ الإصلاح مستحيل بوجود عوائق أعمدة النظام الإقتصاديّ – الماليّ، فيما يشيّع القابضون على السّياسات الماليّة والإقتصاديّة أنّ الإصلاح كان دونه الفاسدون من النظام الأمنيّ. وفي السياق، وفيما البِنان تشير إلى البِنان، إغتنى طرفا النظام وازدادا تسلّطًا وفرّخا أزلامًا ومعتاشين وموالين من أعلى سوق العمل الإصطناعيًّة برواتبها المضخّمة إلى أسفل الهرم التنفيعيّ، بينما تراكم الدَّين العام واستشرى الفساد وتجبّرت الطائفيّة وضُرِبت الأحزاب العقائديّة العلمانيّة وتأصّلت ثقافة العبوديّة للمال والبوط.


إنّ المضمون واللغة المتدنِّيَين للإتّصال الهاتفيّ بين رستم غزالي ومستر x والذي اختاره ميليس بدهاء ونشره في تقريره الأوّليّ (الفقرة 95) ينمّ عن مستوى متدنّي لغةً ومضمونًا في تعاطي البعث العسكريّ وجِهةٍ لبنانيّة للضغط على الحريريّ. ولكن لو تمّ تسجيل مكالمة لحوار في الفترة ذاتها بين خصمين مستجدّين للبعث العسكريّ الشاميّ في لبنان، بين مستر w مثلاً وأحد الشخصيّات اللبنانيّة السياسيّة المموّلة له، أو تسجيل في زمن الإستقرار الأمنيّ - الإقتصاديّ بين الراحل اللواء غازي كنعان ومستر h حول الجنرال عون وعودته من فرنسا، لما أتت اللغة والمحتوى بأرقى!


في مهرجان في عين زحلتا بتاريخ 25 أيلول 2005، أعلن النائب وليد جنبلاط أنّ "الوصاية أو الإساءة إلى البُعد العربيّ، إلى رفيق الحريريّ إلى وليد جنبلاط ابتدأت عام 2000، ابتدأت عام 2004 أكثر بالتمديد، من قَبل لا نستطيع أن نقول أنّه كانت هناك وصاية" (النهار والسفير في 26 أيلول 2005). فالمشكلة مع نظام البعث العسكريّ بالنسبة إلى جنبلاط نشأت منذ ورث بشّار الأسد الحكم في دمشق، ومنذ أن بدأ نجم غازي كنعان بالأفول بعد انتخابات العام 2000، وبعد أن حلّ رستم غزالي مكان غازي كنعان حاكمًا فعليًّا للبنان. أيّ أنّ "الوصاية" بدأت حيث فقد تحالف الجريمة البيضاء والجريمة الزرقاء توازنه واستقراره الضمنيّ العرفيّ بسبب الحدّ من صلاحيّات اللواء غازي كنعان، والإندفاع في سياسات تريد إخضاع السياسة والمال كلّيًّا للأمن ولا تقيم للتحالف الأمنيّ – السّياسيّ – الإقتصاديّ السابق إعتبارًا. المشكلة بالنسبة إلى جنبلاط، هي في اقتسام الغنائم، وليست في الجريمة! والمشكلة هي في محاولة الجريمة الزرقاء السيطرة التامّة على الجريمة البيضاء بدل مشاركتها كما كان العُرف.


ثمّ... نجحت الجريمة البيضاء العالميّة في استدراج الجريمة الزرقاء إلى... ارتكاب الجريمة!


فالشقّ الأميركيّ من النظام الأمنيّ – السياسيّ يوحي ويخادع ويعطي انطباعات ويرفع الغطاء ويؤمّن الأقمار الإصطناعيّة المشوِّشة إذ يدقّ ناقوس ديمقراطيّة نيغروبونتي ليلاقي ديمقراطيّة بريمر الزاهرة حاكم العراق الأميركيّ الأوّل؛ شقّ أميركيّ مخطّط متخصّص لا يترك بصمات ولا يلوّث اليدين ولا يتدخّل على الأرض طالما هناك مَن في شقّ غبيّ يرتضي لنفسه مهنة تنفيذ الجريمة الزرقاء لحسابات خاسرة.


وبالدم المراق، غسلت الجريمة البيضاء المحلّيّة يديها: فالنظام السّياسيّ – الإقتصاديّ – الإجتماعيّ اللبنانيّ الفاسد إستغلّ دخان الإنفجار وفظاعة الجريمة الزرقاء ليحرف النظر عمّا ارتكبه على مدى عقد ونصف، وخرج من معموديّة الدم نقيًّا مهفهفًا لا يضاهيه طهارة إلاّ نهر الأردنّ المقدّس!


4


إقتسامان: واحد أميركيّ - شاميّ إقليميّ وثانٍ أمنيّ - سياسيّ - إقتصاديّ محلّيّ.


طبيعيّ، والحال، أن يكون في الشام مَن هم على اتّصال دائم بأميركا حتّى في أوقات التأزّم لاستشفاف حدود التحرّك وآفاق المدى المسموح التجوال فيه. وطبيعيّ أن يكون للبعث العسكريّ الشاميّ في لبنان اتّصال دائم بالإدارة الأميركيّة على مستوى ما، لمثل ذاك الإستشفاف. وطبيعيّ أن نفترض أنّ اللواء غازي كنعان كانت له علاقات مهنيّة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة، الشريك الإستراتيجيّ في لبنان. وطبيعيّ إذًا أن تكون الولايات المتّحدة الأميركيّة بأجهزتها ومسؤوليها الحاليّين أو السابقين المؤثّرين نسجت علاقات مهنيّة مع سياسيّين وضبّاط أمنيّين من الشقّ الأمنيّ – السياسيّ الشاميّ – اللبنانيّ، تمرّر لهم ومن خلالهم موقفها كما وطُعمها المدسوس والأفخاخ!


إقتسامان، لا يستبعدان أبدًا الشقّ الأمنيّ الشّاميّ - اللبنانيّ من احتمال ارتكاب جريمة إرهابيّة وحشيّة ضخمة بحجم تلك التي أعدمت الحريري في بيروت، ولا يبرّآن، ولكنّهما أيضًا يستحضران بقوّة دور الشقّ الأمنيّ - السياسيّ الأميركيّ في الإحتمال.


فهل طلب ميليس من الأميركيّين أن يقدّموا له تسجيلات التنصّت التي يقومون بها على مدار الوقت والأرض جوًّا وبحرًا وبرًّا؟ فإن اتّضح أنّهم رصدوا اتّصالات وعرفوا بالجريمة قبل حدوثها وأخفوا الإبلاغ عنها، أفلا يكونون مشتركين بالجريمة؟


هل اطلع ميليس على مسرى اتّصالات موظّفي السفارة الأميركيّة والمسؤولين فيها وكثافتها واتّجاهاتها قبل الإغتيال وبعده؟


هل طلب ميليس التحقيق مع مَن، مِن الإدارة الأميركيّة، طمأن الحريري لناحية أمنه الشخصيّ قبل أسابيع من الإغتيال، على ما بات معروفًا، وأيضًا ذكره مرارًا مدير المخابرات اللبنانيّة السابق جوني عبده المقرّب من الحريريّ كما ونهاد المشنوق مستشار الحريري السابق؟


وما دام التمديد للرئيس لحّود هو في الخلفيّة السياسيّة لتقرير ميليس، فهل استدعى المحقّقون جايمس بايكر وزير خارجيّة أميركا السابق بصفة شاهد لمساءلته حول مَن كلّفه بتسريب معلومات مفادها لا مبالاة بلاده بمسألة التمديد للرئيس لحّود؟


وهل استدعى ميليس وزيرة خارجيّة أميركا كوندوليسا رايس واستوضحها عن تصريحاتها حول إعادة ترتيب الشرق الأوسط وانتهاء فترة تقسيمات سايكس – بيكو، وفي ماهيّة الخطوات العمليّة لذلك وفي هل اغتيال الحريري والتداعيات يساهم في إعادة الترتيب؟


وهل وهل وهل؟


وكيف في جوّ سياسيّ مفعم بالشحن والشرار، وفي منطقة إقليميّة متفجّرة، وتحت وطأة القرار 1559 وتصريحات أميركا وفرنسا المتواصلة والمتكرّرة أنّ لبنان "تحت المجهر"، وإنذارات الأمم المتّحدة وفرنسا من لائحة أسماء معدّة للإغتيال على رأسها الحريريّ، مرّت كلُّ الحركة المخابراتيّة لإغتيال الحريريّ المفتوحة على عشرات الأشخاص ومئات الإتّصالات الخلويّة والعاديّة على مدى أسابيع حيث كان الحريريّ تحت المراقبة على الأقلّ قبل شهر من التفجير من جانب أشخاص يخطّطون للجريمة (الفقرة 141 من تقرير ميليس)، وربّما شهور بحسب رواية أخرى، من دون أيّ رصد من أجهزة المخابرات الأميركيّة؟ (للذكرى، وللذكرى فقط، وبتقنيّات تعود إلى نصف قرن مضى تقريبًا، رصدت الولايات المتّحدة وسجّلت بكلّ وضوح عام 1967 مكالمات جنود إسرائيليّين مع قيادتهم أثناء تصفية مئات الأسرى المصريّين وعشرات جنود الأمم المتّحدة في العريش!)


وثمّ... إن كان شاهد سوريِّ الأصل يعيش في لبنان وماهر الأسد وآصف شوكت وبهجت سليمان وحسن خليل (الفقرة 96) يعرفون باغتيال الحريريّ، وجميل السيّد ومصطفى حمدان وريمون عازار وعلي الحاج وناصر قنديل ورستم غزالة وأشخاص من جماعة السيّد أحمد جبريل في لبنان من بين آخرين (الفقرة 101) يعرفون، وضابط سوريّ كبير (الفقرة 99) وزهير إبن محمّد سعيد الصدّيق (الفقرة 112) وحزب البعث في لبنان (الفقرة 105) ومسؤولين لبنانيّين كبار وضبّاط سوريّين ومسؤولين سوريّين سبعة (الفقرة 106) والشيخ أحمد عبد العال من الأحباش (الفقرة 196 و197) إضافة إلى 8 أرقام هاتفيّة و10 هواتف خلويّة استعملت لتنظيم رصد السيّد الحريريّ (الفقرة 121) و6 منها لتنفيذ الإغتيال (الفقرة 122)، وإنْ أضفنا العدد البشريّ المطلوب لتنفيذ أوامر كلّ أولئك المسؤولين (السّياسيّين) والضبّاط الشاميّين واللبنانيّين والحزبيّين من رصد وتحضير وتنفيذ، فإنّه بالحسابات المخابراتيّة، لم يبقَ غير القارئ والكاتب ممّن لم يعرفوا أو يشتركوا في تحضير الإغتيال!

كلّ هذا، و15 جهاز أمن أميركيّ تطوّق الأرض والفضاء بكل التقنيّات التصويريّة والتنصّتيّة والبشريّة والإعتراضيّة، ولم تعرف؟


ليس غريبًا أن يستعمل نظام عسكريّ لغة التهديد والوعيد، كما ذكر ميليس في تقريره (الفقرتين 26 و27) بالرغم من أن التحقيق لم يؤكّد هذه الإفادات بعد. فالجريمة الزرقاء متوحّشة، ولم تعبر بعد إلى حنكة الجريمة البيضاء وتهديداتها المبطّنة وأساليبها الخفيّة. ولكنّ تهديد جهة أولى لجهة ثانية لا يلغي إمكانيّة أن تكون جهة ثالثة استفادت من هذا الجوّ، خاصّة إذا ما نما إليها عن تسجيلات تكبّل الجهة الأولى. فأيّ فرصة أفضل لتنفيذ الجريمة من أن تكون جهة ما وضعت نفسها موضع المشتبه بها؟


أغتيل الحريري لأهداف سياسيّة حتمًا وليس نتيجة خلاف شخصيّ. فطبيعيّ أن يلحظ التحقيق البعد السّياسيّ للإغتيال وأن تنعكس نتائجه توظيفًا سياسيًّا، بعكس ما تشيّع القوى المؤيّدة لنظام البعث العسكريّ الشاميّ. ولكنّ الصحيح أيضًا، وبعكس ما تشيّع قوى 14 آذار، أنّه لا يمكن إنهاء التحليل السياسيّ عند هويّة المجرم الأزرق. فكما هناك خلفيّة سياسيّة على علاقة بالتمديد الرئاسيّ والإنتخابات توحي بإمكانيّة دور لنظام البعث العسكريّ في الإغتيال، كذلك هناك خلفيّة سياسيّة على علاقة بانقضاض أميركا على المشرق توحي بدور أميركيّ في الإغتيال.


5

بعد أن اغتيل كمال جنبلاط، زار وليد جنبلاط دمشق.


لو تُحقّق الأممُ المتّحدة مع أميركا حول جرائمها الزرقاء التي تنفّذها حول العالم بمفردها أو بالتكافل أو بالإيحاء أو بغضّ الطرف، وحول جرائمها البيضاء التي ترتكبها في الجمعيّة العموميّة ومجلس الأمن، وليس أقلّها التزوير والكذب والتضليل، فتستجوب الأممُ المتّحدة مسؤوليّ جهاز وكالة الإستخبارت المركزيّة الأميركيّة السي آي آي حول تضليل مجلس الأمن بمعلومات كاذبة عن أسلحة الدمار الشامل في العراق؛ وتستدعي كولن باول وزير خارجيّة أميركا إبان غزو العراق ونيغروبونتي ممثّل أميركا في الأمم المتّحدة حينها وتحقّق معهما حول المعلومات الخاطئة التي أبرزاها في مجلس الأمن لتبرير الغزو والتي اعترفت أميركا لاحقًا بفبركتها؛ وتحقّق مع المستشار الرئاسيّ كارل روف ولويس ليبّي رئيس فريق نائب الرئيس الأميركيّ ديك تشيني حول إسكات الأصوات المعارضة لغزو العراق بطرق غير دستوريّة كما حدث مع الدبلوماسيّ جوزف ويلسون الذي تكلّم عن "حجج واهية" قدّمتها الإدارة لتبرير الغزو فعوقب بكشف إسم زوجته فاليري بلامي عميلة السي آي آي؛ بل وتستدعي الرئيس الأميركيّ جورج بوش نفسه وتحقّق معه حول ما ورد في خطابه بشأن حال الإتّحاد State of the Union Address في ك2 2003 من تضليلٍ للكونغرس الأميركيّ والرأي العام العالميّ بمعلومات مُختَلَقة لتبرير غزو العراق كان يعرف عدم صدقيّتها، من محاولة العراق شراء اليورانيوم من النيجر إلى تدريب "القاعدة" في العراق؛ لو كلّ ذلك القليل ممّا يجب أن تحقّق به الأمم المتّحدة، لطرحت الأممُ في تداول علم الجريمة مصطلحَ "جريمة القَبَّة الحمراء" Red-collar crime الجامع للجريمتين البيضاء والزرقاء، ولأتخمتْ تفسيرَ مصطلحها الجديد بأمثلة من السياسة الأميركيّة الحديثة والقديمة، ولعرف النائب سعد الحريريّ أن اصطحاب وليّ العهد السعوديّ عبدالله بن عبد العزيز (الملك الحالي) له إلى مزرعة تكساس للتعرّف إلى بوش هو من صنف الزيارات ذاتها!


في 1/11/2005

_______________________


نشرَتها جريدة النّهار في 28/11/2005 ولكنّها حذفتْ: "ولعرف النائب سعد الحريريّ أن اصطحاب وليّ العهد السعوديّ عبدالله بن عبد العزيز (الملك الحالي) له إلى مزرعة تكساس للتعرّف إلى بوش هو من صنف الزيارات ذاتها!"


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2025