ينطلق أحمد أصفهاني في كتابه «مفهوم الحزب عند سعاده» (دار الفرات) من واقع الشرذمة والمؤسسات المنقسمة على ذاتها في حزب أنطون سعاده، في محاولة منه للعودة الى الأصول والينابيع الحقيقية التي انطلقت منها هذه الطروحات، وبالتالي معاينة الخلل في فهم طبيعة الحزب الذي أراده مؤسسه أن يكون حركة الشعب العامة، وغايته بعث نهضة قومية اجتماعية شاملة.
يرى أصفهاني أن الدعوة لا يمكن أن تحظى بالشرعية القومية الاجتماعية إن لم تجابه عوامل التقسيم، وإعادة اللحمة الفكرية والمناقبية، ودراسة تاريخ الحزب في مرحلة تأسيسه. ويعتبر أن أي خلل بسيط يصيب الثالوث المتكامل (العقيدة والدستور والممارسة المناقبية) يؤدي حتماً الى انحراف العمل. وهذا ما لا يمكن تحصينه إلا بالقواعد الأخلاقية.
يعتمد أحمد أصفهاني هنا المنهج التاريخي التحليلي ويحاول استعادة المفاهيم التي أنشأ عليها أنطون سعاده المفكر النهضوي حزبه، والعبرة لا تتم من دون العودة الى التاريخ. ولكن كيف بدأت فكرة تأسيس الحزب في تجربة سعاده؟
يعتبر أصفهاني أن الأشهر التسعة التي قضاها سعاده في الولايات المتحدة أتاحت له الاحتكاك بالنظم والمؤسسات فيها، إضافة إلى أن تفاعله مع المجتمع ومطالعاته وانفتاحه على الثقافات والسياسات الدولية وتجارب والده خليل سعاده. كل ذلك جعله يطرح الأسئلة الوجودية حول واقع الأمة السورية ومستقبلها والتي لا يمكن الإجابة عنها إلا بنهضة حقيقية. وهذه النهضة تحتاج خطوات تنفيذية وإنشاء مؤسسات.
يستعرض أحمد أصفهاني ما أسماه الاختبار التنظيمي الأول لسعاده ويذكر «جمعية نهضة البرازيل» و «الجمعية الوطنية السورية» التي أنشأها نسيم طراد. وكذلك في ما يخص «الحزب الوطني السوري» الذي أسسه أسعد بشارة في ساو باولو. وأنشأ خليل سعاده في 1916 «الجامعة السورية» وفي ميثاقها «ممنوع قطعاً البحث في الأديان والسياسة». وأسّس عام 1919 «الحزب الديموقراطي الوطني»، وفي مسعاه تحقيق استقلال لبنان وسورية وفلسطين. تلك هي الأجواء التي عايشها أنطون سعاده من دون أن ينخرط فيها. بل انضم الى الحركة الماسونية في آذار (مارس) 1925، وتحديداً الى المحفل الذي يرأسه والده وتولى منصب سكرتير المحفل (ص 39). لكنّ بداية عمله السياسي الفعلي المنظم كانت في المشاركة بتأسيس «جمعية الشبيبة السورية الفدائية» (1925). وفي اسم الجمعية وحده يتبدى البعد الثوري كلّه.
ومن يراقب تجربة سعاده وكيفية تبلور أفكاره، يجد أنّه يرتكز على قاعدة مثلثة: «المبادئ الواضحة»، «الدقة في التنظيم والعمل الجاد»، «اختيار وبناء العناصر القادرة على تحقيق الأهداف والغايات». وبموازاة هذا المثلث، يمكن أن تتمثّل تجارب سعاده السياسية والحزبية بأمور كثيرة أخرى منها: العمل القومي وفق عقيدة نهضوية، تنظيم حزبي سري حتى يتعزز الوضع الداخلي، الاعتماد على الشباب، عدم التهاون مع أي إغراءات أو مصالح، اتخاذ قرارات حاسمة لحماية المنظمة الحزبية. وهذا ما عمد سعاده فعلاً الى تحقيقه عبر تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي.
في الكتاب الذي استند صاحبه إلى سيرة كتبها سليم مجاعص عن سعاده، يُبيّن أصفهاني أن أنطون سعاده حاول تأسيس الحزب في دمشق ثم تخلى عن ذلك لأسباب شخصية وعملية. نقرأ في وثيقة بخط يد سعاده: «وجدت في دمشق هواء عليلاً ومناخاً حسناً وأزهاراً جميلة ونساء جميلات، ووجدت غنى كثيراً وكبرياء عظيمة ولطفاً متناهياً... ولكن بحثت عن الأخلاق الحية فلم أجدها».
بحث سعاده في لبنان عن عنصر الشباب حتى وصل الى الجامعة الأميركية في بيروت مستهدفاً «الطبقة المتعلمة المتنورة»، متوسماً في أفرادها القبول لأن «الشعب ليس إلا مجموع أفراده، فكما تكون حقيقتهم تكون حقيقته». وقد رأى أن ثمة «طبقة متنورة» وأخرى «قابلة للتنوير».
واجه سعاده عقبات كثيرة، وشهدت مسيرته قضايا إشكالية فتحت نقاشات كثيرة، ومنها تسميته «الزعيم»، علماً أنّ معظم الأعضاء كانوا ينادونه بـ «أستاذ»، وكذلك قضية الحدود الشمالية الشرقية (العراق). ويتوقف أصفهاني من خلال مذكرات الرعيل الأول عند شخصية سعاده ورحابة صدره في المحاورة.
يرصد أصفهاني الأزمات الداخلية التي عصفت بالحزب في بداياته، غير أنه اعتبرها أزمة مؤسسات ومناقب وليست أزمة فكر. واعتبر أن سعاده استطاع أن يتجاوز كلّ تلك الأزمات عبر ترسيخ مبدأ الثقة في العلاقات بين الأعضاء، وتنزيه منصب الزعامة والإيمان بها كمرجعية فكرية وسياسية وتشريعية. ظلّ سعاده مؤمناً بأصالة شعبه كحجر زاوية في بناء النهضة وفي انتقاء العناصر غير الفاسدة وفي قدوة الزعيم الذي وقف نفسه للأمة، وفي إعداد الصف الحزبي لمواجهة التحديات. وأخيراً إعلان المواجهة والصراع المتوقعَين بين النهصة والانحطاط، بين المناقب والمفاسد.
اعتقلت سلطات الانتداب أنطون سعاده في كانون الثاني (يناير) 1936، ثم أعيد اعتقاله في حزيران (يونيو) 1936 ثم كان الاعتقال الثالث في 9 آذار 1937. هادن سعاده الحكومة خلال الانتخابات النيابية 1937 ولكن كان همه تعزيز الوضع الحزبي الداخلي وتنقيته بصورة مستمرة. استمرت الهدنة حتى 11 حزيران 1938 وعمل في تلك الأثناء على تعزيز القواعد الفكرية والسياسية والنظامية، متكلاً على ثلاثية الفكر والنظام والممارسة. أما الإشكالية الداخلية الأساسية التي واجهته في تلك الفترة فهي مسألة صلاح لبكي لموقفه في الانتخابات النيابية، إذ اعتبره سعاده مخالفة للقرار الحزبي فتمت محاكمة لبكي وطرده.
ظلّ سعاده يشدد على منظومة القيم والأخلاق وقد حددها في المحاضرة العاشرة بـ «العقلية الأخلاقية الجديدة التي تؤسس لحياتنا بمبادئنا وهي من أثمن ما يقدمه الحزب السوري القومي الاجتماعي للأمة، لمقاصدها، ولأعمالها، ولاتجاهها».
يتوقف أصفهاني عند خطاب 1938، وقد وصفه بخطاب الوداع أو «جردة الحساب». واستنتج منه أن الدستور في حياة سعاده كان متحركاً منذ 1934 حتى 1949، ووفق مستلزمات العمل القومي. والإنجاز النهائي الذي يناضل لأجله القوميون الاجتماعيون هو «انتصار الأفضل والأنبل والأعز على الأسوأ والأرذل والأذل»، وهذا يستلزم حصانة القيم الأخلاقية والمناقبية.
يؤكد سعاده في أدبياته، وخصوصاً التي وردت في كتابه «الصراع الفكري في الأدب السوري»، القاعدة الذهبية التي لا يصلح غيرها للنهوض بالحياة والأدب وهي «طلب الحقيقة الأساسية لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى». وأخطر ما يواجه تحقيق ذلك هو «الميعان العقائدي والمبدئي والأخلاقي المتفشي في شعبنا» كما جاء في رسالة سعاده الى غسان تويني في 26 أيار 1946.
يبني أحمد أصفهاني كتابه «مفهوم الحزب عند سعاده» على القيمة، ويحدد المبادئ والأطر التاريخية المحيطة بها، فلا تؤخذ الأمور على غير عواهنها. وهو كتاب يحاول تصويب المسار من الداخل، من الخميرة الفكرية والمناقبية والرؤية التاريخية المرتبطة بنهضة أمة أعطاها سعاده وبذل لها كل ما يملك. كتاب يحمل هم الوفاء لباعث النهضة وهم القلق على مصير حاضر متهالك ومستقبل بلا يقين لبلاد ليس صالحاً فيها إلا ما نصلحه نحن وليس فاسداً إلا ما نفسده نحن.
|