يجمع الباحث احمد اصفهاني في كتاب "انطون سعادة والحزب السوري القومي الاجتماعي في اوراق الامير فريد شهاب المدير العام للامن العام اللبناني"(•) كل ما وجده في ارشيف شهاب الغني والمتنوع وله علاقة بسعادة والحزب. ولنقل كل ما تبقى من الوثائق لأن الامير فريد احرق كميات من وثائقه في احدى زوايا شرفة منزله في الرملة البيضاء، وبعضها بالتأكيد يتعلق بالموضوع المذكور.
وهذا ما يبرر ربما غياب وثائق او معلومات تاريخية قيّمة عن السنتين الاخيرتين العاصفتين في حياة سعادة. والمعروف ان شهاب تولى الامن العام بين 1948 و1958 وتقلب قبلها في مناصب امنية عديدة مما جعله على صلة وثيقة بالتطورات السياسية التي عاشها لبنان في بدايات الاستقلال ومراقبة الاحزاب السياسية ونشاطاتها وقياداتها، ومنها بالطبع الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي.
وفي أوراق الامير وثائق تتضمن تسجيلات للتنصت على هاتف سعادة ومركز الحزب الرئيسي. ولا توجد وثائق حول مهمتين اساسيتين نفذهما شهاب وعلى علاقة وثيقة بالموضوع. الاولى تكليفه من حكومة رياض الصلح بالاتصال بالرئيس السوري حسني الزعيم لحضّه على سحب دعمه لسعادة وحزبه. والثانية تسليم سعادة الى السلطات اللبنانية في تموز 1949 اي بعد شهر من مهمته الاولى.
والمفارقة الطريفة في الموضوع ان الرجلين (شهاب وسعادة) التقيا مرتين واعتقل شهاب سعادة مرتين. التقيا اول مرة في معرض للفنانين التشكيليين السوريين في دمشق. والتقيا مرة ثانية في 1936 - 1935 في منزل احدى قريبات عائلة شهاب وكانت عضواً في الحزب. وقد اعتقله في 1936 بناء على الاوامر الفرنسية، ثم تسلمه في تلك الليلة الفاصلة حيث حاكمته السلطة اللبنانية صورياً واعدمته خلال 24 ساعة.
يصنف الباحث الاوراق خمسة اقسام:
1- تقارير رفعها مخبرون تسللوا الى الحزب للتجسس.
2- ملاحظات ومعلومات كتبها شهاب بخط يده ويظهر انه يود العودة اليها لتضمينها في التقارير او لكتابة المذكرات التي بدأ العمل عليها مع البروفسور جون مونرو ولم ينجزها.
3 - تقارير مطبوعة على الآلة الكاتبة رفعها شهاب الى مسؤوليه في الحكومة اللبنانية.
4 - صور ونسخ عن صادرات حزبية وتعاميم وزعت على نطاق واسع او ربما بعض الوثائق توافرت من جراء الملاحقة والاعتقال.
وتبين هذه التقارير والوثائق طريقة ممارسة الاجهزة الامنية اللبنانية باعتبارها الاساس الذي على هديه اتخذت السلطات اللبنانية مواقفها عن الحزب وقراراتها بحقه. وللمرة الاولى يمكن الاطلاع على هذه الوثائق من قبل الباحثين والمؤرخين والموجودة في مركز الدراسات اللبنانية في مدينة اوكسفورد (الارشيف الاصلي لمسؤول امني لبناني رفيع) والذي يشكل مصدراً اساسياً من مصادر البحث التاريخي يوثق لتلك المرحلة، ويضيء بعض خفاياها واسرارها، كما يصوب بعض هذه الاحداث وابعادها منظوراً اليها من جهاز امني متخصص وفي مرحلة تاريخية دقيقة.
يعود اقدم التقارير الى العام 1935، وكانت سلطات الانتداب على علم بنشاط الحزب، وكانت التقارير ترفع الى محافظ بيروت آنذاك سليم تقلا، ويظهر انها كتبت خلال الايام القليلة التي سبقت انكشاف امر الحزب، واستمرت لأسبوعين بعد حملة الاعتقالات الاولى التي طاولت انطون سعاده وكبار مساعديه. وفي تقرير تظهر الاسماء والرتب والمهن وقد ترفق بصورة عن طلب انتظام (انتساب) وأن الحزب لديه "هيئة ارهابية عظيمة يجب عليها تنفيذ كل ما يطلب منها" (ص 19). في تقرير موجه لحضرة السيد بيرسيه المحترم بتاريخ 21/12/35، يذكر ان سر الاجتماع بين الاعضاء انه عندما يوجد لوحة كتب عليها (دق جرس الليل) يصل العضو ويقرأ ما كتب على اللوحة فيجيبه حارس الحزب بقوله نعم (دق جرس الليل) وعندئذ يأخذه الى محل الاجتماع" (ص 27).
ونفهم من احد التقارير ان الحزب لا يقبل جماعات او وفوداً بل يقبل افراداً. وفي تقرير بتاريخ 19/4/49 ثمة توقع لقيام الحزب بانقلاب وايضاً لاتصاله ببعض الضباط في الجيش، وانه "يصرف عنايته الى الاخوان المسلمين والنجادة" (ص 40). وان هناك نشاطاً للحزب في المحافل الماسونية. او نعرف مثلا ماذا يكتب في شوارع بيروت في العام 1949 ("الشيوعية عدوة الامة فاعملوا على محاربتها" (شارع بيكو) و"ستالين عدو العرب رقم واحد" (شارع بلس).
واحد التقارير يفيد بأن "الكتائب تضم في صفوفها لا أقل من 500 يهودي جلهم من شباب الميكابي" (ص 45). وان ثمة تفكيراً لدى بعض القوميين اللبنانيين الفارين الى دمشق لتأليف حكومة لكن الجيش السوري رفضها لخطورتها في وقت "كان الجيش السوري يعمم فيه على الشعب السوري ابتعاده عن السياسة". (ص 74) وفي تقرير بتاريخ 21 شباط 1952 ان غسان تويني اشترى جميع اعداد جريدة "الأحد" التي تضمنت مهاجمة عنيفة من عبدالله القبرصي ضد كمال جنبلاط حتى لا تحتدم المعارك بين القوميين والتقدميين. وثمة تقرير يتضمن لائحة باسماء القوميين كل حسب منطقته واقامته. وهناك خبر طريف مع بداية ثورة 1958 عن وصول "عشرين شخصاً بدوياً من الجزيرة يلبسون اللباس العربي، وهم يقيمون في بيت الدنا على الطريق الجديدة". (ص 144). ولكن ثمة لحظة حقيقة للامير فريد شهاب في مقابلة وحيدة تحدث فيها حول خفايا الثامن من تموز 1949 حيث يعلن بصراحة "انا لبناني قبل اي شيء آخر، لكنني لو عرفت ان لبنان سيصل الى ما وصل اليه اليوم لحاربت مع انطون سعادة (ص 175). هذا الكلام قاله الأمير في 12 تموز 1980 لمجلة "صباح الخير" في ذكرى استشهاد سعادة.
ويذكر ان احد الضباط قال له في طريق العودة من الحدود وبعد ان تسلموا سعادة. "يا سعادة المدير، معي اوامر بتصفية سعادة. شو رأيك؟ فاجابه على الفور "امانع بشدة. نحن مش قتلة" (ص 175). ويذكر المير فريد شهاب انه حين اخبر رياض الصلح انه نفذ المهمة "لم يتفوه بكلمة واحدة. كان هادئاً بل جامداً. لم يظهر اي انفعال او اي تعبير. فاجأني" (ص 180). وعندما رافق الصلح الى القصر وجد رئيس الجمهورية الذي "اظهر انفعالاً شديداً وبدا متوتراً" (ص 181). ويشير المير الى ان الخطأ لا يقع على رياض الصلح وحده، وخطأ الحزب انه ركز على هذا الرجل رغم ان غيره من المسؤولين كان موقفهم اشد عنفاً وقسوة. وماذا كان موقف رياض الصلح؟ كان موقف رياض شبه محايد واجاب رئيس الجمهورية: "اصطفلوا، هيدي مسألة متعلقة بالروم والمسيحيين. انطون سعادة مسيحي، انتو قرروا، انا ما إلي علاقة" (ص 181).
ولكن بعد صدور الحكم جمع رئيس الجمهورية حبيب ابو شهلا كزعيم للارثوذكس وغبريال المر ورياض الصلح. وقال الرئيس "ان لجنة العفو صدقت الحكم، فما رأيكم؟ رياض نفض سترته وقال انا لا احب الاعدام. حبيب قال عكروت بالناقص، وافقه غبريال المر" (ص 188).
ويبقى السؤال، لماذا ركز الحزب على رياض الصلح؟ ولماذا "سلقت" المحاكمة؟ يجيب المير "فالحزب كان قوياً والدولة ضعيفة باشخاصها ومنهج تفكيرها وتصرفها". (ص 182).
واخيراً، يضيق المجال، والكتاب مليء بالتقارير والاخبار والأسرار التي واكبت تلك المرحلة الغنية بتحولاتها وصراعاتها وابعادها. واذا كانت التقارير تفيدنا عن مدى مهنيتها ومبالغاتها ومعاييرها فانها تبين ايضاً كيف كانت تجري الامور في البنى التحتية ويتم تركيبها قبل ظهورها الى العام والعلن.
الكتاب يعتبر مصدراً مهماً لبحث العلاقات اللبنانية – السورية برموزها وزعمائها وطرائقها في ذلك الوقت، وخصوصاً مرحلة الانقلابات وتداعياتها وتحالفاتها ونتائجها على سوريا ولبنان.
انه كتاب يتيح لنا الفرصة للرؤية من الداخل بما يساعد على تصويب الكثير من المسلمات واعادة النظر فيها. ويشجع المسؤولين السياسيين والامنيين اللبنانيين والعرب على الخوض والسجال والتبيين
|