منذ بداية نشأتي وانخراطي في الحياة العملية، اتّضح لي أنّ قانون الإيجارات مجحف بحق المالكين. كنت ضدّ أيّ قانون للإيجارات. وكنت أرى أنّ قانون الإيجارات يجب أن يكون مشابهاً لقوانين الموجبات والعقود.
كتبتُ مقالات عدة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، نشرت في جريدة «النهار» في حينه، حيث اتخذت موقفاً صريحاً ضدّ هذا القانون المجحف، وارتأيت أنه كان مشروعاً استعمارياً بهدف تغليب بعض المذاهب على البعض الآخر، ولجعل هذه الغلبة للوافدين إلى المدن على أهلها وسكانها…
هذا القانون الاستعماري الذي أقرّته السلطات الفرنسية منذ احتلالها منطقتنا قد نجح فعلياً في إضعاف أهل المدن وتقوية المستأجرين المستفيدين من هذا القانون، مع العلم أنّ أول قانون بهذا الشأن كان قد أنجزه رئيس وزراء لبناني بيروتي مسلم هو أحمد الداعوق سنة 1941.
ولكن سلطة الانتداب كانت قد استبقت هذا القانون بسلسلة من المراسيم التي قيّدت المالكين وفتحت الطرق لاستفادة المستأجرين، إنْ كان من حيث صرف العملة الورقية تجاه الذهب، أم من حيث إطالة أمد الإيجارة ونقص بدلاتها إلخ…
اليوم… وبعد عقود عدة، أجد نفسي في المقلب الآخر، أنا مع حركة المستأجرين القدامى للأماكن السكنية، وأعارض إخراجهم من منازلهم قبل الإنشاء الفعلي لصندوق مالي تتولّى الحكومة دعمه حتى يمكن إيجاد الحلول المناسبة، لكي لا يؤدّي التطبيق الحرفي للقانون إلى كوارث اجتماعية لا نريدها في أيّ يوم، فكيف في هذه الأيام التي يواجه فيها لبنان واللبنانيون أوضاعاً اقتصادية واجتماعية صعبة ومعقدة.
لكن في المقابل، أطالب بأن يتمّ تحرير الإيجارات التجارية والصناعية والحرفية بأنواعها كافة، حيث لا لزوم لحمايتها، لأنّ هذه الحماية تشكل عائقاً أمام المنافسة الشريفة بين التجار والصناعيين والحرفيين، حيث يدفع المستأجر القديم لدكان ما بدل إيجار أقلّ بكثير مما يدفعه مستأجر جديد لمحلّ بالمواصفات نفسها، فتنتفي كلياً قدرة هذا الأخير على المنافسة في مواجهة المستأجر القديم.
مع الأسف فإنّ المطالبين بحماية المستأجرين للأماكن السكنية القديمة يغفلون المطالبة بحرية التعاقد في الأماكن التجارية والصناعية والحرفية، مع العلم أنّ مستأجري هذه الأماكن جنوا ولا يزالون يجنون الثروات الطائلة، على حساب المالكين القدامى.
الأكيد أن لا مفاعيل اجتماعية سلبية لتحرير الإيجارات التجارية والصناعية والحرفية، فالأمر لا يتعلّق بأماكن سكنية قد يؤدّي التحرير العشوائي لإيجاراتها إلى تشريد عائلات، وهذا ما نؤكد مجدّداً أننا لا نريده مطلقاً، بل إنّ الأمر يتعلّق بأماكن عمل وإنتاج يجب أن تتحدّد قيمة إيجاراتها على أساس العرض والطلب، كما هو الأمر في أيّ اقتصاد حرّ في العالم، ولا شك في أنّ عدم المبادرة السريعة إلى اتخاذ هذا الإجراء من شأنه أن يترك ندوباً في اقتصادنا الذي لطالما تغنّينا بأنه اقتصاد حرّ…
وختاماً أقترح أن يتمّ بعد تحرير إيجارات الأماكن التجارية والصناعية والحرفية اقتطاع جزء من بدلات إيجاراتها الجديدة لتمويل الصندوق المخصّص لمساعدة المستأجرين القدامى للأماكن السكنية لكي يؤمّنوا بديلاً لمساكنهم قبل إخلائها، وبذلك يمكن تغذية هذا الصندوق الفارغ حتى الآن، وبالتالي توفير مبالغ طائلة لا يمكن تأمينها من الخزينة العامة المنهكة أصلاً بالأعباء والديون المتراكمة.
|