تصادف في هذه الأيام الذكرى الثانية بعد المئة لصدور وعد بلفور 2 تشرين الثاني 1917 ، حين أذعنت بريطانيا العظمى لضغوط الحركة الصهيونية العالمية التي كانت قد ولدت في مؤتمر بال في سويسرا في العام 1896، وهو الوعد الذي التزم فيه وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر بلفور بإعطاء فلسطين لليهود ليقيموا عليها دولتهم المزعومة «إسرائيل»، وذلك في رسالة وجّهها باسم دولته إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد أحد أبرز وجوه المجتمع اليهودي البريطاني، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى وإيرلندا.
ولكن سبقت صدور هذا الوعد خطوات متعدّدة منها ما كان ممهِّداً له ومنها ما كان معاكِساً له، وقد صدرت في هذا السياق كتب ودراسات عديدة كشفت الكثير مما كان مخفياً ومستتراً نتيجة حصوله خلف الكواليس وفي أروقة القصور والمقرات الملكية والرئاسية والوزارية الرسمية.
وفي هذا السياق يجدر التذكير بأنّ الرئيس الأميركي وودرو ويلسون أوفد في ربيع العام 1917 إلى الآستانة السفير الأميركي هنري مورغنتاو على رأس بعثة ضمّت في عضويتها الدبلوماسي الأميركي فيليكس فرانكفورت، وذلك من أجل جسّ نبض الحكومة العثمانية بالنسبة لعقد صلح منفرد بعيداً عن الألمان، مقابل أن يترك الحلفاء البلاد التي تنطق باللغة العربية تحت سيطرة الامبراطورية العثمانية.
كانت البعثة سرية، وأعضاؤها من اليهود غير الصهيونيّين، وقد أراد الرئيس ويلسون أن يوافق الأتراك على عرضه هذا لإنهاء الحرب المستعِرة، وما تلحقه من خسائر فادحة، وخاصة بالنسبة للأرمن وللأقليات المسيحية في الدولة العثمانية.
لكن المسؤول الصهيوني المعروف حاييم وايزمن الذي كان يسكن في بريطانيا، علم بأمر البعثة وعمل كلّ جهده لكي يلتقي أعضاءها، فلحق بهم إلى جبل طارق وهم في طريقهم إلى الآستانة، واستطاع إقناع أعضاء البعثة وخاصة رئيسها السفير مورغنتاو بالتخلي عن الذهاب الى الآستانة، حيث عرض أمامهم جملة أسباب تجعل الأتراك لا يقبلون بصلح منفرد مع الحلفاء، بينما الحقيقة كانت عكس ذلك، ببساطة لأنّ الأتراك كانوا قد أرسلوا إشارات للرئيس ويلسون مفادها أنهم جاهزون لإنجاز صلح منفرد.
وقد أدّى عدم متابعة البعثة طريقها إلى الآستانة إلى إطالة مدة الحرب لسنتين إضافيتين ومقتل أكثر من مليوني شخص، نتيجة ما فعله وايزمن لجهة عرقلة سعي الأميركيين لعقد صلح منفرد بين العثمانيين والحلفاء، حيث أنّ الولايات المتحدة لم تعلن الحرب على الدولة العثمانية.
أما السبب المباشر الذي جعل الصهيونية العالمية تتحرك من خلال وايزمن لثني الأميركيين عن إقامة صلح منفرد مع العثمانيين، فهو أنّ الأميركيين ومعهم الحلفاء عرضوا في مقابل الصلح أن تبقى كلّ البلاد الناطقة باللغة العربية تحت سيطرة السلطنة العثمانية، أيّ أنّ فلسطين ستبقى مع الأتراك، وعندها لن يستطيعوا العمل لإقامة دولتهم الموعودة، خاصة أنّ وايزمن ومعه قادة صهاينة آخرون ومنهم اللورد ليونيل دي روتشيلد كانوا قد أصبحوا على يقين بأنهم سيحصلون من بريطانيا على الدعم الذي يريدونه في هذا الشأن.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ الصهاينة حصلوا على وعد بلفور بعد أشهر قليلة على تمكّنهم من إجهاض ذهاب بعثة مورغنتاو الى الآستانة، أيّ أنهم أطالوا أمد الحرب العالمية الثانية سنتين إضافيتين انتهت الحرب رسمياً في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918 ، والسفير مورغنتاو يهودي غير صهيوني اكتشف ألاعيب وايزمن والصهيونيين في إجهاض مهمة البعثة الآنفة الذكر، وكتب عن ذلك عدة مقالات كما أصدر كتاباً بعد الحرب يندّد فيه بوايزمن والصهيونية.
وفي سؤال وجهه لوايزمن وليم يال وهو عميل خاص لوزارة الخارجية الاميركية في حينه، والسؤال هو عما إذا كانت بريطانيا رفضت تسليم فلسطين إلى اليهود الصهيونيين فردّ وايزمن على يال قائلاً: «كنا سندمّر الامبراطورية البريطانية كما دمّرنا الامبراطوريتين الروسية والعثمانية اللتين رفضتا إعطاء وعد لليهود بأن تكون فلسطين وطناً لهم»…
كذلك صدر حديثاً كتاب لجيم ماكريغور وجيري دوهيرتي يسردان فيه كيف تمّ إجهاض مهمة بعثة مورغنتاو، وكيف أدّت الى إطالة أمد الحرب العالمية الأولى لأكثر من سنتين وخسارة أكثر من مليوني قتيل جراء ذلك.
|