كان لا بدّ لأحدٍ ما، أن يدفع فاتورة الانتصار الذي حقّقته سوريا في جنوبها. ليس سهلاً على إسرائيل وأخواتها أن يعود الجيش السوري إلى حيث كان قبل سبع سنوات من الحرب، على تماس مع الجولان المحتل. لكنّها كلفة مرتفعة بلا شكّ، تلك التي تحمّلتها محافظة السويداء أمس، بصبرٍ وجلد في السياسة، لا تغيب إسرائيل عن العبث بأمن السويداء، لأسباب باتت معروفة، تتعلّق بعودة سيطرة الجيش السوري على الجنوب، والعملية التي يخوضها الآن في حوض اليرموك ضد مسلحي «داعش» الذين أمضوا السنوات الماضية تحت حصار فصائل المعارضة وتنعمّوا بالدعم الإسرائيلي، من علاج جرحاهم إلى تزويدهم بالمؤن. وعلى نطاق أوسع، لا يخرج حدث أمس عن سياق ما تعدّه إسرائيل لطائفة الموحّدين الدروز نفسها، والنشاط الذي يضطلع به وزير الاتصالات أيوب القرا والشيخ موفق طريف اللذين يسعيان لمدّ جسور الاتصال مع غالبية القيادات الدرزية، الدينية والسياسية في سوريا ولبنان والمغترب، تحت عنوان حماية ودور الطائفة، فيما المطلوب الدفع نحو قيام كيانات مذهبية وإثنية منفصلة في محيط الدولة اليهودية، لإضفاء الشرعية على الكيان العنصري.
اجتياح الفجر
هجوم همجي لأكثر من مئة انغماسي من بقايا تنظيم «داعش» الإرهابي اندسّوا كالموت قبل طلوع الفجر، بين قرى المقرن الشرقي الشمالي للمحافظة، قادمين من البادية السورية، في محيط محمية قوات الاحتلال الأميركي في التنف، ليخلّف اجتياحهم أكثر من 220 شهيداً وأكثر من 180 جريحاً، ويقتل الجيش والأهالي منهم أكثر من 30، واعتقال انتحاري قبل تمكّنه من تفجير نفسه.
إنها الرابعة والنصف فجراً في قرى عراجي، دوما، تيما، طربا، الغيضة، رامي، الشريحي، اشبكي، الواقعة في شمال شرق المحافظة، حيث التماس بين الحقول السمراء المكسوّة بالخير، والقحط الذي يخلّفه ريح الصحاري البعيدة. يتسلّل الإرهابيون الذين يتخّذون من مناطق تلول الصفا، الكراع، شرقي الهبارية وسطعة النملة، مقرّاتٍ لهم، على شكل مجموعات صغيرة من 20 إلى 15، ويدخلون القرى وأهلها نيام. بشرط، أن 75% من المهاجمين، حملوا أحزمتهم الناسفة على صدورهم، ليقتلوا ثم يُقتلوا حين تنتهي ذخيرتهم أو يُحاصروا. ولكي تزداد رسالة الحقد وضوحاً، لم يميّز الإرهابيون بين مقاتل ومدني، بين شيخ وامرأة، بين بالغ وطفل. سيطروا بالتوازي على الحيّ الشرقي في رامي، وعلى الحيّ الشرقي في قرية الغيضة وبيوتها المنزوية نسبياً نحو البادية. أما في الشريحي، فوصلوا إلى قلب البلدة. وتقدّر مصادر أمنية حصيلة الشهداء، من المدنيين بما يفوق الـ 100 شهيد في الإغارة الأولى، قبل بدء المواجهات مع الأهالي ووصول الجيش و«نسور الزوبعة» واللجان الشعبية من القرى الأخرى.
تحرك سلاحا الجو والمدفعية سريعاً لقطع خطوط إمداد المسلحين
الساعة الخامسة والربع في مدينة السويداء، دوّت ثلاثة انفجارات متزامنة: تفجير عبوة بسيارة في سوق الخضر (سوق الحسبة) المكتظّ عند الفجر بالتجار والباعة، وعبوة على الطريق المحوري وثالثة عند دوار المشنقة. وحده تفجير سوق الخضر خلّف 40 شهيداً. بعد التفجيرات بقليل، تعبر سيارة على متنها مسلحون على حاجز الأصلحة، آتية من جهة الغرب هذه المرّة، مستهدفةً حاجز الاستخبارات الجويّة، فيسقط شهيدان من الجهاز، وقبل أن يترك المسلّحون السّيارة، يستهدفون حاجز الأمن العسكري في كناكر، ليسقط شهيد آخر من شعبة الاستخبارات العسكرية. ولم تجزم المصادر الأمنية، إن كان المسلّحون يتبعون لخلايا نائمة داخل المحافظة، أو من بقايا الجماعات الإرهابية التي سلّمت سلاحها للدولة السورية.
لم ينته المسلسل الدموي. انتشر الانغماسيون في المدينة، تطاردهم قوات الأمن والجيش، ففجّر واحدٌ منهم نفسه في حيّ المسلخ، وآخر في ساحة نجمة، وثالث بالقرب من المشفى الوطني. رغم كلّ ما مرّ طوال الأزمة السورية من جرائم منظمة ارتكبتها المجموعات الإرهابية المسلّحة، إلّا أن أكثر من مصدر أمني سوري توقّف مليّاً أمام التنظيم العالي الذي اتّبعه الإرهابيون في تزامن الهجمات، وفي دقّة اختيار الأهداف. وتؤكّد المصادر أن الخبراء العسكريين فككوا أكثر من 14 حزاماً ناسفاً لم تنفجر على جثث المسلحين.
غير أن ضراوة الهجوم، وعامل المباغتة الذي استغله الإرهابيون، لم يمنعا الأهالي من المواجهات البطولية في القرى الشرقية وفي داخل المدينة، التي حمل غالبية شبّانها السّلاح وانتشروا في المحافظة. يقول مصدر أمني إن «الدور الأول في المواجهات والتصدّي البطولي للاجتياح قام به أهالي القرى الشرقية التي تعرّضت للاعتداء»، مؤكّداً أن الطيران الحربي السوري ومدفعية الجيش تحرّكا سريعاً وقطعا خطوط إمداد المسلّحين، لحين وصول القوّات البريّة التي سرعان ما دخلت إلى القرى وأجبرت الإرهابيين على التراجع واستعادت الأحياء المحتلة. ومع أن تلبية القوات الرديفة للجيش واللّجان الشعبية للقتال كانت عالية، إلّا أن هذا الأمر لا يعفي القوى المحلية المكلّفة حماية القرى من جهة الشرق من المساءلة، خصوصاً أن الجيش زوّد هذه المجموعات بكلّ ما يلزمها من أدوات المراقبة والرصد والأسلحة المناسبة للتعامل مع الإرهابيين.
بقايا «داعش» بحماية أميركية
في نهاية تموز من عام 2017، نفّذ الجيش السوري عملية عسكرية واسعة في البادية السورية، وتمكّن بالتزامن مع تحرير مدينة دير الزور وفكّ الحصار عنها من الوصول إلى الحدود العراقية، محرّراً البادية من إرهابيي داعش والجماعات المحسوبة على الأميركيين مثل «قوات أحمد العبدو» و«أسود الشرقية». وطوال الفترة الماضية، بقي السوريون ووزارة الدفاع الروسية، يؤكّدون أن الأميركيين يدرّبون من بقي من مسلحي «داعش» في محيط معبر التنف الذي يسيطر عليه الأميركيون، وسبق لهم أن اعتدوا على قوات الجيش عندما حاولت الاقتراب وضرب المسلحين الذين يقيمون في المحمية. غير أن حاجة الجيش لقوات كبيرة للقتال في أماكن أخرى، دفعت الفرق العسكرية السورية إلى تقليل وجودها وانتشارها في البادية السورية الشاسعة، ما سمح لبعض مسلّحي «داعش» من الاختباء في واحات قليلة في البادية الجنوبية.
وأضيف إلى هؤلاء، مجموعات من «الدواعش» الذين حاصرهم الجيش في آخر أحياء مخيم اليرموك والحجر الأسود، قبل خمسة أشهر، وأخرجهم من المخيّم إلى البادية بعد لجوئهم إلى أحياء تعجّ بالمدنيين، ما يمنع الجيش من استكمال قتالهم. والنقطة الأخيرة، شكّلت مادة لأعداء الدولة السورية، ولا سيّما الذين يسعون إلى بثّ الفتنة بين أهالي السويداء والدولة، متناسين أن الجيش السوري، بعد يومين من إخراج المسلحين إلى البادية، شنّ عملية عسكرية كبيرة خصص لها آلاف الجنود والآليات المدرعة والعربات، ونفّذ هجوماً واسعاً في شرق محافظة السويداء، تمكّن خلاله من قتل العشرات من مسلحي «داعش»، وسقط له عشرات الشهداء في المعركة. ومع بدء معارك درعا، سحب الجيش جزءاً من قواته إلى درعا ليقوم بالعمليات العسكرية في غرب السويداء، وكلّف جيش التحرير الفلسطيني إلى جانب الجيش تغطية المساحات الشاسعة، ومنذ ذلك الحين، تتعرّض مواقع الجيش وجيش التحرير الفلسطيني لهجمات يومية من إرهابيي «داعش»، كان آخرها يوم أول من أمس، حيث سقط شهداء وجرحى. وتقدّر مصادر معنيّة بالبادية السورية عدد إرهابيي «داعش» بنحو ألف مسلّح في هذه البقعة الجغرافية المعقّدة. وتؤكّد المصادر أنه ما إن ينتهي الجيش من عملياته في حوض اليرموك والقنيطرة، سينفّذ عمليّة عسكرية جديدة تحتاج إلى آلاف الجنود، ليقضي نهائياً على هؤلاء.
«الدواعش» والتهريب
لا يغيب المهرّبون وعمليات تهريب الذخيرة والمؤن والوقود من داخل السويداء إلى شرق المحافظة، عن الأسباب المباشرة في حادثة أمس. ففي الوقت الذي يقاتل فيه الجيش وأبناء السويداء الإرهابيين في درعا والقنيطرة غرب السويداء، يقوم آخرون من المحافظة بتوفير كل ما يلزم لمسلحي «داعش» في شرقها. ويعدّ خط القرى التي تعرّضت للاعتداء أمس، خطاً نشطاً للتهريب من عصابات وخارجين عن القانون يستغلّون الإيجابية التي تتعامل عبرها الدولة مع المحافظة منذ بدء الأزمة، وتحويل شرق المحافظة إلى مراكز تخزين للبضائع والمسروقات وتخبئة المطلوبين، والأهم مراكز إمداد لعصابات «داعش» المنتشرة في الشرق. ومع استعادة الدولة السورية عافيتها، بدأت خطوط التهريب بالتقلّص وبدأ المهربون يشعرون بسطوة الدولة في المحافظة، بالتزامن مع وقف خطوط التهريب من درعا وإليها، ما دفع هؤلاء إلى تجفيف الدعم عن مسلّحي «داعش».
جنبلاط يورّث الخيارات الخاسرة لابنه
من أصل نصف مليون مواطن سوري في السويداء، يهمّ وليد جنبلاط «مشايخ الكرامة» وحدهم، أولئك الخارجون عن القانون الذين تعبت السويداء منهم، فتشرذموا بين الانزواء أو الارتهان عند الاستخبارات الأردنية ومن خلفها. والآخرون، أي النصف مليون، «حلال دمهم اللي مع النظام» كما قال جنبلاط يوماً على الهواء مباشرةً. ربّما لأن غرفة «الموك»، وزّعت أنموذجاً واحداً عن تصنيف المواطنين السوريين، «الأشرار» منهم و«الأخيار». الأنكى من ذلك، أن جنبلاط لا يكتفي بنظريات المؤامرة وحده، وتسويقه أن الدولة السورية والجيش الذي قدّم الشهداء أمس وهو يتصدى إلى جانب مواطنيه لإرهابيي «داعش»، يعاقبان «رجال الكرامة»، بل أورثها لابنه. كان يمكن النائب الشاب تيمور جنبلاط أن يرمي أحقاد والده خلفه ويفتح نافذةً للعقلانية ولا يحمّل طائفة الموحدين الدروز تركة خيارات والده الخاسرة منذ 2005 وحتى اليوم بالعداء المجاني لسوريا.
لكنّ تيمور يصرّ على حمل الرهانات الخاسرة معه، بتشجيع من مستشاري البلاط الذين روّجوا سابقاً لإنسانية «جبهة النصرة» وبنوا العلاقات معها، فانتهى الحال بمجزرة قلب لوزة، واستيطان قرى جبل السّماق من التركستان وتهجير أهلها الأصليين أو إكراههم بدين الوهابية. أما دعوة جنبلاط روسيا لحماية السويداء من الجيش السوري، فالجواب في بيان وزارة الخارجية الروسية، الذي حمّل المسؤولية بوضوح لعصابات «داعش»، وبيان وزارة الدفاع الروسية اللاحق، الذي أكّد أن حلفاء جنبلاط في «النصرة» يخططون لهجمات جديدة ضد الجيش والمدنيين السوريين.
|