الزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة سعد الحريري الى الولايات المتحدة الأميركية خلطت بين أهداف عائلية «حريرية»، شكلت مناسبة إضافية لصاحبها لربطها بالأبعاد السياسية.
فليس ممكناً لمن يزور مكة موسم الحج أن يكتفي بمرافقة قريب له، يريد الإقامة فيها، فهي مناسبة استثنائية لربطها بأداء مناسك الحج ما يؤمن له الهدفين في آن معاً.
هذا ما يفعله السعد، الذي رافق كريمته التي تريد مواصلة تعليمها في الولايات المتحدة، مجرياً لقاءات سياسية واقتصادية تندرج في إطار الاستعلام عن السياسة الأميركية بعد قبرشمون، وأين السعد منها وفيها؟
فباع على جاري عادة السياسيين اللبنانيين مواقف سياسية موالية للنفوذ الأميركي وثروات اقتصادية لبنانية، داعياً الشركات الأميركية ودولتها الى الاستثمار في النفط والغاز، مؤيداً الوزير السابق وليد جنبلاط في موقف بدا وكأنه مطلوب أميركياً، انما على شكل أمر مبرم بل كنصيحة من كاوبوي لا يعترف باللياقات.
وباع أيضاً السيادة اللبنانية والتوازن الداخلي المرتكزة عليه باستماعه الى هجوم عنيف شنه وزير الخارجية الأميركية بومبيو على حزب الله متجاهلاً ان هذا الحزب مع تحالفاته يشكل معظم اللبنانيين وله نواب ووزراء في الدولة، يتيحون للحريري الاستمتاع بلقب رئيس حكومة مصاب بتورّم لا علاقة له بالقوة الفعلية.
إن هذا التهذيب الحريري في السكوت للهجمات الأميركية الضارية على لبنان، وقبولهم «بكبرياء» المشاركة في سرقة النفط والغاز اللبنانيين التي دعاهم اليها السعد، جلبت للحريري تأييداً أميركياً لسياساته الخارقة، لكنهم لم يحددوا أين؟ وفتحت له تأييداً أميركياً لمؤتمر سيدر الرنّان، وأبواب البنك الدولي الذي أبدى موافقته «اللفظية» على تمويل مشاريع في لبنان في إطار سياسة «الوعود الكمونِّية» للزوم دعم السياسات الأميركية بإغراءات «البنك الدولي».
فهل يُصدِّق أحد أن الأميركيين لا يعرفون أسباب تأخر لبنان العظيم عن الاستثمار في نفطه وغازه؟ ويجهلون أن قسماً منها، يتعلّق بالخلاف مع الكيان المحتل على ترسيم الحدود البرية والبحرية فيما تتحمّل الطبقة السياسية اللبنانية وزر القسم الأكبر من التأخر، وصولاً الى حدود عجزها عن تعيين المناطق التي يجب أن يبدأ منها الاستثمار إلى حدود ان بعض تيارات هذه الطبقة طالبت باتفاق تحاصص متوازن يشمل كل فئاتها حتى ولو لم تجد نفطاً وغازاً في مناطقها.
فهل كان السعد بحاجة لمدير البنك الدولي لتنبيهه لتأخر لبنان عن استثمار ثرواته مقابل قبرص واليونان والكيان الإسرائيلي الذين بدأوا باستخراج ثرواتهم منذ أربع سنوات على الأقل.
كان بإمكان رئيس الحكومة ان يجيبه بأن قدرة الدولة على الاستدانة جعلتها تتلكأ عن الاستثمار او بشكل أدق، ترجئ صراعاتها الداخلية من النزاع حول الحصص الكبرى في عائدات الطاقة يتبين بالنتيجة أن السعد باع واشترى، وكأنه في «أسواق الحسبة» في البلدات اللبنانية الكبرى باع مواقف سياسية سيادية واقتصادية. وهذا ما يريده الأميركيون دائماً، مستجلباً دعماً أميركياً لثلاث قوى لبنانية حصرية: الاولى ما يمثله وليد جنبلاط الذي يرى الأميركيون فيه حالياً، ما يريدونه من قوة مشاغبة على حزب الله، ولديه إمكانية قيادة حركة لبنانية، مناهضة للحزب على منوال 14 آذار المتهاوية التي شكل جنبلاط في مراحلها الاولى رأس حربة الهجوم على سورية وحزب الله وإيران. وهذا ما يريده الأميركيون وحليفتهم «إسرائيل».
أما الدعم الثاني فللقوات اللبنانية وملهمها جعجع الذي سارع الى الفصل بين لبنان الحريري ـ جعجع ـ جنبلاط وبين لبنان حزب الله ـ التيار الوطني الحر وإيران، على حد زعمه.
وتلقى الحريري إسناداً كبيراً بصفته الفريق الثالث في المعادلة الأميركية الجديدة التي تستطيع أن تضّم عشرات الشخصيات السياسية المنتهية الصلاحية ريفي ـ سعيد ـ الخ ومثلها من الاحزاب المحدودة المتهالكة.
ماذا يعني انغماس الحريري في هذا المشروع؟ يعتقد السعد أن هذه الوجهة ليست جديدة، ولا تتطلب منه انسحاباً من تسوياته على التحاصص في مرافق الدولة مع الوزير جبران باسيل في السياسة والاقتصاد والولاءات، كما انها لا تزيده تورطاً في استعداء حزب الله وذلك عبر رجل الدولة الحريص على رعاية الحدود الدنيا في العلاقات بين القوى السياسية وهو رئيس المجلس النيابي نبيه بري.
فالسعد في خاتمة المطاف يعرف أن الأميركيين لن يستعملوه إلا لعدادات اعلامية تزيد من انقسام المجتمع اللبناني، ويأمل أن تعيد له قوته في الشارع والحزب المتراجع وإعلامه المفلس كما يعتقد ان اندفاعته الأميركية لن تستجلب غضب اركان حزب الله عليه، مؤمناً بأن لا بديل مقبول له عندهم.
لذلك يراهن الحريري على عقلانية بري رجل المؤسسات والاتفاقات وحذر حزب الله من «الجديد» في عدم مجابهته، كلما وجد نفسه مضطراً لكسب تأييد الأميركيين والسعوديين بالمزيد من الصراخ ضد إيران ودورها «التخريبي الإرهابي»، على حد زعمه، وإلا فإن التحالف الأميركي قد يتخلى عنه، وهذا يعني بداية تفجير لبنان لأن بدلاءه غير مقبولين عند الحزب وحلفائه.
فهل استنتاجات الحريري منطقية؟
يصيب السعد في مسألة أساسية وهي أن بديلاً للمعادلة السياسية اللبنانية، ليس موجوداً حالياً لا عند الحزب وتحالفاته ولا عند الفريق السعودي ـ الأميركي وولاداته. وهذا يعني انسداداً كاملاً، ولأن هذه الوضعية تتطلب تقت من دون خسائر، فإن الحريري قيادة متواضعة، اضمحلت احلامها السياسية، وباتت منوعة بتصريف الاعمال، بانتظار تغييرات خارجية تعيد لها رصيدها المندثر، بما يفرض عليها تطبيق سياسات رمزية لا تخلف أثراً وتعتمد على تصريحات إعلامية لا تترك اثراً.
بذلك يمكن القول ان الحريري حمى قيادته بائعاً مواقف غير قابلة للتصريف في اسواق القرى الصغيرة ونجاحه الوحيد هو في التحاق كريمته بالجامعات الأميركية.. الف مبروك.
|