يطغى شعار الدولة المدنية على كل الشعارات الأخرى في المرحلة الحالية في لبنان، متحكماً بالسنة السياسيين وقادة الأحزاب بشكل مذهل يدعو الى طرح سؤال وحيد، اذا كانت كل هذه القوى مع الدولة المدنية، فأين هي أحزاب النظام الطائفي المسيطر على البلاد منذ 1948 ؟
وكيف استطاع هذا النظام الصمود بمذهبيته العميقة، فيما تؤيد كل مكوناته مدنية الدولة؟
هنا تكمن إحدى المعجزات الكبيرة التي لا يفهمها إلا السياسيون اللبنانيون المتمكنون إلى حدود الاحتراف في تقديم صور متعددة لانتماءاتهم السياسية. فهل هناك مثيل للوزير السابق وليد جنبلاط الذي يترأس حزباً مذهبياً وإقطاعيا ومناطقياً وتقدمياً واشتراكياً وأخيراً مؤيداً للدولة المدنية!
أما رئيس حزب القوات السيد سمير جعجع فابتدأ حياته الاحترافية قائداً في حزب فجر حرباً طائفية استمرت حتى تسعينات القرن الماضي، مستفيداً من دعم إسرائيلي للبنان، أيدته القوات الجعجعية وشاركت فيه بالمزيد من اقتراف المجازر الطائفية.
وهذا ينطبق على جميع أحزاب لبنان العاملة ضمن إطار النظام السياسي مقابل أحزاب وطنية ويسارية وقومية تؤمن بالدولة المدنية ولم تنتم يوماً إلى مؤسسات النظام.
لقد وصل هذا التلفيق إلى حدود القوى الدينية، التي تعلن تأييدها للحراك الشعبي فهل تؤيد حقاً الدولة المدنية؟
علينا أولاً الإشارة إلى أن الدولة المدنية تقوم على فصل التأثير الديني عن تفاعلات السياسة وحصره في إطار خاص به يعتبر أن الدين وسيلة للعبادة وليس للسيطرة السياسية.
هذا ما فعلته اوروبا واميركا واليابان والصين وروسيا، وبلدان أخرى كثيرة.
لذلك فإن الدولة الفرنسية مثلاً ألغت التقسيم الطائفي للسلطة بين الكاثوليك والبروتستانت وجعلت من الانتماء الوطني المفتوح قاعدة للدمج الاجتماعي بالمساواة الكاملة لمواطنيها في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى اساس الوطنية والكفاءة، وبذلك اعادت الدين الى مواقعه في الكنائس مع حصر دوره في العبادات، حتى أن الزواج الفرنسي الزامي في البلديات، حتى يصبح شرعياً.
ونحت معظم دول العالم على الطريقة نفسها لكن الدين في العالم العربي والاسلامي يجري استخدامه وسيلة للتحشيد وتشكيل العصبيات السياسية فالوهابية في السعودية اداة لضبط السكان في طاعة آل سعود، ومفتي الأزهر أقوى مؤيدي كل نظام مصري جديد.
ان احوال القوى الدينية متشابهة في العالم الاسلامي ومهمتها الوحيدة تطويع الناس لخدمة المسؤولين السياسيين.
أما لبنان فبالغ في طائفية نظامه السياسي نظراً لتعددية المذاهب والاديان فيه. ففيما يحرص الدستور في مصر والمغرب والجزائر والسودان والاردن على اسلامية الدولة والرئيس، يذهب النظام السياسي اللبناني نحو «مذهبة» رؤساء مؤسساته الدستورية ونوابه ووزرائه والموظفين الاداريين والقضاء والجامعات وكل شيء تقريباً.
وهذا ما ادى الى تجذير الطائفية في لبنان، متيحاً لطبقته السياسية بالهيمنة على كل شيء تقريباً، وهذا حول المواطن متسولاً يبحث عن لقمة عيشه عند المسؤول عن طائفته، حتى أصبحت الطائفية معممة في العلاقات بين اللبنانيين وعلى كل المستويات.
فانتفخت الاحزاب واصبح لكل طائفة احزابها الناطقة باسمها والمستولية على قواها عند كل المكونات ومن دون استثناء.
لقد ادى هذا النمط من العلاقات السياسية الى تراكم اكبر فساد سياسي معروف في دولة بحجم لبنان مستتبعاً سطواً كاملاً على مقدرات البلاد باسلوب علني يحتمي بالتحشيد الطائفي، ما انتج بطالة وتضخماً وافلاساً وعجزاً ويناً عاماً يزيد على المئة وعشرين مليارا دولار في دولة لا يتعدى ناتجها الوطني العشرين ملياراً.
وغابت الكهرباء والمياه وتكدست النفايات واصبح الأمن فئوياً يخضع لسلطة الزعماء الذين اضافوا الى قوتهم ميزة القداسة الدينية.
هذا ما يدفع الى الحيرة في احزاب طائفية تسللت الى قيادة التحرك الشعبي المتواصل وتطالب بدولة مدنية، فهل هي جدية في مطالبتها ام انها تحاول السيطرة على هذا الحراك الشعبي ذي السمتين الجديدتين على لبنان وهما:تبلور شعور طبقي مع اتجاه نحو الاحساس بالوطنية على حساب تراجع هيمنة «المقدس» القامع لمصالح الناس باللعب عن العصبيات الطائفية والمذهبية.
لعل هذا يؤكد أن الاحزاب المحركة للمتظاهرين، تستعمل هذه الاساليب في إطار صراعاتها مع احزاب اخرى ضمن السلطة، لذلك تذهب نحو استغلال انتفاضة اللبنانيين على النظام الطائفي بتبني شعاراتهم حول ضرورة الدولة المدنية.
والدليل أن الحريري يقدم نفسه «بيي السنة» وجنبلاط سلطان الشوف وعالية وجعجع المدافع عن القديسين، وللامانة فإن هذا الوضع يشمل كل احزاب السلطة من دون استثناء. فهل نحن عشية تحول لبنان دولة مدنية؟
يحتاج هذا الأمر الى احزاب سياسية حقيقية تؤمن بمدنية الدولة، هناك الكثير منها خارج السلطة، لذلك فليست بقادرة على تغيير النظام الطائفي.
ان هذاالتغيير يحتاج الى موازنات قوى شعبية لها قياداتها الفعلية والتحرك الاخير هو الحركة الاساسية في رحلة الألف ميل للقضاء على نظام طائفي متلون يستعمل كل الشعارات الديموقراطية الحديثة وهي براء منه، لذلك فإن اللبنانيين ذاهبون نحو بناء دولة مدنية فعلية تحتاج الى قليل من الصبر والكثير من موازين القوى.
|