من الواضح أنّ جملة التفاهمات الروسية التركية حيال شمال شرق سورية، قد أرخت بظلال تأثيراتها على جغرافية الشمال السوري كاملاً، فالتغيّر الواضح في الديناميكيات السياسية والعسكرية لجهة الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الشأن السوري، تشي بأنّ التفاهمات الروسية التركية قد اتخذت مساراً ناظماً لجلّ التحركات الأخيرة، التي هندستها الدولة السورية في عديد الملفات سياسياً وعسكرياً. حيث أنّ جزئيات التصادم السياسي لجهة إدارة الصراع في سورية، بالإضافة إلى تجليات البعدين السياسي والعسكري في ايّ تفاهم روسي تركي حيال شمال شرق سورية، لن تكون مضامينه بعيدة عن إدلب، كما أنّ التحركات السورية الأخيرة تفرض نمطاً سياسياً بإطار عسكري، والانتشار الواسع الذي هندسه الجيش السوري في شمال شرق سورية، لا يخلو من رسائل بأبعاد استراتيجية تصل إلى إدلب، خاصة أنّ المعادلات التي حاولت تركيا بلورتها في شمال سورية، أدخلتها في مآزق عديدة، وباتت في إطار البحث عن مخرج يجنبها الجليد الروسي في أيّ تفاهمات جيواستراتيجية بين الطرفين.
يُضاف إلى ذلك، أنّ الاستراتيجية السورية تعتمد في مضامينها، على إقصاء ملف إدلب من أيّ تجاذبات سياسية، أو تفاهمات دولية. هذا الأمر يؤسّس لما هو أبعد من مخرجات أستانا وتفاهمات سوتشي. وبصرف النظر عن العناوين الكبرى التي أسّست لمشاهد الحرب على سورية، يبدو أنّ دمشق وموسكو وطهران وعبر هدوء استراتيجي محكَم، قد أسّسوا لمعادلات سياسية ومثلها عسكرية، ناهيك عن القدرة على احتواء حالات التسويف الأميركي، والمماطلات التركية لجهة تنفيذ تعهّداتها. هذه المعطيات أوصلت دمشق إلى مرحلة طيّ التفاهمات، والبدء بمشهد عسكري تحكمه الوقائع والمعطيات. وبناء على ذلك، فإنه لا يمكن فصل التحركات السورية في شرق الفرات وغربه، عن التأسيس لرافعة يتمّ من خلالها الخوض في غمار ملف إدلب، وتفكيك كلّ التفاهمات التي باتت مؤطرة ضمن معادلات تقسيم سورية وإطالة أمد الحرب عليها، وبالتالي فإنّ بلورة الحلول السياسية، تحتاج حكماً إلى قدرة عسكرية تقلب الطاولة على محور أعداء سورية، وهذا ما أكده الرئيس الأسد حين قال «إنّ التحرير التدريجي الذي يحصل في إدلب سيحصل في الشمال السوري بعد استنفاذ كلّ الفرص السياسية»، مشيراً إلى أنه «في حال لم تعطِ العملية السياسية بأشكالها المختلفة نتائج، فإنّ سورية ستذهب إلى خيار الحرب ولا يوجد خيار آخر».
العميلة العسكرية التركية في شمال سورية، خطفت أضواء السيناريوات المتوقعة حيال الأوراق السياسية والعسكرية في شرق الفرات وإدلب، بيد أنّ ملف إدلب يأتي ضمن إطار التفاهمات الإقليمية والدولية لجهة ضرورات تقاسم النفوذ، لكن ما يحدث في شمال سورية لا يمكن فصله بالمفهوم العسكري عن ورقة إدلب، خاصة أنّ خارطة النفوذ في سورية والتي شهدت تغييرات كثيرة، مرشحة لاستحداث نقاط نفوذ جديدة. لكن ضمن ذلك، يبدو أنّ مسار التطورات التي بدأت بالقرار الأميركي لجهة الانسحاب «التكتيكي» من سورية، وما تبعه من تفاهم روسي تركي، وسوري كردي، يشي بأنّ المعادلة السياسية التي تحاول القوى الاقليمية والدولية صوغها لمقايضتها بأوراق القوة التي باتت بيد الدولة السورية، لن يكتب لها النجاح، لأنّ المراقب لتفاصيل ورقة إدلب، يدرك أنّ زيارة الأسد لخطوط النار في ريفي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي، تحمل دلالات سياسية بأبعادٍ عسكرية، فمعادلة ترحيل الأزمات التي دأبت تركيا ومن خلفها واشنطن لوسم المشهد السوري بها، أصبحت في بوتقة الصهر العسكري، كما أنّ المراهنين على مقايضة روسية لتركيا حيال مناطق شرق الفرات وغربه، بورقة إدلب، قد بدّد بالانتشار العسكري الواسع للجيش السوري في تلك المناطق، كما أنّ ما سمّي بعملية نبع السلام التي بدأت بها تركيا، لا يمكن لها أن تستمرّ إلا في إطار التفاهم مع روسيا والتوافق مع دمشق، خاصة أنّ الذاكرة التركية لا تزال تحتفظ بمشهد الرتل العسكري التركي الذي كان متوجهاً إلى نقطة المراقبة التاسعة في محافظة إدلب، والذي استهدفته الطائرات الروسية والسورية، إبان عمليات الجيش السوري في ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي. وبالتالي فإنّ تركيا تدرك بأنّ لعملتيها العسكرية حدود مؤطرة بالتفاهم مع روسيا والتوافق مع دمشق، والرسائل السورية والروسية الساخنة والمتتالية التي شكّلَت حرجاً كبيراً لأنقرة، سياسياً وميدانياً، وطرحت علامات استفهام حول مدى متانة التفاهمات مع موسكو، تجبر تركيا على الركون للتفاهمات مع روسيا، وتهيئة المناخ السياسي للوصول إلى أبواب دمشق.
ويرى كثيرون أنّ التفاهمات الروسية التركية في سوتشي حيال إدلب، باتت في حكم الملغاة، كما أنّ مسار أستانا باتت مقرّراته بعيدة عن التداول، لكن هذه التقييمات يبدو أنها متسرّعة، ولا ترتكز على جوهر العلاقة الروسية التركية بصرف النظر عن الشأن السوري. فالحديث عن استغناء روسي عن تركيا يبدو غير واقعي، لأنّ هذه المعادلة يجب أن تحكمها الظروف الجيوسياسية التي ترسم مسار هذه العلاقة، والواضح أنّ العلاقات بين موسكو وأنقرة تشمل جوانب ذات أبعاد استراتيجية، كصفقة «أس 400» الصاروخية، ومشاريع الطاقة مثل السيل التركي للغاز الطبيعي، ومحطة أك كويو للطاقة النووية، فضلاً عن ارتفاع مستوى التبادل التجاري بينهما. بهذا المعنى، لا تنقلب موسكو على مسار التقارب مع أنقرة تماماً، ولا تقلب عليها الطاولة في سورية تحديداً بقدر ما تعبّر عن غضبها من تقارب الأخيرة مع واشنطن، ورغبتها في إعادة التفاوض معها حول إدلب خصوصاً والملف السوري عموماً، ولكن على الطريقة الروسية التي تستبق عادةً أيّ جولة حوار أو تفاوض حقيقي بمحطة تصعيد وضغط ميداني، ولا يمكن لروسيا في هذا الإطار التغريد خارج السرب السوري، والابتعاد على التفاهمات مع دمشق وأسّس العلاقة الاستراتيجية معها. نتيجة لذلك، يمكن فهم الاعتراضات الروسية في ما يخصّ مدى التزام تركيا لجهة تطبيق تفاهمات سوتشي حيال إدلب، فضلاً عن أنّ عمليتها العسكرية شمال شرق سورية، لا يمكن لها أن تتجاوز الخطوط الحمراء السورية الروسية على السواء.
وعليه، فإنّ تركيا في مأزق سياسي واضح، كما أنّ النهج العسكري لتركيا في سورية، أيضاً غير مستقرّ، وبحاجة دائماً للتوجيهات الروسية الصادمة، فالظروف المتغيّرة التي طالما أفادت تركيا جراء الخلافات الروسية الأميركية في سورية، باتت اليوم ضاغطة لكلا الطرفين الأميركي والتركي، كما أنّ الميزان العسكري في سورية بات لصالح الدولة السورية وحلفائها، وبطبيعة الحال لا نية لأيّ طرف بالوصول إلى مواجهة عسكرية، خاصة أنّ تركيا في ظلّ هذه الوقائع المتغيّرة حكماً لصالح سورية وحلفائها، لا ترغب بالتصادم سياسياً مع روسيا، حيث أنّ الأخيرة توفر غطاء سياسياً لها، ولصالح وجودها العسكري في سورية، الذي بات ضمن التوقيت السوري والروسي، ولعلّ الساعة الصفر المعلنة لخروج القوات التركية من سورية لن تكون بعيدة.
نتيجة لذلك، فإنّ تركيا اليوم لا تملك إمكانية رفض مطالب موسكو، لكن بذات التوقيت تحاول تركيا تحقيق أهدافها في إدلب، قبيل الساعة الصفر السورية الروسية. صحيح أنّ أولويات تركيا في سورية وتحديداً شرق الفرات، ترتكز على العنصر الكردي وتهديد الأمن القومي لها، لكن الصحيح أيضاً أنّ هذا الملف قد حسم ضمن الاتفاق الأخير في سوتشي بين موسكو وأنقرة. وبالتالي لا مبرّر لبقاء إدلب مثار جدال وتجاذب، وبات ضرورياً عودة إدلب إلى السيادة السورية، كما بات ضرورياً أن تخضع تركيا لتعهّداتها في ملف إدلب، ولعلّ المماطلة التركية تأتي من الإدراك بأنّ خسارة إدلب ستنعكس بالضرورة على طاولة التفاوض والمسار السياسي الذي سيرسم مستقبل سورية، فضلاً عن أنه قد يترك وجود القوات التركية في منطقتي درع الفرات وعفرين محطّ تساؤل واعتراض مستقبلاً من الدولة السورية وروسيا. وبالتالي بات واضحاً، أنّ دمشق وموسكو تقومان بهندسة المسارات بطريقة تكتيكية احتوائية لكافة الأطراف، مع الابتعاد عن كافة السيناريوات الكارثية التي لن تستثني من تداعياتها أيّ طرف في سورية.
في جانب آخر، فإنّ العلاقة الروسية التركية تتغذّى على الصراع التركي مع واشنطن والأطلسي عموماً، من هنا تدرك موسكو بأنّ الضغط على تركيا لجهة ملف إدلب، قد لا يثمر بالوقت القريب، ولا بدّ من استثمار سياسي لأيّ تصريحات أميركية ضدّ تركيا، لدفع مسار إدلب إلى التطبيق واقعاً سياسياً، لكن تركيا في هذا الإطار لا تزال لها القدرة على التعامل سياسياً مع كافة الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الشأن السوري، ومعادلتها تقوم على عدم الانحياز الكامل، إضافة إلى عدم الاستعداء التامّ، وإنما سياستها تقوم أصلاً على مصالحها، ووفق توجهاتها الخارجية، نتيجة لذلك كلّ المؤشرات تصبّ في صالح سورية روسيا لجهة التقارب أكثر في ملف إدلب، وهذا ما ألمح إليه الرئيس الأسد ضمناً في مقابلته الأخيرة مع السورية والإخبارية السورية، حين قال رداً على إمكانية لقاء أردوغان، إنه «إذا كان اللقاء سيحقق نتائج ومصلحة الوطن نضع مشاعرنا جانباً»، إلا أنه أوضح أنه لا يتوقع نتائج لأيّ لقاء مع أردوغان في الظروف السياسية الراهنة لا سيما في تركيا.
وعليه، فإنّ ملف إدلب لن يبقى في إطار الشدّ والجذب، كما أنّ إدلب لن تكون خارج السرب السوري، وسيكسر جمود ملفها التحركات السورية شمال شرق سورية، وطبيعة المناخ العسكري الذي وصلت إليه التطورات في إدلب وريفها، لجهة السيطرة على مدينة خان شيخون الاستراتيجية. كلّ هذا يفرض نمطاً من التعاطي الجديد حيال ملف إدلب، ولن تبقى الدولة السورية تنتظر حتى تصل الأطراف الدولية والإقليمية إلى تفاهمات يمكنها تجاوز جمود الحالة الراهنة وتقاطع المصالح والأهداف على الأرض السورية. في هذا المعنى فإنّ إدلب لن تبقى خارج السرب السوري، ودمشق تخطّ طريقها إلى إدلب وفق مسار استراتيجي محكمّ.
|