لا تكاد تطوى صفحة من كتاب الحرب على سورية، إلا وفي هامشها سيناريو جديد يكاد يكون أقوى تأثيراً وأشدّ تعطيلاً لأيّ حلّ سياسي. فالسوريون باتوا بين معادلتين، الأولى تفاعلية بإطار تفاؤلي لجهة التطورات السياسية والعسكرية، والثانية تنضوي ضمن الرغبات الإقليمية والدولية المعطلة للمعادلة الأولى. فالتفاؤل الحذر الذي يبديه السوريون حيال اللجنة الدستورية، لا يتعلق بقدرة المجتمعين في جنيف على التوصل إلى حلول تفضي مخرجات تأسيسية لحلّ سياسي شامل. وإنما طبيعة الأزمة السورية المعقدة بشقيها السياسي والعسكري، إضافة إلى عدم وضوح الرؤى الإقليمية والدولية لماهية الحلّ في سورية. خاصة أنّ القدرة التأثيرية لواشنطن في سياق تعطيل أيّ حلّ سياسي، تفرض نمطاً حذِراً من التعاطي مع كافة القوى الفاعلة والمؤثرة في الشأن السوري. حيث أنّ قدرة الدولة السورية وحلفائها على ضبط واحتواء أيّ تطوّر سياسي وكذا عسكري، يقابله في جانب آخر سيناريو إقليمي ودولي جديد، يرمي إلى إعادة الوقائع وما تمّ تأسيسه سورية، إلى نقطة البداية. من هنا فإنّ التجاذبات الدولية حيال سورية، لا بدّ أن تفرض تأثيراً بالحدّ الأدنى على مسار اللجنة الدستورية وآليات عملها. وبصرف النظر عن اجتماع الوفود الممثلة للدولة السورية وما يسمّى بالمعارضة، إضافة إلى أعضاء المجتمع المدني الذين اختيروا بعناية من قبل المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية. إلا أنّ هذا المشهد، لا يعكس الصورة الحقيقة لأيّ توافق سياسي، بقدر ما يمثل انعكاساً واضحاً للعبة موازين القوى، والتناقضات البينية بين الأطراف المؤثرة في سياق الحلّ السوري، وتحديداً جزئية محور قوى العدوان على سورية، والتي تلعب درواً رئيسياً في عرقة التوصل إلى تسوية نهائية.
إيجابية غير بيدرسون المبعوث الأممي إلى سورية، قبل انطلاق أعمال اللجنة الدستورية، وتصريحاته في جنيف خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده قبل بدء أعمال اللجنة، قد تكون دبلوماسية الرجل تفرض هذه الإيجابية، لكن نواياه وتعاطيه الإيجابي لا يعني السوريين، الذين يتطلعون إلى هذه اللجنة على أنها رافعة للحلّ السياسي في سورية، لأنّ هذه اللحظة التاريخية التي استحقت تنويه بيدرسون، والتي تمثلت باجتماع الوفود تحت سقف جنيف، لا تعدو كونها مجرد وجهة نظر أممية، دون أن يكون لها تأثير مباشر على أية تطورات توصل سورية والسوريين إلى مسار الحلول. فالتركيز على آلية عمل اللجنة الدستورية ومخرجاتها التوافقية، دون تدخلات خارجية، يفترض أن تكون من الثوابت الأساسية، إضافة إلى التأكيد على السيادة السورية ووحدة أراضيها، وحصرية النقاش داخل اللجنة بين السوريين من دون أيّ تدخل خارجي، وملكية وقيادة اللجنة من السوريين، ورفض التقيّد بأيّ جدول زمني يشكل عامل ضغط واستعجال على عمل هذه اللجنة.
هذه الثوابت لا تتوافر بمجملها لدى الأطراف المعارضة المشاركة في اللجنة الدستورية، ولعلّ بعض هذه الأطراف ترى في التواجد الأميركي في سورية، وعملية «نبع السلام» التركية، أوراق قوة ستفتح بشكل غير مباشر ضمن سياق المناقشات الدائرة في جنيف. وبالتالي يبدو واضحاً أنّ حجم الهوّة بين الوفود الثلاث لا يمكن ردمه بالإيجابيات الدبلوماسية، أو الشعارات التي لا تنطلق من بعد وطني جمعي راغب بالتوصل إلى حلّ سياسي، دون ذلك لا يمكن التوصل إلى نسبة 75 بالمئة، والتي على أساسها سيتمّ التوافق على اية قاعدة دستورية، في ظلّ الخلفيات السياسية والأجندات الإقليمية والدولية التي بحوزة بعض الأطراف المشاركين، عطفاً على الاختلافات الظاهرة فكرياً. ضمن ذلك لا يمكن توقع أن تكون هذه اللجنة منعطفاً سياسياً قابلاً للتطبيق الواقعي، وإسقاطه مباشرة على واقع الأزمة السورية.
لعلّ المقاربات التكتيكية التي رافقت بدايات تشكيل اللجنة الدستورية، قد ارتكزت في المضمون على الواقع الميداني الذي فرضه الجيش السوري، إضافة إلى القدرة الروسية في التأثير على تركيا. لكن التحوّلات العميقة التي طرأت في سياق الحرب على سورية، وتحديداً تلك المنجزات الاستراتيجية التي هندستها الدولة السورية، قد وسمت تفاصيل المشهد السياسي، بفواعل وتأثيرات ستكون بلا ريب إيجابية ضمن الحدّ الأدنى، لجهة امتلاك أوراق القوة سياسياً وعسكرياً، مع امتيازات قد تؤطر أيّ مخرج يأتي من جنيف. هذه المخرجات المحدودة والمعطلة لمسار عمل اللجنة، ستكون أميركية، خاصة أنّ جلّ الأطياف المعارضة التي تتخذ من الدعم الأميركي دريئة سياسية وعسكرية صلبة، لم تعلن هزيمتها كلياً، ولا زالت وعبر رمق أميركي، تناور سياسياً وتأخذ من مقولة السياسية هي استمرار للحرب، منهجاً بدعم أميركي. وبالتالي ستكون هناك العديد من التوازنات التي ينبغي اختراقها وتأطير تأثيراتها، وستبقى كلّ التفاهمات ضمن معادلة التوازنات الإقليمية والدولية.
الواضح مما سبق أنّ توصيف عدم التدخل الخارجي المرافق لعمل اللجنة الدستورية، لا يبدو دقيقاً، ويبدو أنه بحاجة إلى تعرية سياسية وعسكرية لتوضيح مدى تأثير بصمته على مسار عمل اللجنة. فالتدخلات الخارجية هي شوائب معطلة لأيّ حوار سوري سوري، والمفارقة أنّ عمل اللجنة في جنيف تزامن ببصمات أميركية تركية جلها عسكري في شمال شرق سورية، فالبداية كانت بعملية «نبع السلام» التركية، وما تبعه من اتفاق تركي أميركي حيال «المنطقة الآمنة» والكرد، وكذلك انعقاد اتفاق روسي تركي، وكانت الخاتمة بقرار أميركي لجهة السيطرة على حقول النفط في شمال شرق سورية، وعلاقة ذلك بالكرد وتوجهاتهم المستقبلية. كما أنّ إدلب لا تزال بعيدة عن أيّ مسار سياسي في ظلّ عدم التوافق بشأنها، والتعطيل التركي المتعمّد لحلحلة أوراق ملفها، إضافة إلى عدم الرضى التركي حيال الاتفاقين مع روسيا وأميركا.
كلّ هذه التجاذبات والتعقيدات يفترض أن تكون قد طويت سياسياً او عسكرياً، قبيل انطلاق عمل اللجنة الدستورية، وهذه التجاذبات لا يمكن وقفها في ظلّ طبيعة المناخ السياسي والعسكري في شمال شرق سورية. وهذا يشي في جانب آخر أنّ مسار الحرب على سورية، ما زال يحتوي على الكثير من الألغام السياسية، وربما أيّ حلّ سياسي مرتقب لا زال ممنوعاً من الصرف. نتيجة لذلك، فالتوافقات في جنيف حيال اللجنة الدستورية وآليات عملها، يبدو أنها متعذرة رغم المناخ الإيجابي ظاهرياً، ورغم الدخان الأبيض المتصاعد من ردهات جنيف، وبين هذا وذاك لا يمكن الرهان على إمكانية أن تحقق هذه اللجنة حلاً للحرب على سورية.
بقي أن نقول إنّ الدولة السورية ورغم الإيجابية السياسية في تعاطيها مع أيّ منعطف سياسي، إلا أنّ الخيار العسكري ما زال يفرض بعداً آخر في الخارطة السياسية، ولا شك ضمن ذلك بأنّ ما ينجز في الميدان يترجم في السياسية، ورغم ذلك تبقى دمشق عرابة لأيّ حلّ سياسي، ولا يمكن بأيّ صيغة سياسية أميركية أو تركية، أن يفرض عليها ما لا ترتضيه.
|