المسألة الفلسطينية في المنظور القومي الاجتماعي
سعاده نبّه السوريين منذ عام 1925 إلى خطر الصهيونية، ومخاطر تصريح بلفور
في عام 1931 أوضح سعاده لرئيس الوزراء البريطاني فظاعة الجريمة التي أدَّت إلى اقتطاع جزء من الأمة السورية
بعد تأسيس الحزب أخذت المسألة الفلسطينية اتجاهاً ثقافياً وعملياً
أفواج الشهداء القوميين الاجتماعيين في مواجهة العدو الصهيوني توالت منذ حسين علي البنا ومحمد سعيد العاص في 1936 إلى خالد علوان ووجدي وسناء والعشرات بعد الاجتياح اليهودي عام 1982
لم يمضِ زمن طويل على صنع الدولة اليهودية في فلسطين حتى بدأت بعض الأوساط بطرح مشاريع تقر جميعها بوجود الدولة اليهودية، ومع ذلك لم يكتب النجاح لأي من هذه المشاريع المستمرة حتى الآن، رغم قبول بعض القيادات الفلسطينية، وقيادات العالم العربي بها، فالدولة اليهودية وحلفاؤها خاصة الولايات المتحدة ليسوا صادقين في مشاريعهم ووعودهم، ولن يكونوا صادقين الآن ولا في المستقبل. ومع استمرار طرح التسويات المزعومة رأيت أن أتعرض للمسألة الفلسطينية في المنظور القومي الاجتماعي، بدءاً من أفكار سعاده قبل تأسيسه الحزب السوري القومي الاجتماعي، وبعد تأسيسه وإسهامات الحزب في الصراع الذي بدأ قبل تأسيس الدولة اليهودية ولازال مستمراً حتى الآن.
إن الصراع بين أمتنا وبين اليهود صراع تاريخي ثقافي بدأ تاريخياً مع نشأتهم، وثقافياً مع تدوين كتابهم (التوراة) التي يدعون فيها بوعد (إلههم) يهوه لهم (بأرض كنعان ملكاً لهم)(1)، وبوطن يمتد من (الفرات إلى النيل)(2). وإن المنظمات اليهودية التي نشأت تاريخياً، ونمت وتكاثرت في العالم منذ بداية القرن التاسع عشر وما بعد، جميعها ترتكز إلى تعاليم (التوراة)، والمنظمة الصهيونية وإن كانت تضم في صفوفها أشخاصاً غير يهود إلا أنها ككل المنظمات الأخرى تعتمد التعاليم (التوراتية)، إلا أن الصراع الفعلي الواقع الذي بدأ في بلادنا، كان في بدايات القرن العشرين بعد مؤتمر بال وإعلان (المنظمة الصهيونية) ومن ثم فيما بعد تصريح وزير خارجية بريطانيا (اللورد آرثر بلفور) الذي وعد اليهود باسم دولته (بوطن قومي في فلسطين).
إن سعاده بسبب تربيته القومية واطلاعه باكراً على ادعاءات الحركات اليهودية ومراميها في سورية الطبيعية، دفعته إلى التصدي للخطر القادم، فكتب عام 1925 مقالاً في مجلة (المجلة) التي كان يصدرها والده في البرازيل ولم يتجاوز عمره يومها الحادية والعشرين، ونبّه فيه إلى الويلات التي ستصاب بها الأمة، فجاء في إحدى الفقرات: «إحدى هذه الويلات الآخذة في الحلول في الأراضي السورية كضيف ثقيل يضطر الساكنين إلى الرحيل، هي الصهيونية، فالصهيونيون جمعيات وفروع في جميع أقطارالمسكونة، تعمل يداً واحدة لغاية واحدة هي الاستيلاء على فلسطين وطرد سكانها السوريين منها. ولو كان الصهيونيون وحدهم القائمين بهذا المشروع الخطير لهان الأمر، ولكن يعضدهم في مشروعهم هذا أعظم دولة بحرية على وجه البسيطة إلى يومنا هذا»(3) – مشيراً بذلك إلى بريطانيا-.
وبيّن سعاده في مقالته السابقة أن بعض اليهود الذين وقفوا موقفاً رافضاً للصهيونية، لم يعتبر شيئاً في موقفها، لأنهم لم يتحركوا فعلياً في هذا الاتجاه. وفي مقالته تلك اقترح حلولاً لمجابهة الأخطار القادمة، طالب فيها جميع السوريين بالوحدة، وبضرورة إنشاء منظمات تعد نفسها إعداداً دقيقاً للمواجهة فجاء في إحدى الفقرات: «رغم كل ما تقدم ومع أن الحركة الصهيونية غير دائرة على محور طبيعي، تقدمت هذه الحركة تقدماً لا يستهان به، فإجراءاتها سائرة على خطة نظامية دقيقة إذا لم تضم في وجهها خطة نظامية أخرى معاكسة لها كان نصيبها النجاح، ولا يكون ذلك غريباً بقدر ما يكون تخاذل السوريين كذلك، إذا تركوا الصهيونيين ينفذون مآربهم ويملكون فلسطين»(4).
واستمر سعاده يكتب منبهاً لمخاطر المشروع الصهيوني، وانخرط في جمعيات وأحزاب في محاولة لتكوين نواة تقاوم المشروع، إذ كتب في سنة 1925 أيضاً في مجلة (المجلة) مقالاً بعنوان (سورية تجاه بلفور) عندما زار (بلفور) سورية مدعواً من قبل المنظمة الصهيونية لحضور حفل افتتاح (الجامعة العبرية) أوضح فيها مخاطر تصريح بلفور، والإجراءات الصهيونية المستمرة والمتصاعدة، وشدد فيه على ضرورة إنشاء قوة منظمة لمجابهة الإجراءات الصهيونية(5). وفي السنة ذاتها كتب في (المجلة) أيضاً مقالاً بعنوان (الجنسيات) دعا فيه إلى اتحاد السوريين ورفض قوانين الجنسيات للكيانات السورية من خلال عمل منظم قادر على التغيير، فقال: «إن الخطوة الأولى في طريق الاستقلال الحقيقي هي إلغاء كل قوانين الجنسيات التي تجعل من السوريين أنفسهم أعداء لسورية، بيد أن اتخاذ هذه الخطوة يقتضي القيام بحركة عامة في طول سورية وعرضها»(6)، وفي عام 1931 كتب سعاده رسالة إلى (لويد جورج) رئيس حكومة بريطانيا، ونشرته جمعية (ألف باء) الدمشقية، أشار فيها إلى الأخطاء التي أتى عليها في خطابه في المأدبة التي أقامتها له الجمعية الصهيونية في لندن، وأوضح له فيها فظاعة الجريمة التي أدت إلى اقتطاع جزء من الأمة السورية ومنحه للغرباء بمساعدة حكومته، واستشرف انعكاسات هذه الجريمة على مستقبل العالم، فجاء فيها: «إن أموراً عظيمة- أموراً عظيمة جداً- ستترتب على المحاولة الأثيمة التي لم يعرف التاريخ محاولة أخرى تضاهيها في الإثم والتي أطمئنكم بأن نتائجها لا تقتصر على فلسطين بل ستتناول العالم أجمع، وإن عظمتها البالغة لن تكون لبني إسرائيل بل لجميع بني الإنسان.. ومن يعش ير»(7).
وبعد تأسيس سعاده للحزب أخذت المسألة الفلسطينية اتجاهاً ثقافياً وعملياً، وازداد الاهتمام بها، إذ أصبح الاهتمام من ضمن عمل حزب منظم وباتجاهات واضحة، وما بين تأسيس سعاده للحزب وحتى استشهاده عام 1949 كتب سعاده مقالات عدة، وألقى خطباً عدة تتعلق بالمسألة الفلسطينية، والطريقة التي تعامل بها قادة الكيانات السورية والدول العربية، إضافة لذلك فقد ساهم المفكرون والكتاب والأدباء القوميون الاجتماعيون في معالجة المسألة الفلسطينية وإبرازها كمسألة قومية، وفضح الأضاليل الصهيونية وادعاءات القادة اليهود. ولم يتوقف اهتمام القوميين على المسألة الثقافية والإعلامية، إنما بادروا إلى المشاركة في الثورة التي اندلعت داخل فلسطين عام 1936، واستشهد فيها القائدان القوميان الاجتماعيان (حسين علي البنا) الذي استشهد في معارك نابلس، وهو ابن بلدة شارون في عاليه- جبل لبنان- والضابط محمد سعيد العاص ابن حماة الذي استشهد في جبال الخضر، وكان قبل ذلك قد حكم بالإعدام في المجلس العرفي بعاليه أبدل إلى الحكم عليه بالسجن، حيث سجن في حلب، وعند نشوب الثورات ضد الانتداب الفرنسي ساهم في جميع الثورات التي نشبت في (الجمهورية الشامية) بدءاً من ثورة الشمال حتى الثورة السورية الكبرى التي أعلنها (سلطان باشا الأطرش) ترك كتابين هما (تجارب حربية) و(صفحات حمراء من تاريخ الثورات السورية).
وفي عام 1937 وجّه سعادة مذكرة إلى عصبة الأمم المتحدة بشأن تقسيم جنوب سورية إثر قرار الحكومة البريطانية وتقرير البعثة الملكية (بعثة اللورد بيل) الذي اعتمد المسألة مسألة بريطانية، وجاء في فقرة من المذكرة: «إن النقطة الابتدائية لنظر (بعثة بيل) هي اعتبار مسألة جنوب سورية مسألة بريطانية بحت. متعلقة بوعود بريطانيا للحسين، ووعدها لليهود، وهذه الوجهة فاسدة حقوقياً لأن ما تريد بريطانيا أن تتقيد به لأسباب سياسية ليس حقاً على منطقتها الانتدابية في سورية. وإن اعتبار الوعود البريطانية أساساً لبحث مسألة جنوب سورية، بدلاً من المادة الثانية والعشرين من ميثاق العصبة الأممية متناقض كلياً كل المناقضة للمبادئ الحقوقية المعترف بها عند الأمم المتمدنة. إن مسألة جنوب سورية ومصيره ليست مسألة بريطانية داخلية». وفي سنة 1944 كتب سعاده مقالاً في جريدة الزوبعة حلّل فيه الوضع الحربي العالمي وتطلعات الدول الكبرى آنذاك (الولايات المتحدة، بريطانيا، وروسيا) وأطماعها في منطقة سورية الطبيعية، وفي مقال آخر في الجريدة ذاتها بيّن الحالة في سورية، ومسألة فتح باب الهجرة لليهود إلى فلسطين مؤيداً بدعم دولي(9). وتتابعت خطاباته كما أسلفنا حتى استشهاده في كل ما أحاط بالمسألة الفلسطينية والأطماع اليهودية ومنعكساتها، والأوضاع السورية المتعلقة بها.
ومع استمرار الانتفاضة، استمر القوميون الاجتماعيون بالمشاركة فيها، خاصة بعد إعلان الدولة اليهودية، ففي سنة 1948 استشهد (محمد فواز خفاجة)(10) من جباع الشوف، في معركة بين اللد والرملة، حيث كان ملتحقاً في (منظمة الزوبعة) بقيادة الرفيق مصطفى سليمان، وكان هو قائد مجموعة المقاتلين في حيفا. وكانت في نفس الوقت قد تشكلت فرق من المتطوعين القوميين للقتال في فلسطين، واستشهد عدد منهم، ومنهم مجموعة من (بلدة الحفة) في اللاذقية. واستشهد أيضاً في السنة ذاتها الضابط محمد سعيد عقيل زغيب من (يونين- قضاء بعلبك) في معركة المالكية، وفي السنة ذاتها استشهد عدد من القوميين الذين كانوا يؤدون الخدمة في الجيش الشامي، منهم: علي نشأت، شريف توفيق، سامي عزيز حواط، فارس الخطيب، عزيز سلوم، عزيز سليمان، محمد زكي حاتم، عبد الحميد أباظه، نور الدين الأتاسي، الملازم أول فتحي الأتاسي، الملازم أول عبد القادر حاج يعقوب، والملازم أول الطيار فيصل ناصيف. وعند تشكيل جيش الإنقاذ التحق فيه عدد من القوميين الاجتماعيين، منهم العقيد أديب الشيشكلي، والمقدم غسان جديد، واثنان من إخوته(11). وفيما بعد الملازم أول أسعد عمير.
وفي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تطوع الكثير من القوميين للعمل في صفوف المقاومة الفلسطينية ثم ساهموا في العمليات ضد العدو على الحدود اللبنانية- الفلسطينية، وبعد الاجتياح اليهودي للبنان عام 1982، قام القوميون بالرد على العملية بقصف مستعمرة (كريات شمونة)، وقام الشهيد خالد علوان بعملية الويمبي التي قُتل فيها عدد من الضباط والجنود اليهود في وسط بيروت، وتتالت العمليات في كل المناطق التي تواجد فيها الاحتلال، إلى أن انطلقت العمليات الاستشهادية التي نفذها كل من: وجدي الصايغ، سناء المحيدلي، خالد الأزرق، ابتسام حرب، علي طالب، عمار الأعسر، مريم خير الدين، زهرة أبو عساف، مالك وهبي، محمد قناعة، نورما ابو حسان وفدوى غانم.. كما تعرض القوميون للأسر في معتقلات العدو وخاصة معتقل أنصار، واستطاعوا بإيمانهم وصبرهم وعزيمتهم حفر نفق تحت المعتقل والهروب منه وكان الشهيد عاطف الدنف قائداً لعمليات الهروب الكبير.
ولم تتغير مواقف القوميين، ولن تتغير، وهم يعملون على خطوط عدة لانتصار القضية التي يعملون لأجلها.
المستندات
(1-2): (التوراة).
(3): المحاضرات العشر- سعاده.
(4-5-6-7-8-9-10-11): مراحل المسألة الفلسطينية- سعاده.
نشرت في العدد 393 من جريدة "البناء" الدمشقية.
|