أمام هذه المصادر الجديدة، رأى الكاتب أن علاقة جوزفين بخليل جبران قد اكتسبت ابعاداً جديدة وتفاصيل دقيقة تدعو الى اعادة درسها والتأمل بمجاريها. فنحن الآن أمام مصادر متعددة متنوعة: يوميات جوزفين ومخطوطاتها غير المنشورة ورسائل جبران العديدة إليها من جهة ومن جهة أخرى كتابات جوزفين وجبران الأدبية كما نراها من خلال الأضواء التي تؤمنها الرسائل والكتابات غير المنشورة. مع تعدد الأصوات تتضح الرؤية وتبرز التفاصيل. إن الاضواء التي تسلطها هذه الوثائق تستدعي إعادة النظر في الاتجاهات الروحانية في كتابات جبران لأنها تؤمن مفتاحاً جديداً لرموز الكتابات الجبرانية.
وقد رأيت أن أفضل شكل لتقديم هذه المصادر هو عبر التسلسل الزمني فقمت بادراج رسائل جبران أولاً وفق تواريخها ثم عمدت الى مقاطعتها بيوميات جوزفين ومن ثم بمقاطع موازية من مخطوط "الروحاني". ولما كان الحوار بين الشاعرين يتناول من حين الى آخر مواضيع من قصائد جوزفين، عمدت الى ادراج هذه القصائد ضمن السرد حيث كان ذلك موافقاً. وعلى ضوء الصورة المتكونة راجعت كتابات جبران الادبية وانتقيت منها ما ترابط مع العلاقة بين الفنانين مما اهمل في السابق أو عزاه الكتاب الى خيال جبران. وأدرجت هذه النماذج من ادبيات جبران حيث رأيت انها تشابه ما يرد في رسائله أو كتابات جوزفين. في النهاية تكوّن لدي سرد منتظم للعلاقة العاطفية الفكرية بأصوات متعددة فاذا هي صورة حية دقيقة الحساسية وسريعة التحرك يواكب فيها القاريء شخصيتين فذتين بلوامعهما وضعفهما البشري. وقد رأيت عدم اقتحام أي تعليق في صلب السرد لتظل أصوات جبران وجوزفين هي الأصل، لذلك عمدت الى جعل جميع الشروح التي رأيت فيها فائدة للاضاءة على النصوص في الحواشي فيستطيع القاريء مراجعتها باستقلال عن النصوص.
ولا علاقة لهذا الحب بالمغامرة الجنسية التي يرويها ميخائيل نعيمة في سيرته لجبران(1) اذ تفصل بين الحادثتين اربع سنوات. وفي القصة التي يرويها نعيمة المرأة التي تغوي جبران امرأة ثرية أكبر منه سناً (كما كانت جوزفين وماري هاسكل وغيرهن من النساء في حياة جبران). واذا نظرنا الى النساء اللواتي عرفهن جبران في بوسطن قبل عودته الى لبنان للدراسة في معهد الحكمة نجد لويز غينيه Louise Guiney (2) (صديقق الفنان المصور فردريك داي F.H. Day نصير جبران)، الفنانة ليلا كابوت ييري Lilla Gabot Perry (3) (وهي الرسامة التي رسمت جبران بزي عربي) والسيدة سارة سيزر Sarah Choate Sears (4) (مصورة موهوبة ومشجعة للفنون وزوجة لرجل ثري). هذا بالطبع اذا صدقنا القصة ولم نعتبرها من نوع التلفيق الشبقي الذي يعمد اليه الشبان وفي حواراتهم الخاصة! ولعل جبران مارس نوعاً من هذا التلفيق مع اصدقائه حتى في بضع رسائله (5) لكن جبران لم يفكر ان صديقه ميخائيل نعيمة يعمد الى نشر هذه القصص. وبدل ان يهتم نعيمة (وغيره) بغنى الجو الثقافي في صحبة تلك النسوة ومفاعيل ذلك على النمو الفكري لجبران، أخذ نعيمه (وغيره) طريق الاثارة والدس. هذا شأن ضحالة الفكر والنميمة. ويجدر التذكير هنا أن انطون سعاده كان من أول من اشار الى محاولات نعيمة لإغتياب زميله في الرابطة القلمية(6).
رسائل جبران الى جوزفين غير منشورة سابقاً وتقدم هنا بنصها الانكليزي وبترجمة عربية للمرة الأولى. لكن تجب الاشارة الى أن الرسالة الأولى من جبران الى جوزفين قد نقلتها هذه الاخيرة مع بعض التصحيح في يومياتها وقام بنشرها الجبرانان ونقلها عنهم الآخرون. واعتمادنا في هذا الكتاب النص الاصلي مباشرة يبرر قولنا ان جميع هذه الرسائل ينشر للمرة الاولى. وهذه الرسائل ليست كل ما كتب جبران الى جوزفين فقد عمدت الشاعرة الى اتلاف متعمد لبعض الرسائل من جبران في فترة عصيبة من علاقتهما كما سيجيء. ووتيرة رسائل جبران ترسم مسيرة العلاقة، فاذا نظرنا الى عدد الرسائل في كل شهر تبين لنا تصاعد اللقاء ثم هبوطه الحاد المؤلم(7).
يقع النص الروحاني في نيف وخمسين صفحة. كتبت جوزفين ملاحظاتها بين كانون الاول عام 1902 وكانون الثاني 1904، لكن جل الفصول الخمس وعشرين بين كانون الاول 1902 وآب 1903 وانقطعت بعد ذلك عن الكتابة لأسباب سوف نتناولها في حينه. وتراوحت هذه الفصول في الطول بين بضعة أسطر الى عدد من الصفحات. وكتبت جزفين معظمها بصيغة الغائب كأنها تكتب رواية إلا انها في بعض الاحيان استعملت صيغة المتكلم الى جانب صيغة الغائب. وأشارت الى جبران بصيغة الغائب، أو بعبارات خليل أو الصبي أو ج خ ج، وهو الامضاء الذي كان جبران يستعمله في رسائله ورسومه في ذلك الوقت.
ليس من الواضح ما كان غرضها من تدوين هذه الملاحظات خارج يومياتها اذ فيها الكثير من التفاصيل التي تشابه أحياناً يومياتها المستفيضة. ولعلها رأت في مواضيع هذه الملاحظات ما هو متميز عن تدويناتها في يومياتها فافردت لها سفراً خاصاً. ومن الممكن ايضاً أنها كانت تجمع ملاحظات لغرض كتابة عمل ادبي يتناول الروحانيات ثم ان الناحية الشخصية طغت على الامر. هذه اذا صفحات غير منقحة أو مجلية تحتفظ بنضارة وعفوية التدوين المباشر بعد الحدث.
وقد اعترى هذه الملاحظات بعض التلف في بعض صفحات فصعب تحري النص. وهناك في مواضع أخرى أحياناً كلمات غير واضحة في الاصل ولم يستطع الكاتب تحري ماهيتها. وفي الحالتين عمد الكاتب الى الاشارة الى هذه الفجوات برمز
(...).
1- Naimy,Mikhail: kahlil Gibran: a Biography. Philosophical Library,NY, 1950.
2- لويز غينيه (1920-1861) شاعرة وكاتبة أميركية من أصل إيرلندي نشرت مجموعتها الشعرية الاولى سنة 1884 وتبعت ذلك بعدد كبير من الكتب في الشعر والنقد الادبي والتاريخ والسيرة بلغت نيف وثلاثين كتاباً ومئات من المقالات. كانت على صداقة مستمرة مع فردريك داي نصير جبران واهتمت باعمال هذا الاخير وبتشجيعه. هاجرت الى بريطانيا سنة 1901 حيث تابعت في أوكسفورد مسيرتها الثقافية في ابحاث الشعر الديني القديم وأدب القرون الوسطى الاوروبية.
3- ليلا كابوت ييري كاتبة ورسامة أميركية (1933-1848) درست الفن في بوسطن وميونخ وباريس حيث تعرفت عام 1889 الى كلود مونه claude Monet وأصبحت تلميذة له، وحذت حذوه في اسلوبها في الرسم، وسكنت في فرنسا على مقربة من بيت مونه في جيفرني. ورغم انها لم تحترف الفن، فإن المعارض التي أقامتها في بوسطن ونيويورك وشيكاغو وسان فرنسيسكو وواشنطن وطوكيو واوروبا حازت على تقدير النقاد. واشتركت في معارض باريس السنوية التي كانت حلم جبران. وقد رسمت جبران في زي عربي قبل عودته إلى بيروت للدراسة وهذا الرسم حالياً في متحف سفاناه، في ولاية جورجيا حيث ايضاً رسوم جبران من مجموعة ماري هاسكل. وكانت ييري من أهم مناصري المدرسة الانطباعية ومهدت السبيل أمام رسامين أميركيين آخرين من مثل ماري كاسات. وقد نشرت ايضاً في حياتها عدة مجموعات شعرية وبالاخص مجموعة ترجمات من الشعر الاغريقي القديم لشعراء مشرقيين من الفترة السلوقية من مثل مليغر وفيلو ديموس. ويمكن القول انه على الصعيد الفني فاقت ييري جبران بأثرها على تطور الفن التشكيلي في أميركا.
4- سارة سيرز (1858-1935) من عائلة ارستقراطية بدأت حياتها الفنية بالرسم ثم تحولت إلى التصوير الفوتوغرافي. وكانت على صداقة مع عدد كبير من الفنانين الاميركيين الذين قاموا برسمها من مثل جون سارجنت وماري كاسات. وكانت سيزر نصيرة لكثير من الفنانين الشباب من بينهم جبران وقد ساعدت عدداً منهم على السفر إلى اوروبا للدراسة كما فعلت ماري هاسكل مع جبران.
وكانت سيرز تمتلك عدداً كبيراً من الرسوم لكبار الفنانين المعاصرين وعدداً من رسوم جبران وتوزعت مجموعاتها بعد وفاتها إلى عدد من المتاحف الاميركية.
5- أنظر رسالة جبران إلى جميل معلوف 1908 في المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران الرسائل، جمع وتقديم انطوان القوال، دار الجيل، بيروت، 1994، الصفحات 37-33.
6- انظر انطون سعاده، مقالة " تجار الادب في المهجر- الرابطة القلمية " حيث يكتب: " ومخائيل نعيمة بقي محافظاً على صفة الاديب الصحيح مع كل اجتهاده الباطل ليصير فيلسوفاً ومع محاولته لغم صيت جبران لكي لا يبقى أسم أدبي أمام اسم نعيمة". أنطون سعاده، الاعمال الكاملة، مؤسسة سعاده للثقافة، بيروت، 2001، الصفحات 75-65.
7- وتيرة رسائل جبران: عام 1902: 4 في تشرين الثاني، و3 في كانون الاول، في 1903: 9 في كانون الاول، 7 في شباط، 13 في آذار، 4 في نيسان (كانت جوزفين في شيكاغو لمدة اسبوعين فلم يكتب لها جبران)، 7 في ايار، 5 في حزيران (توفيت والدة جبران في ذلك الشهر)، 8 في تموز، 6 في آب ، صفر في ايلول (قد تكون هذه هي الرسائل التي اتلفتها جوزفين)، واحدة في تشرين الاول، 2 في تشرين الثاني: ثلاث رسائل في كل 1904، لا رسائل في 1905، وثلاث رسائل في 1906.
|