سعت حكومة حزب العدالة والتنمية التركي لجهة اعتماد واحد من أشد المواقف عدائية ضد دمشق، الأمر الذي دفع التوترات بين سوريا وتركيا إلى حافة المواجهة، وفي هذا الخصوص نشر معهد السلام الأمريكي ورقة بحثية خصصها لجهة فهم محفزات أنقرا الجديدة إزاء دمشق: لماذا تحولت علاقات أنقرا إزاء دمشق لجهة تفضيل خيار الصراع على خيار التعاون.. وهل ستسعى أنقرا لجهة العودة إلى خيار التعاون بعد أن تبين أن خيار الصراع قد أصبح بلا جدوى؟
* توجهات السياسة الخارجية التركية العدائية الجديدة إزاء دمشق:
تطرقت ورقة معهد السلام الأمريكي البحثية إلى التدقيق الفاحص في موقف أنقرا العدائي الجديد إزاء دمشق من خلال التركيز على أربعة متغيرات، وذلك على النحو الآتي:
• المتغير الانتقالي المتدرج: تطورات علاقات أنقرا ـ دمشق من مرحلة السلام البارد إلى مرحلة التعاون الوثيق على مدى 15 عاماً، بشكل استغرق الفترة الممتدة من عام 1990 (لحظة انتهاء الحرب الباردة) وحتى عام 2003 (لحظة غزو واحتلال العراق)، ومن أبرز المخفزات على هذا التحول نجد أن صعود حزب العدالة الوتنمية التركي إلى السلطة في انتخابات عام 2003، وخلافات أنقرا ـ واشنطن، وخلافات أنقرا ـ تل أبيب، لعبت جميعها دوراً هاماً في تزايد التقارب في علاقات دمشق ـ أنقرا.
• متغير الحدث الاحتجاجي: بحلول لحظة اندلاع الاحتجاجات السياسية السورية، تحولت أنقرا باتجاه استبدال بنود جدول أعمال علاقاتها مع دمشق بحيث حلت بنود العداء والصراع محل بنود السلام اولتعاون.
• متغير الإدراك التركي: ظلت أنقرا تنظر باهتمام بالغ إلى سوريا باعتبارها بوابة الدخول الرئيسية للمنطقة العربية، وبرغم تعاون دمشق مع أنقرا خلال السنوات الماضية فقد اعتقدت أنقرا بأن الحدث الاحتجاجي السوري، سوف يسفر عن صعود القوى الإسلامية السورية، بما يتيح لأنقرا فرصة أكبر في المنطقة.
• متغير الدور التركي: انحياز أنقرا إلى جانب المعارضة السورية وبقية خصوم دمشق، أدى إلى دخول علاقات أنقرا ـ دمشق مرحلة القطيعة.
هذا، وعلى أساس اتجاه عمل هذه المتغيرات نلاحظ أن فعالياتها سوف تمضي بلا شك باتجاه التصعيدات السلبية في علاقات دمشق ـ أنقرا، الأمر الذي سوف يقضي عملياً على مذهبية السياسة الخارجية التركية التي ظلت أكثر تأكيداً على مبدأ "تصغير المشاكل" مع دول الجوار الإقليمي التركي، وبكلمات أخرى، لقد سعت أنقرا إلى توتير علاقاتها مع دمشق، الأمر الذي جلب لأنقرا توتير علاقاتها مع إيران والعراق وبدرجة أقل مع لبنان.
* أزمة السياسة الخارجية التركية إزاء دمشق: إشكالية ترتيب الأولويات
يقول خبراء الشؤون الدولية بأن السياسة الخارجية تنصرف إلى الالتزام بإنفاذ برنامج رباعي يتضمن: التوجهات ـ الأدوار ـ الأهداف ـ والاستراتيجيات، وفي هذا الخصوص، بالإسقاط على فعاليات العلاقات التركية ـ السورية العدائية الجارية حالياً، نلاحظ الأتي:
• التوجهات: أصبحت توجهات أنقرا الحالية أكثر ميلاً باتجاه الرهان على فرضية تغيير النظام في دمشق، ومشكلة أنقرا أنها لا تملك الموارد اللازمة لجهة إنفاذ هذه الفرضية على أرض الواقع السوري.
• الأدوار: تدخلت أنقرا في ملف الاحتجاجات التونسية والمصرية عن طريق التصريحات، ثم سعت للتدخل في ملف الاحتجاجات الليبية عن طريق العمل الدبلوماسي والعسكري، والآن في ملف الاحتجاجات السياسية السورية سعت إلى التدخل عن طريق الوسائل الدبلوماسية والعسكرية و الاقتصادية، ولكن أنقرا لم تضع في حسابها أن طبيعة وظروف الاحتجاجات السورية تختلف بقدر كبير عن تلك التي حدثت في ليبيا، وبكلمات أخرى من غير الممكن إن لم يكن من المستحيل أن تقوم أنقرا بنفس الدور الذي سبق أن قامت به في ليبيا.
• الأهداف: تدخلت أنقرا دبلوماسياً وعسكرياً في ليبيا على أمل الحصول على النفوذ السياسي والثروة النفطية.. ولكنها وبرغم جهدها الكبير، لم تنجح في الحصول لا على النفوذ ولا على الثروة النفطية.. والآن، في سوريا، سوف تواجه أنقرا مشكلة أن التدخل في حد ذاته غير ممكن، وبالتالي من السابق لأوانه، بل ومن العبث غير المجدي أن تسعى أنقرا لتحديد أهداف لتدخلها في سوريا طالما أن التدخل نفسه غير ممكن..
• الاستراتيجيات: سوريا بلد استراتيجي هام، تتصارع حوله كل القوى العظمى ، وبالتالي هل تستطيع أنقرا إبعاد القوى العظمى عن سوريا والإنفراد بسوريا؟ بالطبع الإجابة البديهية تقول بأن أنقرا لن تستطيع فرض نفوذها على محافظة سورية واحدة ناهيك عن كامل الأراضي السورية، وإضافة إلى ذلك، حتى إذا حدث تدخل أجنبي هل ستقبل أمريكا بالتخلي عن سوريا لصالح تركيا ؟ الإجابة واضحة..
تتميز كل دولة وكل نظام سياسي بوجود جانبين كليين، وهما: عامل الطموحات وعامل المصالح، وتأسيساً على ذلك، درجت دوائر صنع واتخاذ القرار في سائر دول العالم لجهة التركيز على عامل المصالح وتغليبه على الطموحات، وبالنسبة لأنقرا، فقد سعى معظم خبراء الشؤون الدولية لجهة التأكيد على أن أنقرا قد ارتكبت غلطة فاحشة عندما تحولت باتجاه استبدال علاقات التعاون مع دمشق بعلاقات الصراع، الأمر الذي حمل إشارة قوية لجهة أن أنقرا قد غلّبت طموحات السياسة الخارجية التركية على مصالح السياسة الخارجية التركية.. وبكلمات أخرى، فإن حجم خسائر الميزان التجاري التركي بفعل توجهات أنقرا العدائية إزاء سوريا، سوف تتزايد وتائره بحجم أكبر إذا تمادت أنقرا في تغليب طموحاتها على مصالحها، هذا ويتوقع العديد من الخبراء أن تسعى أنقرا لاحقاً لجهة إعادة ضبط حساباتها السياسية الخارجية إزاء سوريا.. وعلى الأغلب أن تدرك أنقرا مدى أهمية القيام بذلك بفعل تزايد توترات العلاقات التركية ـ الفرنسية، والأوروبية الغربية، وعلى أنقرا أن تسعى لجهة القيام بعملية إعادة ضبط وإعادة تقويم بنود جدول أعمال سياستها الخارجية إزاء سوريا اليوم قبل الغد، طالما أن المعارضة السورية لن تستطيع تقديم الدعم الذي يتيح لأنقرا تغطية خسائر ميزانها التجاري، ناهيك عن تحسين صورة أنقرا التي تشوهت كثيراً بفعل تدخلها في الشأن السوري الداخلي على النحو الذي أدى إلى التقليل من مكانة وأهمية أنقرا، التي قلّت بالأساس بفعل تدخلها في الشأن السياسي الداخلي الليبي..
|