إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

من تاريخنا المضيء في الشام

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2016-12-20

إقرأ ايضاً


في نبذات سابقة، اوردنا الكثير من المعلومات التي جاءت في مذكرات لرفقاء من الكيان الشامي، راغبين عبر ذلك الاضاءة على محطات عديدة من تاريخ العمل الحزبي في الشام، على امل أن يعود الرفقاء والمواطنون الأصدقاء الى قراءة كتب المذكرات، ففيها الكثير مما يفيد التعرف اليه.

*

في كتابها "حلم النهضة" تعرض الأمينة ادما ناصيف حمادة لجانب من العمل السرّي في دمشق بعد حادث اغتيال العقيد عدنان المالكي.

تقول في الصفحة 27

" بعد مقتل المالكي لم نتوقف عن النشاط الحزبي، ولكن من دون تنظيم. ذلك أن المسؤولين في الحزب ابتعدوا عن الأنظار بعامل الحذر، وكانت التعليمات تأتي متفرقة وتنفذ بسرعة ودقة، دون سؤال من أين أتت، علماً أن معظم تلك التعليمات لم يكن اكثر من بعثرة المناشير في الطرقات العامة او لصق صور الزوابع على الجسور وحيطان الأبنية الفخمة في الشوارع وواجهات مراكز الدولة. "عامل الثقة" كان الدافع الرئيسي لتنفيذ تلك التعليمات.

" أما نشاطنا كأعضاء فلم يتوقف عن مساعدة الرفيقات اللواتي سُجن أزواجهن وأصبح وضعهن المالي في غاية الصعوبة. فاجتمعنا نحن الصغار، الذين لم ترد اسماؤهم في لوائح المطلوبين، من طلاب وعمال وموظفين وأصحاب مهن حرة، وبادرنا بجمع الاشتراكات مع تبرعات بعض الرفقاء الميسورين وتقديمها لهن.

" بقينا على هذه الحال بضعة أشهر من سنة 1955 الى أن جاءت التعليمات من المركز بتنظيمنا خلايا سرية، كل خلية مؤلفة من خمسة أعضاء يعرف كل منهم الآخر، ينسّقون العمل من اجتماعات وحلقات إذاعية وجمع الاشتراكات والتبرعات وتقديم التقارير الشفهية للمسؤول عنهم. وكان المسؤول يتصل بواحد من الحلقة، باسم مستعار، وكان الرفيق بشير الموصلي(1) مسؤولاً مركزياً يعمل باسم "عوني". وكان لهذا الاسم أثر كبير في نقمة المحققين عليّ، لأنهم كانوا مصرّين على معرفتي له، وانا كنت أنكر لعدم معرفتي حقاً أن بشير وعوني هما شخص واحد، الى أن واجهوني بجميع الموقوفين قبل أن أدخل سجن المزة سنة 1956. كان ذلك في المحكمة العسكرية حين أراني القاضي صوراً كانت صورة بشير بينها. فالتقطها القاضي وقال: من هذا؟ فأجبت ببرودة: انه بشير الموصلي. وما ان تلفظت باسم بشير حتى انهالت عليّ عاصفة من الشتائم. فقلت اني أعرف بشير ولا أعرف أن عوني وبشير شخص واحد.

" وكان الرفيق نزار محايري منفذاً عاماً وكنا نعتقد أنه فار لكنه لم يغادر دمشق. وجاء يوماً وكلّفني جمع الاشتراكات والتبرعات من أصحاب الشركات والمؤسسات الكبرى في دمشق وإعطاء الأموال الى الرفيق نخلة ماضي(2) الذي يعمل مديراً للمحاسبة في محلات "باتا". فأخبرت رفيقي (وشريك حياتي فيما بعد) نعمة حمادة عن طلب الرفيق نزار. لم يكن نعمة يعمل معنا في الخلايا ولكنه كان يحمل البريد بين المركز في بيروت ودمشق. لم يكترث نعمة للشركات قائلاً: ان رجال الأعمال لن يتذكروك فقد لا تلتقي بهم أكثر من مرة، أو مرتين، المهم هو الرفيق نخلة واستعداده النفسي للعمل من دون أن يسجّل الأسماء. وأن لا تكون عادة "التسجيل" قد تغلبت على طبيعته فنحن الآن، أحوج للثقة والسرعة، كما أن تسجيل الأسماء يعرّضنا للسجن، فاذهبي اليه والفتي نظره لهذا الامر. أما الاشتراكات والتبرعات فسأنقلها أنا مع البريد. لكن الرفيق نخلة رفض اقتراح نعمة.

" كنا نسكن في زقاق، او زاروب نسبة للشوارع، وكان سكان (زقاق الصخر) يعرفون بعضهم بعضا بشكل جيد، وكانت حاجاتهم اليومية جميعها موجودة في ذلك الزاروب، من سمّان وخبّاز ونجّار ولحّام ومصبغة. وجئت أنا وأكملت المجموعة بالخياطة، وكان اي شخص غريب يدخل الى ذلك الزاروب يعرف الجميع الى اي بيت دخل. بعض السكان كان لديهم غرف زائدة عن حاجاتهم يؤجرونها مفروشة للطلاب أثناء فصل الدراسة.

" في ذاك المنزل المتواضع واصلنا نشاطنا من عقد اجتماعات وحلقات إذاعية، وشرح للتعاليم للمنتسبين الجدد. ولتغطية ذلك النشاط كنا نختلق المناسبات من أعياد زواج أو ميلاد أو عودة غائب. في إحدى المرات كان الاجتماع في بيتنا وكانت المناسبة عيد ميلاد أختي، فطُرق الباب الخارجي بشدة. ذهب أخي لفتحه، للحظات سمعنا أصوات ومشادات على الباب، وإذ بثلاثة شبان يحملون في أيديهم عريضة يصرّون عليه لتوقيعها وهو يحاول دفعهم الى الخارج. استنفر الرفقاء في الداخل وأشبعوهم ضرباً ومزقوا تلك العريضة التي "كانت للدفاع عن دمشق من عبث الغرباء". وكان هؤلاء الشباب طلاباً في الجامعة ومن أبناء دمشق فصاغوا تلك العريضة بصيغة سؤال: من منكم يقبل أن تكون دمشق مأوى للصوص القوميين؟ من منكم يتحمل عبث الغرباء باستقرار دمشق أكثر مما تحملت، ومنذ عام؟ فنحن ندعو المواطنين الى طردهم وملاحقتهم للقضاء عليهم.

" كان هذا العمل الفصل الأول للمسرحية، والفصل الثاني كان في مقهى الجامعة في اليوم التالي. استفردت مجموعة من الشبان بالرفيقين نعمة حمادة وحسن مخلوف، وانهالت عليهما ضرباً ورفساً وكسرت الأباريق والكؤوس على رأسيهما فهب لنصرتهما بعض الطلاب من أبناء مدينة حلب وآخرون من مدينة حماه وأنقذوهما في الرمق الأخير.

" لقد أنجدتهما شهامة القبائل التي لم تزل ساكنة في قلب أبناء المدن! والملفت أن الشرطة لم تسعفهما بل تركتهما ينزفان، ثم حملتهما الى أمام البيت الذي يستأجرانه قرب بيتنا، ورمتهما على الرصيف. في فترة قصيرة مضت بين معرفتنا بما حدث وذهابنا لإسعافهما، كانت بقعة كبيرة من الدماء قد غطّت الرصيف. ولحسن الحظ كان أخي يستعد لمغادرة البيت فأسرع لعيادة الرفيق الدكتور عبدالكريم الشيخ(3) وأتى به لإسعافهما.

".بقي الدكتور ما يقارب نصف ساعة يستخرج الشظايا المتبقية في رأسيهما من بقايا الأباريق والكؤوس. كان رأس الرفيق نعمة أكثر حظاً من الجروح والشظايا من رأس الرفيق حسن مخلوف، الطويل القامة. والظاهر أن الذين كانوا يضربونهما قصيري القامة فلم يتمكنوا من الوصول لرأس الرفيق حسن. وقد تكون هذه من فوائد الطول فالجروح كانت أكثرها في وجهه وعنقه أما الرفيق نعمة فكان رأسه مهمشاً. وبعد أن أكمل الطبيب إسعافهما، طمأننا بأن جراحهما ليست خطيرة لأنها جراح شظايا سطحية وليست جراح سكاكين.

*

" وفي كتابه "جنوح الأشرعة" يروي الرفيق جهاد جديد بدءاً من الصفحة 243 وما يليها، كيف كانوا ينقلون البريد الحزبي عبر الحدود اللبنانية- الشامية، ثم كيف يوزعون المناشير والبيانات الحزبية على الرفقاء والمواطنين في اجواء من الحذر الشديد. يقول: " لم تنقطع نشاطاتنا خلال تلك الفترة، ولم نتردد في تنفيذ التعليمات التي كنا نتلقاها، بل كنا، في كثير من الأحيان نبادر ونفاجئ الجميع بمواقف تثبت أننا لن نخلي الساحة. لذلك حرصنا دائماً على الاحتفال بعيد الأول من آذار، يوم ميلاد الزعيم. كنا نختار للاحتفال أمكنة وطرائق لا ترقى اليها عقول المخبرين وأعينهم الزائغة. ولأننا حرصنا على تنفيذ الطقوس المعتمدة، كان بعض الأشبال الناشطين يُكلفون بإشعال النار ومراقبتها في أرضٍ جرداء تتوسط قمة جبل "الصرامة" المكسو بالغابات، حيث لا تستطيع السيارات المخصصة للطرق الجبلية الوعرة أن تصل الى المكان، وحيث لا يتسّنى لرجال الأمن اللحاق بأشبالنا المدرّبين على المناورة بين الأشجار والقادرين على جرّ المداهمين الى مواقع تُعمي وتُدمي . وهكذا يجتمع المحتفلون في مكان مناسب ملاصق للقرية اجتماعاً نظامياً. تضاء الشموع وتعلو الهتافات ويُتلى بيان عمدة الإذاعة، وتقرأ الكلمات والقصائد ثم تغنّى الأناشيد الحماسية. وقد نتناول الطعام قبل أن يعود أولئك الفاسدون المفسدون من مهمة البحث عن مُضرم النار في أعلى ذلك الجبل الذي يبعد اربع او خمس كيلومترات عن مكان الحفل.

" بقيت زمناً غير قصير أتحيّن الفرصة لزيارة الرفيقين القياديين فاضل كنج وجميل مخلوف اللذين تواريا عن الأنظار عقب اغتيال المالكي، لأن السلطة ألحّت في ملاحقتهما باعتبارهما ضالعين في ارتكاب الجريمة المزعومة. عرفت أنهما في معقل آمن، وأنهما يغيّران باستمرار مكان إقامتهما، بين قرى "سيانو" و "دير ماما" و "بقرية" وغيرها من القرى القريبة المتعاطفة مع الحزب.

" لم استأذن ولم أستشر احدا حين نهضت قبل الفجر وتوجّهت من "كلماخو"(4) سيراً على الأقدام الى تلك المنطقة. حاولت أن ألتزم الدرب الذي اخترناه يوم ذهبنا، صيفاً، لاستقبال رئيس الحزب آنذاك جورج عبد المسيح قبيل انتخابات 1954. تذكّرت ذلك اليوم بكثير من الرضا والانبهار وبكثير من الحسرة والأسف. كم كان رائعاً ذلك الاحتشاد الكبير والانضباط الدقيق، لقد كنا مدرسة في الالتزام والنظام. وكان ما حضرناه مهرجاناً رائعاً. تمّ استقبال رئيس الحزب ومرافقيه بصفوف منتظمة وتحيات رسمية وهتافات محددة وأناشيد قومية. تذكرت كيف كان الرفقاء فاضل كنج وجميل مخلوف وفؤاد شوّاف، وأحمد واسكندر وعبدالكريم وغيرهم يرحّبون ويتحركون. وتذكرت صمت الحاضرين حين اعتلى الرئيس منبر الخطابة.

ويتابع في الصفحة 251 فيشرح عن الزيارة التي قام بها الى الرفيقين كنج ومخلوف:

" وصلت قرية "سيانو" قبيل الظهر، لم أجد فيها أحداً من رفقائي . أقعدني التعب قليلاً فاسترحت تحت الظلال والآمال، ثم سعيت ظامئاً الى بيت قريب فسقوني ماء عذباً، والحّوا عليّ كي أشاركهم طعامهم فاعتذرت وتابعت قاصداً قرية "بقرية" وبلغتها ظهراً. هناك لقيت "قيس ومالك وهاني" فأخبرتهم برغبتي وألححت، فأسرع أحدهم الى الرفيقين "الفاريّن" فرحّبا واقترحا أن يصطحبني قيس اليهما عبر درب محدد لا يثير الشبهات.

" سُعدت جداً برؤيتهما وترحيبهما، سألا عن معاناة الأسر، ثم أطلعاني على بعض الصحف اللبنانية وعلى بعض البيانات والأدبيات التي لم تصلنا وزوّداني بجرعات من الثقة والحماسة. عبّرا عن تقديرهما للرفقاء الناشطين في مديرية كلماخو، وفي مديرية رويسة البساتنة(5)، وبعد أحاديث مطولة أثناء الغداء، أشدتُ بالدور الهادئ والملتزم والمؤثر الذي يضطلع به الرفيق سليمان، وأشدت ايضاً بثبات وحماسة الرفيق حبيب بركات، ثم حدثتهما عن مواقف الرفيقين المتلازمين أسعد أسعد وابرهيم جديد في مواجهة المخبرين ورجال الأمن وعن براعتهما في تضليلهم وتعذيبهم، فأحبّا أن أروي لهما بعضاً من تلك الطرائف والمقالب. فسردت عليهما آخر حادثة تناقلها الرفقاء.

" أُخبر رئيس المكتب الثاني في اللاذقية، أن معلم المدرسة ابرهيم جديد المقيم في قرية "رويسة البساتنة" هو الذي يأتي بالمنشورات الحزبية، وهو الذي يشرف على توزيعها، وهو من يرتكب الجنايات التي تهدد أمن واستقرار بلدة "القرداحة" والقرى المجاورة لها، فقرر اعتقاله، وسوقه الى زنزاناته. باغت ورجاله القرية صباحاً وأخبروا المختار أن يتبعهما الى منزل "المتهم المطلوب"، وحين كانوا ينتظرونه تحت المظلة، أدرك الاستاذ ابرهيم أنه محاصر، فأسعفته فطنته وسارع للاستعانة بجاره. ارتدى "قمبازاً" خَلِقاً، وسروالاً من الخام الأبيض الطويل ووضع على رأسه "شملة"

مهلهلة، ثم اتجه الى زريبة الدواب التي يملكها جاره. فكّ رباط الحمار ووضع عليه بعض لوازم الفلاح وخرج ممسكاً برسنه. وحين مرّ أمام المظلة، ألقى السلام على الجالسين ومضى طريقه. ولما وصل الى آخر القرية، أخلى سبيل الحمار، فعاد هذا المتواطئ مرفوع الرأس الى مربطه. في ذلك الوقت الذي رآه المتربصون طويلاً، كان الأستاذ يهبط قافزاً على مدرّجات السفوح، ثم يغيب بين الأشجار في الوديان المجاورة.

هوامش:

(1) بشير موصللي: تولى مسؤوليات عديدة محلية ومركزية. منح رتبة الامانة. صدرت له عن "دار فرات" مذكراته بعنوان "55 عاماً على خطى سعاده".

(2) نخلة ماضي: من الرفقاء المناضلين. من منطقة جديدة المتن.

(3) عبد الكريم الشيخ: منح رتبة الامانة. كان غادر الى كولومبيا متولياً مسؤولية العمل الحزبي فيها. للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى قسم "من تاريخنا" على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

(4) كلماخو: للاطلاع على ما نشرته عنها الدخول الى الموقع المشار إليه اعلاه.

(5) رويسة البساتنة: كما آنفاً

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024