إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

فيروز .. والاختراق الرحباني

ربيع الدبس

نسخة للطباعة 2006-05-31

إقرأ ايضاً


اذا شاع الكفر ازداد العطش الى الإيمان، وإن عمّ الجهل ألحّت الحاجة الى المعرفة، وكلما تلوث ‏الفضاء الفني بفساد الذائقة، تكثف لدى النخبة هاجس التوق الى الجمال.‏


نقول ذلك بعدما بتنا خجلين من الهبوط القياسي للفن الغنائي في لبنان، عنينا انحدار ‏القيمة الفنية للأغنية فكريا وأدبيا وجماليا واخلاقيا. الامر الذي يستدعي وقفة مبدئية ‏واجرائية تكون لها صفة الجدية والاستمرارية. هكذا نقرأ دعوة الطود الفني محمد عبد الوهاب ‏الى معاقبة المسيء الى الموسيقى كما يعاقب المجرمون. والسؤال اليوم: أين نحن من الماضي ‏المشرق فنيا؟ أين ترهات اليوم المزعومة شعرا من القصائد العصماء التي انشدتها حناجر ‏مذهبة في طليعتها الحنجرة الفيروزية التي غذتها نفحات عاصي ومنصور الرحباني الموسيقية ‏والشعرية، النشوى بقطوفها الريّا من خلجات جبران خليل جبران، ومساكب سعيد عقل، وحدائق ‏الاخطل الصغير، وخوابي جوزف حرب وأنسي الحاج وطلال حيدر وميشال طراد. كل ذلك في بنية ‏انتاجية رائية، بل في مؤسسة ابداعية قائدها عاصي الرحباني وقوامها، الى عاصي، منصور ‏وفيروز والفريق الفني، العامل مع المؤسسة الرحبانية المتكاملة، المتنفس بأوكسجينها، ‏الممتزج بكيميائها، والمعمّد بمياهها والروح؟


ثمة امر يستدعي الانتباه فعلا ويطرح السؤال الاستغرابي التالي: لماذا تعمد وسائل الاعلام ‏اللبنانية، بغالبيتها، الى تجاهل البوارق الفنية من انتاجنا والتعتيم عليها، وفي ‏المقابل تبرز المبتذلات وتسوّقها توسلا لغرض مادي رخيص او اسهاما في الاجهاز على ما بقي من ‏الذوق الفني لدى الناشئة، حتى لا نبالغ في الامل بمعيار فني او قيم فنية. وهذا بدوره يقود ‏الى سؤال استهجاني اخر: لماذا لا تستهل وسائل الاعلام اللبنانية برامجها باللمعات ‏الفيروزية كما تفعل على الدوام وسائل الاعلام السورية التي تستوعب الاصالة الرحبانية ‏النظيفة فتقدمها على ما عداها، في حين يستطيب لبنانيو «الحرية» المطلقة طقاطيق الزبد ‏الفني مهما اثقلته القاذورات؟


ألأن الياس الرحباني كان محقا عندما قال في حفل عام ان فيروز انطلقت فعليا من اذاعة ‏دمشق؟ أم لأن بيروت ترفض استكمال ذلك الإنطلاق نكاية بدمشق؟‏


لعل شعبنا في لبنان، المغلوب على أمره سياسياً واقتصادياً، بات أيضاً مغلوباعلى ارادته ‏ثقافياً وفنياً. لذلك فإن وسط الشباب الأوسع لا يتذوق الجمالات ولا يستمع اليها، بل ربما لم ‏يسمع قط بالروائع الرحبانية التي منها، على سبيل المثال لا الحصر، المرتفعات التاليات:‏


ردّني الى بلادي ـ لا تسألوني ـ أعطني الناي ـ قد اتاك يعتذر ـ سكن الليل ـ يا عاقد ‏الحاجبين ـ غنيت مكة ـ زهرة المدائن ـ وطني ـ سنرجع ـ يا مال الشام ـ سائليني يا شام ـ ‏نسمت من صوب سوريا الجنوبُ ـ شام يا ذا السيف ـ أحب دمشق هوائي الارق ـ بالغار كُلّلت أم ‏بالنار يا شام ـ شآم ما المجد ـ شآم اهلوك احبابي ـ أنا صوتي منك يا بردى ـ يا شام ‏عاد الصيف ـ يا جبل الشيخ ـ راجعون ـ جسر العودة ـ يا جسراً خشبياً ـ المحبة ـ القطاف ـ ‏يا امارات ـ أمي يا أميّ الحبيبة ـ ليلية بترجع يا ليل ـ تحت العريشة سوا ـ عمّان في ‏القلب ـ شط اسكندرية ـ في لنا يا حبّ ـ في ربوع بلادي ـ دبكة لبنان ـ بحبك يا لبنان ـ يا ‏زهرة الجنوب ـ قمرة يا قمرة ـ ضوّي يا هالقنديل ـ فايق عليّي ـ يا بياع الخواتم ـ زوروني ‏ـ يارا ـ على جسر اللوزية ـ طير الوروار ـ أنا خوفي من عتم الليل ـ نحنا والقمر جيران ـ ‏جادك الغيث ـ يا ليل الصب متى غده ـ أؤمن ـ سيد الهوى قمري ـ البنت الشلبية ـ سألوني ‏الناس ـ بعلبك ـ بتمرجح بقلبك ـ أنا عندي حنين ـ يا طير ـ بعدك على بالي ـ أسامينا ـ ‏غالي الدهب ـ قالوا العدى قالوا ـ قديش كان في ناس ـ شايف البحر ـ بقطفلك بس هالمرة ـ ‏بكتب اسمك ـ أنا وشادي ـ يا قمر أنا ويّاك.‏


من القصائد الكلاسيكية المطبوعة بالايقاع الرحباني والاداء الفيروزي فالموشحات الاندلسية ‏الى المقطوعات المحكية والمواويل الفولكلورية، فأناشيد الوطن والأمة، الى التراتيل الدينية ‏العلوية، تنغزل نهاد حداد على اليدين الرحبانيتين أغنيات لاهبة وأهازيج، وترتسم ‏المسرحيات الغنائية النوعية علامة ثقافية فارقة في الانتاج الفني الرحباني. وفي هذه ‏المسرحيات بالذات يسلك الرحبانية مسارات وعرة، حافلة بأعباء التاريخ وأمجاده ‏وأمثولاته، دون ان تغفل التعبير عن الحاضر النازف، ولا عن الاتجاه الهادف النازع أبداً الى ‏المستقبل.‏


هكذا ينداح الألق الرحباني على مدى الوطن الذي التزموه: هماً ومسؤولية ورسالة خلاقة. من ‏هنا ارتباط الفن لديهم بالقيم التي يحمل. وغير صحيح على الاطلاق زعم انجذاب الرحبانيين ـ ‏بمن فيهم السيدة فيروز ـ الى شخصية اللامنتمي، حيث لا يصح فيهم ما نسبه بعض النقاد في ‏أوروبا الشرقية الى الاديب الروسي الكبير دوستويفسكي من ميل الى اضفاء اللا إنتماء على ‏ابطال رواياته، إذ لا يمكن الجمع بين صوت رسالي يحمل قيماً وبين صفة اللا إنتماء.. فالرحابنة ‏يمثلون اختراقاً حقيقياً ونوعياً لفجيعة الكمّ المروّج في سوق النخاسة. وان الضوع الرحباني ‏الذي انتقل، بفيروز، الى عالم الخلود، هو ضوع الطيب المنذور لصوت قدسي، عامر بالحب الكبير ‏للفضائل الكبرى.. صوت المؤسسة الفنية المشعة بالقضية، صوت الانتماء المتكىء على أرض ووطن ‏وهوية، صوت المقاومة الداوي في وجه الاجتياح الاستلابي للفن والثقافة والقيم.. صوت الفرح ‏المرصود لنصر ما بعد الهزيمة، صوت العدالة الانسانية الراجحة على الظلم، والحق المستنفر ‏على الباطل، والسلاح الحضاري في معركة الكرامة الواجبة ضد الاحتلال والاضطهاد والانتهاكات ‏وازدواجية المعايير: «يا صوتي ضلّك طاير. زوبع بها الضماير. خبّرهم علي صاير.. بلكي ‏بيوعا الضمير».‏


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024