أعطت منصة الآستانة القيادة التركية غطاء "شرعياً" للتدخل في ملف الأزمة السورية، بموافقة كل من روسيا وإيران شريكي تركيا في المساعي المبذولة لضبط الوضع الميداني، بعدما أستطاعت القوات السورية النظامية وحلفاؤها المحليون والإقليميون من تغيير المعادلات العسكرية على الأرض لصالح وحدة الأراضي السورية وصيانة النسيج الاجتماعي السوري.
ولا شك في أن منصة الآستانة تمكنت من تحقيق مجموعة من الإنجازات الأمنية، خصوصاً في مرحلة تراجع الجماعات المسلحة في حلب ودمشق ودرعا. وقد وجدت أنقرة نفسها مُجبرة على قبول تبدل موازين القوى على الرغم من أنها كانت ـ وما زالت ـ الداعم الأساسي لتلك الجماعات، بما فيها التنظيمات التي أعتبرها ثلاثي الآستانة "إرهابية" يجب القضاء عليها جذرياً.
كانت تركيا آنذاك مُعرضة للضغط المحلي والدولي في أعقاب تداعيات الانقلاب العسكري الفاشل في تموز سنة 2016، وما تلاه من حملات قمع واعتقال وتطهير طالت كل أطراف المعارضة وليس فقط القوى المتورطة في الانقلاب. في حين أن روسيا وإيران كانتا تحققان، بدعمهما غير المحدود لدمشق، نجاحات ملحوظة على الصعيدين العسكري والسياسي ما أدى إلى هزيمة نهائية لمشروع إسقاط الدولة السورية على يد غرف التنسيق والتخطيط العربية والأوروبية والأميركية في الأردن وتركيا على وجه التحديد.
إن انخراط أنقرة في منصة الآستانة لم يوقف مساعيها الدؤوبة لتعزيز نفوذها في المناطق السورية الشمالية والشمالية الغربية (وأخيراً الشمالية الشرقية)، حيث تتواجد جماعات إرهابية مسلحة مرتبطة عضوياً بالأطماع التركية التاريخية في الأراضي السورية. وهكذا عندما سنحت الفرصة، بسبب الموقف الأميركي المتشدد من إيران، عادت أنقرة لتكشف عن توجهها الأساسي في ما يتعلق بقدرتها على قولبة قرارات منصة الآستانة بما يخدم مصالحها الخاصة المناقضة للمصالح السورية القومية. فكان الوضع في محافظة إدلب، ثم في مناطق شرقي الفرات، محكاً للنوايا الحقيقية.
في منتصف العام الماضي 2018 نجحت القوات السورية النظامية والقوى الرديفة في استرجاع غالبية المناطق التي كانت تحت سيطرة الجماعات المسلحة. ولم يبقَ أمامها سوى تلك الأنحاء الواقعة تحت الاحتلال الأجنبي: التركي في إدلب وجوارها، والأميركي ـ الأطلسي في شرقي الفرات وقسم من الحدود مع الأردن. ولذلك فإن تحرير هذه المناطق ما كان ليتم بالقوة العسكرية وحدها، وإنما هو يتطلب جهداً ديبلوماسياً من خلال منصة الآستانة بالنسبة إلى الاحتلال التركي، ومن خلال التفاوض بين موسكو وواشنطن بالنسبة إلى الاحتلال الأميركي ـ الأطلسي.
حاول ثلاثي الآستانة معالجة الوضع في إدلب من خلال ترتيبات أمنية معيّنة أبرزها انسحاب الجماعات المسلحة من "خطوط التماس". لكن تركيا والقوى المرتبطة بها لم تلتزم نهائياً بالخطوات المتفق عليها، بل شاهدنا كيف أن "جبهة النصرة" المصنفة إرهابية تمكنت من توسيع مجال سيطرتها تحت نظر القوات التركية، بل وبتغطية مباشرة منها. ومع ذلك لم تتحرك موسكو وطهران، علناً على الأقل! ولعل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب المفاجيء بسحب القوات الأميركية من سوريا، ومن ثم التراجع عنه، حوّل الاهتمام كلياً من إدلب إلى شرقي الفرات.
نحن اليوم أمام مشروع قديم متجدد هو إقامة منطقة آمنة (أو عازلة) على طول الحدود التركية ـ السورية من الشمال الغربي إلى الشمال الشرقي. والتفاوض حول هذا المخطط يجري بطريقة غير قانونية بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا بمعزل عن الحكومة السورية. ويستقوي الرئيس التركي طيب رجب أردوغان بالمستجدات الإقليمية والدولية لتنفيذ مآربه في الأراضي السورية، وهو يستفيد خصوصاً من: قرارات ترامب المتقلبة بالانسحاب المثير للجدل، إعادة تفعيل ورقة الجماعات الإرهابية التي دعمتها تركيا على مدى السنوات السبع الماضية، رغبة روسيا في الحفاظ على علاقاتها الخاصة مع تركيا، حاجة إيران إلى المنفذ التركي بهدف تخفيف وقع العقوبات الأميركية القاسية عليها... وغيرها.
في ظل هذه التطورات الإقليمية والدولية، توصل الثلاثي الروسي ـ الإيراني ـ التركي إلى تفاهم يقضي بإنشاء منطقة عازلة في إدلب، هدفها الأساسي إبعاد الجماعات المسلحة عن خطوط التماس، وسحب السلاح الثقيل من هذه الجماعات، وفتح الطرق الرئيسية بين حلب واللاذقية. لكن أنقرة لم تستطع، أو الأصح لم ترغب، في الالتزام بالجانب المتعلق بها في الصفقة. بل على العكس، وجدنا الجماعات المصنفة إرهابية تعزز سيطرتها على معظم مناطق إدلب برعاية تركية مباشرة.
هذا الواقع استدعى جولات جديدة من المفاوضات بين موسكو وطهران وأنقرة، رافقها تصعيد أمني مصحوب بتحذيرات سورية رسمية بأنه لا يمكن قبول الأمر الواقع في إدلب. وهكذا اضطرت تركيا إلى الإعلان عن "تسيير دوريات بالتنسيق مع روسيا" في المنطقة العازلة، على أن يكون ذلك خطوة أولى لتنفيذ البنود الأخرى أي نزع السلاح الثقيل وفتح الطرقات الرئيسية. والملفت للنظر أنه، ما عدا تسجيل المواقف الإعلامية، لا دور فاعلاً للحكومة السورية في التطورات الأخيرة. وقد وصلت الوقاحة بوزير الدفاع التركي خلوصي أكار حد التصريح بأنه لا يوجد تواصل مباشر مع دمشق، وفي حال الضرورة يتم ذلك عن طريق موسكو أو طهران.
وهنا بيت القصيد. إن استبعاد دمشق عن التأثير العملي في ما يجري حالياً في مناطق الشمال والشمال الشرقي من سوريا، مباشرة أو مداورة، يصب في خانة تدعيم الأطماع التركية التاريخية في سوريا والعراق. وإذا كانت الظروف الراهنة تحد من قدرة الحكومة السورية على القيام بواجبها في بسط سيادتها على كامل التراب الوطني، فإن ذلك لا يعني إطلاق أيدي "الحلفاء" في رسم مستقبل المنطقة من دون الأخذ في الحسبان المصالح القومية للشعب السوري بعد كل الأثمان الباهظة التي دفعها منذ العام 2011!
|