يمكننا أن نعدد ألف سبب وسبب لتفسير التنافس القائم بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، ومعها أوروبا التابع الأميركي الأمين. ونستطيع أن نتوقع زيادة حدة الصراع خلال العقدين المقبلين، والذي قد يؤدي إلى مواجهات عسكرية إقليمية... لكن بالوكالة. ذلك أن واشنطن وبكين تهيئان المسرح العالمي ليكون ساحة مبارزة وصدام. وهما تشحذان كل أدوات اللعب استعداداً لتلك اللحظة المفصلية، الآتية عاجلاً أم آجلاً. ونحن نعتقد بأنها ستأتي عاجلاً لأن الغرب الأوروبي ـ الأميركي لن يحتمل حدوث تغيير في موازين القوى لصالح التنين الأصفر.
كل من الطرفين يدرك أن حلول ساعة الحقيقة لم يعد بعيداً، وأن المنافسة بحاجة إلى مجموعة عناصر لا يحصل تقدم جوهري من دونها: القدرات العسكرية، الاقتصاد القوي، التطور التكنولوجي، والعلاقات الديبلوماسية الواسعة. وإذا كانت الولايات المتحدة (وكذلك أوروبا) قد سبقت العالم كله في الإمساك بناصية هذه العناصر، ما جعلها القوة الأعظم على المستوى الدولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فإن دخول الصين هذه المجالات الحيوية مبادرة جديدة نسبياً، وقد لا تتجاوز العقدين الأخيرين. غير أنها تسير ـ بل تقفز ـ بخطوات جبارة أذهلت العالم... وأقلقت الغرب الأميركي ـ الأوروبي.
تعطينا وسائل الإعلام صورة دقيقة ومعبّرة عن الإنجازات الاقتصادية الصينية. ونسمع من قادة أميركا وأوروبا شكاوى واحتجاجات من جراء رجحان كفة الميزان التجاري لصالح الصين بشكل غير مسبوق. ويترافق النجاح التجاري الصيني الذي يوفر فائضاً مالياً هائلاً مع الانفتاح الدبلوماسي تجاه العديد من الدول التي تحتاج إلى مشاريع للتنمية الداخلية. وتوظف بكين قدراتها الاقتصادية والمالية للحصول على موطئ قدم في إفريقيا وآسيا... وربما قاعدة بحرية تجارية ـ عسكرية في الوقت ذاته، خصوصاً في مناطق ذات أهمية استراتيجية مثل البحر الأحمر (باب المندب) والمحيط الهادئ وغرب إفريقيا... وغيرها.
لكن "علاقة ديبلوماسية" بعينها لفتت أنظار المهتمين بالملف الصيني، وباتت تحظى بمتابعة إستثنائية بقدر ما تطرح من الأسئلة الحذرة. ونقصد بذلك الصلات المتنامية والمتطورة والمحاطة بالغموض المُريب بين الصين والكيان الصهيوني. وما كان لهذه العلاقة أن تصبح موضوع نقاش وخلاف لولا أنها تجمع بين طرفين يتمتع كل واحد منهما بروابط خاصة (سلباً وإيجاباً) مع الولايات المتحدة: الأول "خصم استراتيجي" ينافس في مجالات عدة. والثاني "حليف استراتيجي" مؤثر في القرار الأميركي. فكيف يمكن تفسير هذا الشأن إذا ما أخذنا في الاعتبار أن التعاون الصيني ـ الإسرائيلي يتجاوز الإطار الديبلوماسي المعتاد، ويتوسع تدريجياً في حقل الشراكة العسكرية والتكنولوجية؟
في 24 كانون الثاني سنة 1992 أقامت الصين علاقات ديبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني. وفي 1998 إشترت سرباً من الطائرات المسيّرة "الانتحارية" صناعة "إسرائيل". ولم يُكشف النقاب عن تلك الصفقة إلا سنة 2005 عندما أعيدت الطائرات إلى مصنعها من أجل إدخال تعديلات عليها. وكان من الطبيعي أن تعبّر واشنطن عن امتعاضها، غير أن شيئاً لم يتبدل في طريقة التعامل الأميركي مع "الإبن المدلل" الذي أصبح "الإبن العاق". ومنذ ذلك التاريخ، يحرص الطرفان الصيني والإسرائيلي على زيادة التعاون في مجالات التكنولوجيا والصناعات العسكرية. ونظراً إلى أن الجانب الأكبر من تلك الصفقات يحاط بالسرية، فقد راجت توقعات بأن العلاقة "الخاصة" بين أميركا والكيان الصهيوني تتعرض لضغوط سلبية مرشحة للتصعيد قريباً. إلا أن هذا التحليل يُلامس جانباً واحداً فقط من الصورة الأشمل، في حين أن الواقع يأخذنا إلى ساحة تنافس وتفاهم بعيداً عن المصالح التجارية وعن صفقات الأسلحة التقليدية.
نحن نقصد هنا مجالات الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence (AI). إنه العلم الحديث الذي إذا سيطرتَ عليه وامتلكتَ ناصيته، فإنك تحوز على قوة علمية هائلة لا تضاهيها أية قوة أخرى معروفة حتى الآن. والصين تعمل في هذا السبيل بكل ما لديها من طاقات. وحسب موقع "فوربس" المعروف Forbes، فإن قيادة الحزب الشيوعي الصيني اتخذت قراراً يعتبر أن حيازة الذكاء الاصطناعي هي "أولوية استراتيجية مطلقة". وبناء عليه، تشهد الصين حالياً فورة وثورة في هذا التوجه: خلال سنة 1997 بلغ عدد الأوراق البحثية حول الذكاء الاصطناعي 1086 بحثاً، في حين أنها وصلت في سنة 2017 إلى 37343 بحثاً. وتظهر الإحصاءات أن الصين تسجل سنوياً براءات اختراع مرتبطة بالذكاء الاصطناعي أكثر من أية دولة أخرى في العالم.
هذه التركيبة الثلاثية، الصين والولايات المتحدة وإسرائيل، تحتل المراكز الطليعية في علوم الذكاء الاصطناعي. وبكين ترى في الشركات الإلكترونية الإسرائيلية منجماً واعداً يؤمن لها ما هي بحاجة إليه في كل المجالات، خصوصاً العسكرية. في حين أن تل أبيب تضع نصب أعينها إختراق السوق الصينية الاستهلاكية الضخمة مقابل تعاونها مع الشركات الصينية المتعطشة لتقنيات الذكاء الاصطناعي. إن المكاسب الضخمة التي يجنيها الطرفان، في هذه الحالة، لن تعيقها التمايزات الإيديولوجية أو المواقف السياسية لكل منهما. وطالما أن الشركات الإسرائيلية مستعدة لتأمين كل شيء مقابل الثمن المناسب، فإن نظيراتها الصينيات لا تبالي بمن يعترض أو بمن يرفض. وهذا يعني أن "إسرائيل" ستواصل تقديم خبرات الذكاء الاصطناعي التي تحتاجها الصين، لكنها في الوقت نفسه ستراقب بحذر تطور الموقف الأميركي من هذه العلاقات.
حتى الآن تبدو "إسرائيل" مطمئنة إلى قدرتها على امتصاص أي رد فعل من واشنطن. فهي تدير جماعات ضغط (Lobbies) لها نفوذ معروف داخل المؤسسات التشريعية والتنفيذية، ناهيك عن سيطرتها على غالبية وسائل الإعلام. ولذلك يمكنها استيعاب الضغط الأميركي إذا ما تجاوزت الشركات الإسرائيلية في تعاملها مع الشركات الصينية الخطوط الحمر، خصوصاً من وجهة نظر المؤسسة العسكرية الأميركية. لكن استطاعة الكيان الصهيوني على تحمل الضغط محدودة نسبياً، عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي الأميركي. ولنا في مسألة الجاسوس جوناثان بولارد خير مثال. فهذا المواطن الأميركي اليهودي عمل محللاً في المخابرات المركزية الأميركية، وعلى مدى سنوات سرّب أسرار الوكالة إلى نظرائه الإسرائيليين. وقد تم كشفه سنة 1986 وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. وعلى الرغم من المناشدات والتدخلات الواسعة، ظل هذا الجاسوس في السجن حتى سنة 2015!
إسرائيل في هذه التركيبة الثلاثية أشبه ما تكون بغانية تعاشر عشيقين. لكل منهما اعتبارات تجعله يقبل، عن مصلحة أو على مضض، بالمساكنة. لكن ستأتي اللحظة الحاسمة وقتما لا يعود أحد الأطراف قانعاً بـ"حصته"... عندها سيتم نقض الترتيبات برمتها!
|