منذ مدة كنت أتصفح أعداداً قديمة من مجلة "البناء صباح الخير"، فعثرت على حديث كانت أجرته مع المواطن / الرفيق حنا سروع(1)، فأحلته إلى الرفيقة أروى بو عز الدين للطباعة، مع مقدمة أشرت فيها إلى من عرفت من رفقاء من آل سروع، متواجدين في نطاق منفذية زحلة(2))، وإلى الرفيق رشيد سروع الذي كنت عرفته في ستينات القرن الماضي، مميزاً بنشاطه وجرأته، فإذ غادر إلى كليفلند(3) بقيت على تواصل معه وقد تولّيت مسؤولية العمل الحزبي عبر الحدود (مكتباً فعمدة) ودائماً كان حاضراً في ذاكرتي وفي وجداني.
منذ فترة قصيرة قرأت للرفيقة ندى محسن كلمة معبّرة ووجدانية تنعي فيها الرفيق رشيد سروع، فاستعدت في ذاكرتي صورة الرفيق صاحب الطلّة البهية، والالتزام الصادق بمفاهيم النهضة، وقد خبرته جيداً في فترات التزامه الحزبي في كل من لبنان، ثم في الولايات المتحدة.. فاتصلت فوراً بالرفيق انيس سروع معزياً ومطرياً بالكثير الحلو مما اعرفه عن الرفيق رشيد.
*
كلمة الرفيقة ندى محسن
فقدنا يوم أمس في الولايات المتحدة الرفيق والصديق والانسان الشهم رشيد الياس سرّوع ( 6 كانون الثاني 1949- 7 أيار 2020) بعد صراعٍ مع المرض خاضه بشجاعته المعهودة. ولد رشيد في لبنان لأبٍ هُجّر من قرية كفر برعم الجليلة وأمٍ من حارة حريك في لبنان. درّس في بداياته اللغة العربية وآدابها ثمّ سافر إلى أميركا حيث درس ليصبح طيّاراً وعاد إلى لبنان. مارس مهنته حتى أواسط الثمانينات. رشيد المصارع بامتياز، اجترح بداية ثالثة فدرس وهو في الأربعينات من عمره المحاسبة ومارسها في أميركا حتى فارقته الحياة.
لرشيد رفقاء وأصدقاء في الوطن وعبر الحدود سيفتقدونه بشدّة لقوّة حضوره وشخصيته المميّزة وأخلاقه العالية ووفائه وعاطفته الصادقة. تعازيّ الحارّة لوالدته مرتا، لأخويه طوني وجان وعائلتيهما ولأخته إلهام. فقدتُ بغياب رشيد رفيقاً وصديقاً لا يعوّض.
البقاء للأمة.
*
هوامش:
(1) العدد 3512 تاريخ 15 /05/1982
(2) الرفقاء: أنيس سروع، الراحل جوزف سروع وشارل
(3) كليفلند: شهدت حضوراً حزبياً لافتاً، وعرفت احتفالات ومناسبات حزبية عديدة، وفيها خاض الرفقاء إيلي وبسام خوام، إيلي وميشال عبود، معركة مع عناصر من حزب الكتائب سقط فيها أحدهم، ولاحقاً تعرّض الرفيق بسام (الأمين لاحقاً) إلى محاولة اغتيال أسفرت عن إصابته بشلل دائم.
(4) نحن ننتظر أن يدوّن أحد من الأمناء او الرفقاء معلوماته عن تلك المرحلة من نشاط رفقائنا في مدينة كليفلند.
*
حنا ساسين سروع من مشرّدي قرية "كفر برعم"
عاش شعبنا في فلسطين مرحلة الأربعينات، في ظلّ القهر، مرحلة من مراحل التحوّل التاريخية، حيث تلاحقت الأحداث وتكاثرت الصدامات الدموية، وأقرّت هيئة الأمم مبدأ التقسيم، فكان لا بدّ من قيام الثورات في جميع أنحاء فلسطين، ووقعت الضحايا بالمئات وتشرّد شعب فلسطين واقتلع اقتلاعاً من أرضه تحت وطأة العنف والقتل، وقامت على إثر ذلك المستوطنات في معظم نواحي فلسطين، ومن بين الذين شهدوا هذا التحوّل أحد أبناء قرية كفر برعم الفلسطينية حنا ساسين سروع، من مواليد 1913، وقد روى لـ"صباح الخير" قصة الاستيطان كما وعاها.
حينما سألته عن عمره، أجاب: " كنا لا نحمل تذكرة الهوية في بادئ الأمر، وكان المختار عندما يزور بعض الدوائر التي أنشأتها الدولة البريطانية – وأذكر – أنه كان يعطي تقريراً بولادة نفر جديد، ولكنه لم يكن ليذكر الجنس، وبقيت الحالة على هذا المنوال حتى العام 1935 ".
• متى بدأتم تحسّون بوجود اليهود، الغريب؟
- كان عمري لا يتجاوز السادسة عشرة حينما بدأنا نرى أفواجاً من الأجانب يمرّون علينا في البراري وفي الطرقات والقرى النائية، وفي بعض الأحيان كان أولاد الأحياء يلاحقونهم وبدأنا نحس بالخطر، بخاصة في الثلاثينات حينما حاولوا أن يضعوا يدهم بشكل علني على بعض المؤسسات، وادّعوا بشرعية الامتلاك وكل ذلك كان بدعم من الدولة البريطانية، وكانت أول محاولة لهم وضع الشريط الحدودي بين الأراضي اللبنانية والأراضي الفلسطينية. ولم يرق يومها هذا العمل لأهالي فلسطين عامّة، وكان الشريط على ما أذكر بعرض أربعة أمتار وعلوّ مترين ونصف المتر، فما كان من أهالي القرى المجاورة إلّا أن اشتروا السلاح، منهم من باع أبقاره ومنهم من تسلّح بالهراوات والأسلحة البسيطة غير الفعالة للدفاع.
• هل تذكر لنا حادثة رأيتها بأم عينك؟
- اذكر الحادث الذي وقع بين الفلسطينيين واليهود في "خلة الكراسفة" على طول طريق الإسفلت، بحيث أراد أهالي المنطقة منع دورية بريطانية من الدخول وتطوّع بضعة شبان للأمر فلغموا العبّارة، بما لديهم من وسائل بسيطة، وتمكّنوا من تدمير المصفحة بما فيها وقتل من بداخلها. عرف بالحادث كمب "سعسع"، بعد أن اتصلت فيه "نقطة" كفر برعم وأتت مصفحة ثانية وتبادلوا إطلاق النار، فقتل أحد الفلسطينيين. وبدأت ثورة 1935 بالانتشار، وبأمر من الدولة البريطانية حاول "مستر مارتن" دخول نواحي الجاعونة، فداهمه رجال حاجز وقتلوه مع أحد مرافقيه، وبعدها بوقت قليل حاولت إحدى الطائرات البريطانية تعقّب الثوار ولكنها فشلت بعد أن اختفوا في الأحراش الكثيفة. تلك حادثة من العديد من الحوادث التي انتشرت في شتى أنحاء فلسطين.
• هل تذكر لنا كيف كانت تجري عمليات الاستيطان؟
- كانت الدولة البريطانية تأتي باليهود ومعهم يأتي الطبيب والصراف والمهندس، وما زلت أذكر كيف احتلت بريطانيا "لوبا" وسلمتها لليهود، وما زاد الطين بلة بعد ذلك انخداع "الجيش العربي" بوعود الإنكليز، على أن كانت أحداث 1947 وبدأت الكارثة!
• كيف تقيّم لنا دور جيش الإنقاذ؟
- أي إنقاذ؟! سقطت آخر قرانا في صفد عام 1948 و"الجيش العربي" ينظر بأم عينيه، عندها وقف أمين الحسيني "وأعطى خبراً" للأهالي، دعاهم فيه لإقامة حكومة عموم فلسطين والنضال من أجل ذلك.
لا تصدّق أبداً أن الشعب الفلسطيني كان ينتظر المعجزة العربية، ولكن ما العمل أمام القوة البريطانية! أذكر – وكيف أنسى – حين أطبق الثوار الفلسطينيون على الدبابات البريطانية في وادي النسناس، حيث وقع الصدام الدموي، وكانت وسائل التصدي عبارة عن البارودة الطليانية، والجفت وبعض المسدسات.
• ألا توجد معك بعض الوثائق الفلسطينية التي تؤكد على هويتك، أو بعض الوثائق التي تؤكد ملكيتك في الأرض؟
- كل تلك الوثائق موجودة في فلسطين، وما زالت مع أخي فارس في الأرض المغتصبة. فنحن تركنا بيوتنا هذا صحيح، ولكن على أمل العودة. أما عن زواجي، فإنّ البطريرك خريش هو الذي كلّلني في فلسطين، وما زلت أحتفظ بهذا العقد حتى اليوم هنا في لبنان.
• في أي مدرسة تعلّمت؟
_ ما تعلّمت في مدرسة قط، إنما قرأت الأبجدية وقرأت المزامير، وكان معلمي شبه أمي بالنسبة لتعليم هذه الأيام، وأدباؤنا وشعراؤنا أغلبهم كتب فيما بعد في هذا الموضوع هنا في لبنان وفي غيره من الدول العربية.
|