من أجل ذاكرة الحزب في مدينة بيروت، نعمّم ما كان أورده الأمين إبراهيم يموت في الصفحتَين 113 – 114 من كتابه "الحصاد المرّ".
ل. ن.
*
في صباح الجمعة في 26-6-1942 قرأت في الجرائد الواردة إلى معتقل المية ومية نبأ وفاة النسيب الشاعر عبد الرحيم قليلات فحزنت للنبأ. وهو ابن خالة الوالد. أرسلت رسالة تعزية لنجله الصديق الرفيق رشيد.
أحبّ الوالد ابن خالته، عبد الرحيم قليلات، الشاعر الظريف، الضخم البنية، المعروف في تلك الحقبة، وصاحب ديوان "الهيام"، وكان بنفس الوقت مديراً للبوليس في محافظة بيروت. نُفِيَ عبد الرحيم قليلات إلى السودان، فأسرع الوالد إلى نجدته. قبل أن يسافر عبد الرحيم مهاجراً إلى اليابان زارنا في بيتنا مودّعاً في 26-3-1933 وقد طفرت الدموع من عينَيه، فقدّم للوالد نسخة من ديوان "الهيام" مع الإهداء بخطّه المميز الجذاب.
هذه النسخة نحتفظ بها في مكتبتنا. وكان عبد الرحيم، بإحساس الشاعر المرهف، قد شعر بأنّ ذلك اللقاء، مع ابن خالته الذي يعزّ، سيكون الأخير. فقد توفى الوالد قبل أن يعود عبد الرحيم قليلات من مغتربه.
عبد الرحيم قليلات، الشاعر الرقيق، المتين العبارة، الواضح المرمى، الوطنيّ الروح، الشجاع القلب لا يذكره اليوم إلا القليلون. إنّ آفة الإنسان النسيان. ديوانه حريّ بأن يراجعه طلاب الأدب، وسوف يعثرون على ما يكافئ أتعابهم.
وسأورد في ما يلي بعضاً من شعره، على سبيل التعريف. أسمعه وكأنه يخاطبنا اليوم:
وكان مـن أديارنــــا واحــــةٌ ذاتُ جنان غضّةٍ ناضرة
عاشَ بها أجدادُنا عيشةً راضيـــــــة حامــــدة شاكــــــرة
لكنّ أدواءَ الهوى طوّحت بنا إلى صحرائها الغامرة
وأسلمــتنا للأذى والأســى ثعالب اجتاحت بِنا ماكرة
رُحماك يا ربَّ العُلى والملا رُحماكَ يا ذا الحكمة الباهرة
وأدهشتَ الدّارَين من أمرنا في حُكمِ "لا دنيا ولا آخرة
وقال في مصائب الطائفية والسياسة:
أبدعَ اللهُ في الورى تجنيسَه وحبا الشيخَ ما حبا قسّيسَه
فــــأرانــــــــا مـــلاكــــــــــه وأرانـــــــــــا تحت بُرَدى كليهما إبليسَه
وشهدنا كيف السياسةُ تُحمي لهِواها من كُلّ دين وطيسه
أنسَــتِ البــرَّ بِـــرّهُ أكلةٌ مــن عدسٍ لا كنافةٍ أو هريسَـــة
ولكَـــم راوغَ اللئيـــــمُ أنيسَـــــــه في أحاجيها وغشَّ جليسَه
وجَحــــودٍ رئيسُه كان منــــه آمناً فافترى وخـــــان رئيسـه
وخسيسٍ أودت به وبأوطانٍ وأهلٍ أغراضُ نفسٍ خسيسة
وسَفيلٍ ما عَرّه بيعُ عرضٍ شرطٌ أن تملأ السفالةُ كيسَه
عالَـــــــــمٌ دولةُ السياسة فيــهِ حالفت غَثَّهُ وجافت نفيـــسَـه
ويصوّر واقع حالنا بما يلي:
نسترحمُ العفو عن لا ذنب نعرفهُ ونصفحُ الصّفحَ عمّا ليس يُغتَفَرُ
كأنـــــــــه ليس مـــن أفــــــرادنا نفــــــــرٌ كأنـــــــهُ ليسَ في مجموعنـــا بشرُ
نُنحي على الدهرِ والدنيا بلائمةٍ في ما دهــــانا وبالأقدار نعتـــــذر
ما ربُّكم كان يوماً ظالماً أحــــداً بل للعباد من النيّاتِ ما اذّخروا
لو غيَّرَ القومُ فعلاً ما بأنفُسِهم لغيَّــــــرَ اللهُ ما بالقـــــــومِ يعتســــــــــرُ
لكنهم أخلفوا وعداً وما اذكروا ولا تواصوا ولا عفــــّوا ولا ستروا
روح التخاذل في الأعراق ساريةً نار التحاسد في الأحشاءِ تستعرُ
يا عبرةً في حياةِ القوم أنتِ لنا دروسَ ذا اليومِ نتلــــوها فنَعتبـــرُ
نكتفي بهذا القدر من شعر عبد الرحيم قليلات.
|