كعادته دخل الأمين يوسف هواويني مكتبي في مجلس الشعب كالنسمة الخيّرة، فقد عوّدني زيارته لي بين الحين والآخر، وكنت أرحّب به لما أكنّ له من محبة واحترام، ولم يأتني يوماً إلا وفي جعبته ما يفيد النهضة القومية الاجتماعية التي تجمعنا...
بادرني فوراً بأنّ لديه معلومات خاصة وهامة جداً تقول إنّ نسخة فريدة من التوراة سيتمّ تهريبها خارج الكيان الشامي عن طريق تاجر آثار شهير قبرصي سيأتي، أو أنه أتى فعلاً، لمحاولة إخراج هذه النسخة التي لا مثيل لها إلا في روسيا، ويعتقد أنها النسخة الأصلية للتوراة... وهناك مبالغ طائلة ستُدفَع لكي يتمّ إخراجها بسلاسة.
هكذا، كعادة الأمين هواويني، لا يضيّع وقتاً... مباشرة أعطاني هذه المعلومة الهامة، بل وضعها بين يديّ، تاركاً لي التصرّف فوراً لمنع حدوث ذلك الإخراج. غادر بعد دقائق وتركني في حيرة التصرّف..
رفعت الهاتف فوراً وأجريت اتصالاً بالسيدة الدكتورة نجاح العطار، وكانت وزيرة الثقافة في الكيان الشامي آنذاك، ولا حاجة لأن أورد ما نكنّه لهذه السيدة الفاضلة من احترام وتبجيل ومحبة لا توصف، لما تتمتع به من دماثة أخلاق قل نظيرها، وثقافة ندر وجودها، فهي تستحق أن تُسمّى وزيرة ثقافة الأمة كلّها.. الآن تشغل منصب نائب رئيس الجمهورية في الشام.
ذهبت إلى السيدة العطار لأنقل لها ما وردني من معلومات مصدرها الحزب السوري القومي الاجتماعي، فهذه عادتي في كل ما يرد من أخبار أن أنسبها إلى الحزب وليس إلى أشخاص، حتى لو كانوا حزبيين.
ثمّنت السيدة العطار هذه المعلومات التي كانت دقيقة لدرجة وصف التوراة الموضوعة في غلاف من الفضة الخالصة وعلى شريط يُدار يدوياً... أما العنوان الموجودة فيه، فهو "طالع الفضة" (حارة من حارات دمشق القديمة)، وفي منزل سيدة يهودية متقدمة في العمر، وتمّ وصف البيت بدقة متناهية أيضاً. ولا أخفي أني نقلت للسيدة العطار تخوّفي من أن تصل رائحة ملايين الدولارات الكثيرة، التي ستُدفَع لإخراج التوراة، إلى أنوف البعض فيسهّل إخراجها بدل أن يمنع ذلك، أو أن يقوم بوظيفته على أبعد تقدير... وأردفت وَجَلِي بتهديد إيصال المعلومة إلى السيد الرئيس حافظ الأسد فوراً.
كان ذلك يوم أربعاء على ما أذكر! تركت السيدة الوزيرة تقوم باتصالاتها بوزير الداخلية وبعض القادة الأمنيين الذين أتوا إلى مكتبها بالوزارة، وقامت بشرح الموقف لهم، وبضرورة الإسراع في القيام بمنع عملية التهريب التي لا يمكن أن يُعرَف توقيتها، وأبلغتهم تهديدي.
بعد يوم واحد تلا الأربعاء، أجرت السيدة الوزيرة اتصالاً بي، وكان يوم جمعة، طالبة مني موافاتها في وزارة الثقافة، وكان يوم عطلة كالعادة. ذهبت لأجد السيدة العطار ومديرة مكتبها الآنسة الكريمة ذكاء الجابي تنتظراني في المكتب، ومن مكتبها إلى غرفة أخرى مغلقة بالمفتاح، دخلنا لأجد نسخة التوراة في جامٍ من الفضة الخالصة تتوسط طاولة كبيرة.. تماماً كما كان الوصف دقيقاً.
قالت الدكتورة العطار إنها نقلت هواجسي لوزير الداخلية الذي كان يرافقه اللواء عدنان بدر حسن، والذي قام بنفسه بالإشراف على القيام بالمهمة بنجاح كامل، ومباغتة تامة، وأردفت أن اتصالات عديدة انهالت على الوزارة ووزارة الداخلية والأجهزة الأمنية من حاخام اليهود في الشام وبعض كبار التجار اليهود المتبقين، ولا يتجاوز عددهم أصابع اليدَين، ولم يلقوا استجابة من أيٍّ من المسؤولين. السيدة الوزيرة كتبت بالحادثة للمراجع العُليا في الشام، المتمثلة بالقصر الجمهوري ورئاسة الوزراء، وبلغني أنها كانت أمينة كعادتها دائماً بأن دوّنت مصدر المعلومة، فقد أتاني اتصال من المرجع الأعلى يثمّن هذه المعلومات، ولكنه ينبهّني إلى خطورة هذا العمل الذي قد يكون له رد فعل سيئ عليَّ شخصياً، وبلغّني شكر السيد الرئيس حافظ الأسد، وبأنّ غيري كان قد قبض مبلغاً كبيراً وباع المعلومة التي لديه.
طالع الفضة منطقة في حارات دمشق القديمة، كان يقطنها بعض اليهود، وما ذكرني بالحادثة المسلسل الذي عُرِض في رمضان من العام 2011، ونقل حالة الحارة التي تحمل هذا الاسم إبان الحكم العثماني. طوطح، الشخصية اليهودية التي جسّدها الفنان الكبير رفيق سبيعي، الرفيق لاحقاً رحمه الله، أعادني إلى تلك السيدة المسنّة التي خبّأت في بيتها العتيق نسخة التوراة الفريدة وبعض الآثار الهامة الأخرى، والتي استطعنا بحسّ الأمين يوسف هواويني، القومي الرفيع، منع تهريبها إلى الخارج.
|