" لم أكن قومياً اجتماعياً قط؛ بل أثناء الدراسة كنت اعتبر القوميين من زملائي حجر عثرة في وجه الوحدة العربية من المحيط الى الخليج، ولكنني لم أخف اعجابي يوماً بالتزامهم وقويم لسانهم، ونزوعهم الى الخطابة، وصلابة مواقفهم وشجاعتهم؛ من هؤلاء كان الشهيد جبران دياب ذو الشخصية المهيمنة والفصحى المجلجلة، الذي حاول عبثاً استدراجي الى الحزب... وإن كنت لا أنكر أن ما كان يطرحه علي من فكر الزعيم انطون سعادة هو وقريبي المرحوم الدكتور أمين عبد الوهاب، يخلّف في نفسي قلقاً عميقاً ألجأ لتبديده، بقراءة ساطع الحصري (العروبة أولاً)؛ ولم أكن استطيع أيضاً التنصّل من الأثر الذي تركته عند أهلي صداقة الدكتور عبدالله سعادة والدكتورة مي الركنين المهمين في مستشفى الميناء، مع الأطباء عفيف عبد الوهاب وريشار جبارة وجو يمين وسواهم ممن كانوا رادة في افتتاح مستشفى استغله المرضى المعوزون أيما استغلال حتى أودى بمؤسسيه الى الهجرة الى المملكة العربية السعودية في النصف الأول من القرن الماضي... ولكن الدكتور عبدالله سعادة لم يكن بالنسبة لي طبيباً، بل سيّد منبر، ومناضلاً يترك ترف العيش ليدخل السجن ويُسام العذاب الجسدي والنفسي؛ وكذلك الدكتورة مي التي أشرفت على ولادة الأجيال، وبقيت حتى بلوغها المئة، ترى نفسها "ميَّة" التي يناجيها عبدالله كأنه النابغة الذبياني بقوله "يا دار مَيَّة بالعلياء فالسند"، وينجبا للأمة حنا وسليم ونيقولا وليلى، ثم يزفان معاً شهيدهما نيقولا في عرسه الأبدي، وهما يهتفان "البقاء للأمة"، فلمع نجم حنا في المغترب ونجم سليم في لبنان والمهجر، وزانت ليلى جبين العلم القانوني بإكليل لا تذبل فيه الورود. صديقة أهلي، صارت صديقتي الحميمة، ثم ارتقيت الى مرتبة شراكتها في اللقاءات الشعرية، وقرأت لها قصيدتي عن "سناء محيدلي"، فأحبّتها كما لو أنها جزء من قصيدتها "نيقولا" وكانت قد ألقت شعرها واقفة أكثر من نصف ساعة رغم تسعيناتها، فقلت لها "لم تكوني في حاجة الى تلك الوقفة لكي تثبتي لنا أنك أكثر شباباً منا جميعاً"، ولقد صمدت روحاً وجسداً فيما عيناها ترى انهيار الأمة... ومع هذا لم تكف عن الايمان بأن "البقاء للأمة" حتى في غيبوبتها.
قبلها بقليل رحل "أبو سعد" الحاج واصف فتّال(1) الذي أحببته منذ التقيته في المرة الأولى، لأنه كان شديد الشبه بالفنان العظيم الراحل صلاح جاهين شكلاً وخفة روح وحضوراً أخّاذاً... لست أدري من أي مسرب وجد الفكر القومي الاجتماعي طريقه الى قلب الحاج واصف، وهو الطرابلسي ابن الأسواق الشعبية التي كان ولاؤها للقومية العربية وجمال عبد الناصر، في حين كان نفوذ الحزب مؤثراً في النخب الطرابلسية أكثر من بقية الطبقات، ولكنه أثبت أنه كان نخبوياً حقيقياً، إذ لم يتخلَ عن انتمائه الفكري والحزبي، وذهب في أحداث 1958 الى "غانا" بعدما تعرّض القوميون للتنكيل، ثم عاد ثرياً جداً، وقومياً جداً، ومؤثّراً جداً جداً في الحياة العامة، مشكلاً مع المرحومين سماحة الشيخ طه الصابونجي والرئيس عشير الداية (ابي بسام) ثلاثياً فريداً، يخاله البعض، بعضاً من سرية الاطفاء التابعة للبلدية، لأنّه ندب نفسه للقيام بأدوار التهدئة والوساطة فيما كانت تجتاح طرابلس الحروب المجرمة التي لا علاقة لها بها... ولا مصلحة...
من طرائف الحاج واصف، أن مسؤول المخابرات السورية في طرابلس يومذاك محمد الشعار (أي وزير الداخلية السورية فيما بعد)، طلب اليه أن ينقل الى أحد مسؤولي "حركة التوحيد" إنذاراً شديد اللهجة مع كمية من جوارح الألفاظ، فتعهد "أبو سعد" بنقل الرسالة كما هي... وبعد قليل اتصل محمد الشعار به وسأله عما قاله للمسؤول التوحيدي، فأجابه "لقد هاتفته ونقلت رسالتك بحذافيرها"، فضحك الشعار وقال "يا أبا سعد لقد استمعت الى كل ما قلته عن طريق المراقبة وكنتَ في غاية اللباقة معه"، فقهقه الحاج واصف، وأجاب "هذه هي طريقتي بترجمة الرسائل المقذعة".
منذ مدة طويلة، فقدَ الحاج واصف ذاكرته، وفقدتْ معه طرابلس جزءاً من ذاكرتها وعاطفتها، ولكن السيدة فضيلة(2) تبذل وسعها لكي تحتفظ المدينة برونقها من خلال صالونها الأدبي...
عندما كنت أقدّم العزاء بالدكتورة مي، لفتني أن ورقة النعي تحمل شارة الصليب والزوبعة معاً، فقلت لسليم(3)، ألا تشبه الزوبعة الصليب، فقال: لقد رُسمت الزوبعة في الأساس لكي تكون صليباً مؤلّفاً من أربعة أهِلّة... وكم كان رائعاً أن أقرأ لقب "الشاعرة" مستبقاً اسمها، لأنها ماتت قريرة العين والقوافي في أحضان الشعر...
هوامش:
(1) للاطلاع على النبذة المعممة عن الأمين واصف فتال الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
(2) أي ابنته الامينة فضيلة فتال
(3) المقصود النائب الأمين سليم سعادة
|