في نبذات عديدة تحدثت عن الأمين انيس مديواية وأشرت إليه، كما الى صنوه في الحضور والنضال القوميين الاجتماعيين، الأمين الياس صبري في مدينة رأس العين.
شكراً للرفيق الإعلامي نظام مارديني، الذي كان عرف جيدأ الأمين انيس مديواية، ابن مدينته القامشلي، الذي نشر هذه الكلمة اللافتة عن الأمين انيس نوردها كما هي.
ل. ن.
*
الأمين أنيـس حـنا مـديـوايـة سيرة الذاكرة رجلٌ ومكتبةٌ ومدينة
قلق مديواية اللغوي كانت حركة الثقافة في متحد القامشلي (وفي المجتمع السوري) تُلون عمل الجماعات واللغات المتنوعة المتداولة وفقاً لسلطتها وبحسب مرجعية الجماعة التي تنطلق منها، مثّلت رافداً هامّاً من روافد ثقافة المدينة، لدرجة أنَّ كل فكرة جديدةٍ هي انتزاع حقٍ إنساني ووطني ما كان ليُطرح بدون "عنف فوق عنف"! ولكن كيف؟
هي في هذا التوجه تعني خروج المعرفة على مفهوم المنفعة، الفردية، الطبقية، المذهبية، العرقية، العنصرية، الثقافية، السياسية، الجنسية،… لعموم المجموع المجتمعي، دون ذلك لا يمكن تحقيق المساواة والعدالة في المجتمع القومي الواحد.
إنَّ التفكير بشكل مختلف في متحد متنوع، مذهبياً وإثنياً، نوع من "العنف" تمارسه الجماعة كمحاولة للتملص من محددات الثقافة المفروضة والمستبدة، وهيمنتها الوهمية التجزيئية. لكنه "عنف" مقبول وناعم ويبدو سهلاً نظراً لقيامه على الحوار وإعادة النظر بالواقع والقضايا المطروحة. وفي مواقف أخرى تصبح عملية التفكير بشكل مغاير وضعاً مرفوضاً من قبل السلطات القائمة، ولذلك سيكون التفكير بمطرقةٍ – على غرار فلسفة نيتشه – لهو أنجع الحلول لتفتيت الطباق المتكلِّسة حول العقل، لأنَّ العقل لن يستفيق من الأغطية الوهمية التي توضع فوقه وتجمده عن التفكير السليم نحو بلادة أبدية. ولكن ماذا يعني التفكير المغاير عند "مديواية"؟
هو إدراك ما قد يمثله داخل لغة الجماعة (الأقلية).
كان يحدثني الرفيق الأنيق "مديواية" عما تشكله اللغة (أو اللغات) في المجتمع السوري من إثراء بعلامات ورموز وشفرات للتعبير عن غنى وجود المتحد "القامشلاوي" وأهدافه عند السريان والآشوريين والكرد والأرمن والشركس والعرب، إذ تتركز "لغاتهم أو لهجاتهم" على نطاق ثقافي عام في الأدبيات والأشعار والحكايات والأساطير، وهم يتكلّمون لغة موجوعة، ويحكون بحنين مطلق عن ذاكرة كبيرة لبلد صغير.
اللغة بهذا كونٌ دلالي يقبع بأعماقنا حين نقول خطابنا معاً. هي تحفظ العادات والتقاليد والتراث والفولكلور من الاندثار، إنها النظام الرمزي الذي يحدد ما ينبغي فعله أو تركه، وتحدد هذا تلقائياً عبر فاعلية الكلمات والجمل التي نتواصل بها. وبالتالي فأي نقد للتقاليد وتذويب جمودها في مجالات المعرفة والفكر، إنْ لم يلامس جوهر اللغة ومفاهيمها الجارية، لن يكون تغييراً ذا قيمة. ولعلنا هنا نستعيد مقولة النهضوي أنطون سعاده حول أهمية تعدد اللغات في مجتمع متنوع مثل مجتمعنا السوري ومتحد القامشلي جزء أصيل من هذا المجتمع.
يقول سعاده: «إنّ كلّ مجتمع يجب أن يكون له وسيلة أو وسائل، لغة أو لغات، لهجة أو لهجات يتخاطب بها أفراده ويتفاهمون بها ويتفاعل تفكيرهم وتزداد ثروتهم العلمية»، ويتابع سعاده: «إنّ اللغة وسيلة من وسائل قيام الاجتماع لا سبباً من أسبابه، إنّها أمر حادث بالاجتماع في الأصل لا أن الاجتماع أمر حادث باللغة».
هذا الثراء اللغوي يدفعنا لتحسس ما يقوله "مديواية" كما لو كانت كلماته منحوتة.
يقول: ستشكل الحقوق والواجبات داخل المجتمع السوري آليات لعمل المواطن والمشاركة من قبل الجماعات (الأقليات). ففي ابعادها سلوك ايجابي واقعي شامل متكامل يسعى لبلورة هدف ووسيلة ويؤكد الدور الفاعل للمواطن، بغض النظر عن مذهبه وعرقه، في إدارة مفاصل الدولة عبر الدخول السليم في خضم العملية الديمقراطية التعبيرية التي يجب أن ترتكز على الهوية السورية كهوية رئيسية وجامعة لكل مكونات المجتمع، في مواجهة استمرار تواصل المقولات التي تنتجها إيديولوجيات التَّخلُّف، والظلام والظُّلم، مع أشباهها ونظائرها المعتمة المخزونة في أقبية التُّراث… ولكن امتدادًا إلى واقعٍ تَسَلُّطيٍّ استعماري ضَارٍ ومرير، فكيفَ يُمكنُ لخطاب العقل أنْ يُؤَصِّلَ نفسه فكرياً؛ عقلياً ومنطقياً وإبداعياً وتنويرياً، وأنْ يُرسِّخَ حضوره وجوداً فاعلاً في وعي النَّاس، وفي الواقع الذي يتوقونَ إلى تغييره؟ وكيف لهذا الخطاب أنْ يُوقِدَ شُعلة إطلاق مسيرة التغيير النَّهضويِّ، وأن يكون مُحفِّزاً للنَّاس على الانخراطِ الفاعل في مسارات التغيير المتشعِّبة والمُتواكبة؟
كنت تشعر وأنت تحاور "مديواية" أن كرامة تسكن هذا الرجل وتشع لكل من هم حوله. وأن الخبرة معه والاستماع إليه تتقوّى بتراكمها، بمعنى أن خبرتنا بالأشياء تزداد بواسطة المعرفة التي تهيّأت لنا من المكتبة وصاحبها "المخملي الشخصية" في ذهننا المضمر، أي وجداننا، المكان الذي يطلق عليه العلماء اسماً شاعرياً هو اللاّوعي، وتنتقل إلينا هذه المعرفة عبر الزمن بواسطة الذاكرة التي تحيي بطريقتها الشيفرات وهي تمشي كنهر الفرات الذي يوزع جداوله قبل أن يغمرنا التاريخ.
|