الأمين منصور عازار حالة مضيئة في حياتنا الحزبية وفي مجالات عديدة أخرى، ابرزها في عالمي الاغتراب والنشر والاقتصاد.
يحكى الكثير عن الأمين منصور عازار، وهو ان اصدر مؤلفات تعتمد كمراجع(1) انما يصح ان يُكتب عنه الكثير، الى هذا ندعو من عرفوه جيداً، من رفقاء وأصدقاء، من بينهم الأمين سركيس أبو زيد، الأمين السابق نصري صايغ والأستاذ وليد بركات.
*
من كتابه السيرة، اخترنا المقاطع التالية:
مجلة المنبر
رأيت ان اؤسس مجلة شهرية راقية، جميلة أرعاها كمشرف عام ومموّل وأضع الخطة العامة لسياستها ونهجها، وتقوم على إدارتها وتنفيذها وتحريرها، كوكبة من نخبة أقلامنا في الوطن، الذين كانت أسماؤهم قد انتشرت وأصبح لهم حضور لافت في أوساط المغتربين وبين المقيمين أيضاَ.
وبعد أخذ وردّ في التسمية، استقرّ الرأي على تسمية "المنبر"، لتكون "المنبر" منبرنا الاغترابي الذي ينقل موقفنا ورأينا ويعرّف المغتربين الى هموم الوطن ومشاكله ويشركهم فيها، كما يشرك الوطن في مشاكل المغتربين وتحديات الاغتراب ويطلع شعبنا المقيم والمغترب على واقع هذا الاغتراب، وتكون منبرنا للحوار بين آراء عدة متباينة، لكنها البحث عن الأفضل واقتراح حلول للعوائق التي تعيق تقدمنا ووحدتنا ونهضتنا. فكانت "المنبر" إطلالتنا الإعلامية والفكرية على الوطن وعلى المغتربات، إطلالة لافتة وراقية ومرموقة، واستحقّت تقدير كل من اطلع عليها واشترك فيها وساهم بها.
وربّ ضارة نافعة. كانت الحرب قد ذرّت قرنها في ربوع لبنان، فرأى الشباب أنهم لو بقوا في الوطن لتعرّضوا لمخاطر جمة تعيق تخصصهم وعملهم، بينما لو سافروا الى خارج لبنان لربما أكملوا تخصصهم او توفرت فرص عمل مرموقة لهم، وفضلاً عن هذا ابتعدوا عن خطر الحرب الذي يهدّد سلامتهم الشخصية.
هكذا تجمّعت في باريس نخبة من أقلامنا: جان داية، نصري الصايغ، سركيس أبو زيد، حسن حمادة وغيرهم، اعتمدت على هذه النواة للانطلاق في مجلس التحرير لمجلة "المنبر". وتولى الجانب الفني من "المنبر" بشار العيسى، وهو مخرج بارع وفنان من سورية، وباشرنا العمل في باريس العام 1984.
بعد توفر فريق العمل التحريري والفني توليت الاشراف العام على "المنبر"، بينما تولت ابنتي هادية الاشراف الإداري بإدارة مكتب المجلة في باريس وعبره تتابع المهمات والكتّاب والتقارير والملفات وتجمع المواد التحريرية لكل عدد وتشرف على الإخراج، بحيث غدت صمام ديمومة "المنبر" وعصبها الأساس.
هكذا كان لا بد من تسجيل "المنبر" في باريس ليغدو عملها حسب القوانين الناظمة للعمل الصحافي في فرنسا، كما سجلّتها في غانا ونيجيريا ولبنان ولندن في بريطانيا.
لم تكن "المنبر" كباقي المجلات: حافزها تسويق المواقف والأشخاص والسياسات وهدفها الربح وجمع الثروات ومراكمة المكاسب. كانت قواعد عملها غريبة عن صحافتنا كلها، عن الصحافة السائدة آنذاك والممتدة الى الآن. كانت مجلة لا تبغي ربحاً مادياً تعمل لاجل الوطن وحده والأمة وحدها. وتعالج الاحداث والقضايا والمواقف بمعايير قومية ووطنية سليمة. تحاول رتق ما مزّقه الطائفيون وما زالوا ممعنين في تخريبهم. استطاعت ان تقدم النموذج وصمدت سنوات طويلة، لكنها لم تستمر.
انتظمت "المنبر" مجلة شهرية، تصدر من باريس وتوزع في معظم دول الاغتراب وفي لبنان كذلك، حتى اكتمل عدد اصداراتها 100 عدد شهري. منها أعداد خاصة بكل بلد، يعرّف عنه ويتضمن مقابلة مع رئيس البلد وأهم صناعاته وزراعاته ومزاياه والانتشار الاغترابي فيه ومكوّناته السكانية.
استمرّت "المنبر" تصدر من باريس حتى العام 1994، حيث نقلت مكاتب إدارتها الى بيروت، شارع الحمراء بالتحديد في بناية السارولا، حيث كان عندي مكتب فيها، فعاودت الانطلاق.
في مرحلة بيروت عاونني في اصدار "المنبر" السيد مالك شلهوب، وهو اليوم احد أعمدة ذاكرة الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، والسيد وليد بركات الذي انطلق في العمل الصحافي حينذاك مع "المنبر"، ومن ثم توسّع الى العمل السياسي حالياً.
بعد أعداد عدة أدرناها من بيروت، توقفت "المنبر" عن الصدور بعد ان حاولت ان تؤدي رسالتها الإعلامية ، وبعد ان تبلورت معطيات عدة أسهمت في خيار توقفها وانعدام الجدوى تقريباً من المتابعة في النمط نفسه.
في مرحلتها الأخيرة في بيروت كان يعاونني في إدارتها البيروتية الأمين سركيس أبو زيد.
*
"مكتب الدراسات" ... قابلة كتب وحوار
رأيت منذ العام 1977 وصاعدا أنه يلزم تأسيس مركز دراسات علمية للإضاءة على مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقومية عامة، بخاصة ما كانت تركته حرب السنتين المشؤومة في العامين 1975- 1976 من تداعيات ونتائج وما فجّرت من أسئلة ومعضلات كانت تتطلّب علاجاً جذرياً. فاتجهت الى تأسيس مكتب الدراسات العلمية الذي تنكّب مهمة نشر كتب ودراسات او إعادة نشر كتب ودراسات ذات فائدة لقضيتنا، واتخذت له مكتباً كنت أملكه في محلة الدورة في بيروت.
كان لمكتب الدراسات العلمية هيئة استشارية من أعلامها: الياس جرجي قنيزح، شوقي خيرالله.
بدأ المكتب بعقد ندوات فكرية وحوارات وطباعة كتب عدة، بخاصة لبعض الأصدقاء والمعارف، فطبع للأب بولس نعمان اطروحته عن المارونية، ولشوقي خير الله، ولجورج مصروعة كتابيه "ضحيتان"، "ابن زيكار"، وكتاب للدكتور ربيعة ابي فاضل وغيرهم كثيرون. وكنا نصدر كتباً توجيهية حسب الضرورة.
بعد التجربة القاسية في الأمانة العامة لـ"الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم" وما ولّدته من انقسامات ومحاكمات قررتُ العزوف عن غوغاء مسؤولياتها، ورأيت انه أولى بي استنهاض مكتب الدراسات من جديد.
استأنفت عقد الندوات والحوارات الفكرية والفلسفية والثقافية في مركز المكتب، في بيتي في قرية بيت الشعار، الطابق الأرضي، حيث جمعت الجزء المتبقي من أرشيف عملي ومكتبتي وسجلات دراسات ومجلدات مجلة "المنبر" وصالوناً يتسع لعشرات المدعوّين.
والطابق الأرضي من منزلي، فيه بنية متحف، مبنيّ على طريقة عقد الحجر القديم، أعدت ترتيبه بترميم فني لتبدو مسحته الاثرية الجميلة وروعة هندسته التراثية الجبلية التي ميّزت بلادنا عبر العصور.. وجهزته بإضاءة تحاكي هيكلية المتحف العتيق التي تبرز جَدل النور والعتمة وحركة الأضواء وظلالها.
فاق عدد الندوات والمناسبات والحوارات التي عقدناها في مكتب الدراسات مئة عمل، كلها تمّ تسجيلها وحفظها، وعازم على ان أصدرها في مجلدات خاصة لتبقى بين يدي الأجيال ولا تقبُرها ادراج مكتبة، إن أعطتني الحياة قوة. فغايتها ان تنتشر وتُقرأ وتُعرف وتُتداول وتكون موضوع حوار وسجال لا ينتهي، بخاصة ان من دُعي الى عقد تلك الحوارات والندوات هم أعلام الفكر والأدب والشعر والفلسفة والاقتصاد والسياسة خلال عقود في لبنان.
وما زال نشاط المكتب مستمراً، ليس بانتظام، لأنه يتأثر بظروف وأسباب كثيرة، أبرزها بارومتر صحتي وقدرتها على الصمود والتخطي في تسعينياتي الراهنة، لكنه لم يتوقف إلا ما ندر وأملي ألا يتوقف، وهذا ما يتحمّل مسؤوليته الشباب المساعدون في هيئة المكتب ان يكملوا برفع رايته الفكرية ورسالته التنويرية. على ان يكون المشرف عليها بعد غيابي الأمين سركيس أبو زيد الذي رافق نشاط مكتب الدراسات ولم يزل، وهذه وصيتي له.
*
(1) مؤلفات الأمين منصور عازار:
• مختارات (ج1+2+3+4)
• معركة تشرين وأبعادها الاقتصادية
• مدخل الى الاقتصاد القومي
• لبنان بصيغة المستقبل.
• التحية الأخيرة
• لبنان السلام والحرية والديمقراطية
• أوراق من الماضي
• قضايا الجيل الطالع.
|