الأول من آذار في حياة سعاده
معانٍ نهضوية راقية لانبعاث الوعي القومي
في الأول من آذار 1904 ولد سعاده زعيماً للأمة، ومؤسساً أعظم نهضة شهدتها بلادنا .
وفي كل أول آذار بدءاً من العام 1935 يحيي القوميون الاجتماعيون المناسبة فيقيمون الاحتفالات ويشعلون قمم الجبال ويتبادلون التهاني .
كيف بدأ "الأول من آذار" وكيف استمر مع سعاده في الوطن، وعبر الحدود؟
هذا ما نحاول أن نضيء عليه وقد استندنا في ذلك إلى أدبيات الحزب ومنها كتب الأمينين جبران جريج وعبدالله قبرصي .
***
أول آذار لأول مرة، عام 1935
كان سعاده في "الكوخ" القائم خلف بناية في رأس بيروت عشية الأول من آذار عام 1935 عندما فاجأه معاونوه: الأمين عبد الله قبرصي، وكان يتولى مسؤولية عميد الدعاية والنشر (عمدة الإذاعة) نعمة ثابت ومأمون أياس، وهم يحملون إليه مع عواطفهم باقة من الزهر اشتروها من "سوق الفرنج" (باب إدريس) .
قبل ذلك كان نعمة ثابت قد تنبه إلى أن ذلك اليوم هو عشية الأول من آذار الذي يصادف مناسبة ولادة الزعيم، فالتفت إلى رفيقيه عبد الله قبرصي ومأمون أياس، وكانوا معاً، ولفتهما إلى ذلك، وقرروا أن يشتروا باقة من الزهر ويفاجئوا صاحب العيد .
إلا أن سعاده فاجأهم بدوره بأن أدى في تلك المناسبة قسم الزعامة، بعد أن حدثهم عن القضية والأمة، وكيف أنه وقف نفسه لهما .
قسم الزعامة
" أنا أنطون سعاده أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي على أني أقف نفسي على أمتي السورية ووطني سورية، عاملاً لحياتهما ورقيهما، وعلى أن أكون أميناً للمبادئ التي وضعتها وأصبحت تكون قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولغاية الحزب وأهدافه، وأن أتولى زعامة الحزب السوري القومي الاجتماعي وأستعمل سلطة الزعامة وقوتها وصلاحياتها في سبيل فلاح الحزب وتحقيق قضيته، وأن لا أستعمل سلطة الزعامة إلا من أجل القضية القومية الاجتماعية ومصلحة الأمة، على كل هذا أقسم أنا أنطون سعاده ".
أول آذار عام 1936
كان سعاده يقضي محكومية الستة أشهر في السجن إثر صدور الحكم عليه بعد الاعتقال الأول. لذا اتخذت القيادة المركزية قراراً بإشعال النيران على قمم الجبال، تكريماً لصاحب الذكرى السجين من جهة، ومن جهة أخرى اغتنامها فرصة للإعلان عن وجود الحزب النامي، ومدى انتشاره فتأججت النيران على القمم في جميع أنحاء الكيان اللبناني، وبخاصة على قمة جبل صنين، فقد تسلق الجبل، رغم تراكم الثلوج، رفقاء من ضهور الشوير وجوارها حاملين صفائح المازوت وإطارات الكاوتشوك وأوقدوا فيها النار .
أول آذار عام 1937
اصطدام السوريين القوميين الاجتماعيين مع الدرك اللبناني في بكفيا في 21 شباط 1937، وهو اليوم الذي سمي فيما بعد "بيوم بكفيا". وتّر الأجواء بين السلطة والحزب، فداهم رجال السلطة مكتب الحزب في شارع المعرض، وختموه بالشمع الأحمر، إنما لم يتمكنوا من توقيف أحد. وكان الزعيم بعد غدر السلطات في اجتماع بكفيا، التي كانت سمحت به، انتقل على الفور إلى ضهور الشوير، ومنها إلى بيروت حيث استقر في منزل الرفيقة وداد ناصيف، الكائن خلف حديقة الصنائع، حيث كتب بيانه المشهور الذي أعلن فيه الحكومة عاصية على إرادة الشعب أرّخه بتاريخ الأول من آذار، فكان البيان بدل الاحتفال بالذكرى، وأرسله إلى الطباعة، وأعطى تعليماته لإذاعته ونشره في الصحف، وتوزيعه على الشعب. ثم انتقل إلى منزل الرفيق خضر عيتاني القريب من منزل الرفيقة وداد كمحطة انتقالية، وقد جاء هذا الانتقال في وقته المناسب، إذ لم يكد يغادر المنزل حتى داهمته قوة من الأمن كانت متربصة، ثم انتقل سعاده من بيروت إلى عاليه، إلى منزل آل أبو كامل. وقبل أن يغادر الزعيم المنزل كلف الرفيقين توفيق أبو شقرا وخليل أبو عجرم (الأمين فيما بعد) بمهمة إيصال رسالة إلى منفذ عام دمشق، كما أنه سلم الرفيق كامل أبو كامل (الأمين لاحقاً) بعض الأوراق منبهاً إياه بالحرص الشديد عليها حتى لا تقع في أيدي السلطات.
وما كاد سعاده يغادر عاليه حتى داهمت المنزل قوة من الدرك واعتقلت الرفيق رفيق أبو كامل وشقيقه خليل، واقتادت معهما والدتهما مما أثار ضجة كبرى في المنطقة إذ لم يسبق أن اقتيدت امرأة إلى المخفر.
وفي بلدة المريجات توقفت السيارة أمام حاجز الدرك، وكانت تقل الزعيم يرافقه جورج عبد المسيح ووداد ناصيف، فترجّل منها الزعيم يرافقه جورج عبد المسيح وتسللا بعيداً يسترهما الظلام الدامس. في هذه الأثناء لاحظ الزعيم أن وداد أدخلت إلى المخفر موقوفة، فلم يرتض أن تعتقل الرفيقة وداد بدلاً عنه فتوجه إلى المخفر يسلم نفسه ليفرج عن سيدة تعتقل بسببه .
أفرج عن الرفيقة وداد وسائقها وأبقي سعاده في المخفر، إلى أن حضر شخصياً قائد الدرك آنذاك، نور الدين الرفاعي ليصطحب سعاده مخفوراً في سيارته العسكرية رجوعاً إلى بيروت .
جرى هذا الاعتقال في 9 آذار 1937. كذلك شملت الاعتقالات رفقاء في المناطق اللبنانية كلها، حتى بلغ عدد المعتقلين في سجن بعبدا وحده مئة وخمسة وثلاثين رفيقاً .
صافيتا
وفيما كانت حملة الاعتقالات المسعورة تلاحق القوميين الاجتماعيين في الكيان اللبناني شهدت بلدة صافيتا احتفالاً صاخباً بمناسبة الأول من آذار، فقد تنادى الرفقاء بناء على خطة مرسومة للالتقاء في الحارة الشرقية من البلدة، فاجتمع ما لا يقل عن الاربعماية عضو انطلقوا في مسيرة ضخمة إلى الحارة الغربية مروراً بالشارع الرئيسي، يتقدمها المنفذ العام الدكتور اسبر حنا وأعضاء هيئة المنفذية، إلى أن وصلوا بصفوفهم المتراصة إلى مركز السراي فأعلنوا عن انتهاء المسيرة بالهتاف الحزبي "يا أبناء الحياة، لمن الحياة" دون أن يفسحوا المجال لتدخل القوة العسكرية المحلية .
أول آذار عام 1938
احتفالات هذا العام أخذت حجماً كبيراً من التعميم والشمول فهي تجري للمرة الأولى تحت ظل الحرية التامة. فروع الحزب، في كل المناطق، في لبنان والشام وفلسطين، احتفلت بهذه المناسبة، إن على صعيد الاجتماعات التي اقبل عليها المواطنون برغبة واهتمام أو على صعيد إشعال النيران على قمم الجبال وفوق سطوح المنازل، أو عبر إطلاق الأسهم النارية .
جرى الاجتماع المركزي في دار الرفيق زكريا لبابيدي في محلة عائشة بكار، وفيه ارتجل سعاده خطابه الطويل المشهور الذي لم يقل شمولية عن خطابه في أول حزيران قبل ثلاث سنوات .
وفي هذا الصدد يقول الأمين جبران جريج في الجزء الرابع من مجلده "من الجعبة": "كان والد الرفيق زكريا، القاضي احمد اللبابيدي يستمع إلى خطاب الزعيم واقفاً طوال الوقت مأخوذاً ببلاغته، وهو غير القادر على الوقوف لعلة في إحدى رجليه. ويجدر بي أن أسجل ملاحظته القيمة: عظيم جداً، فقد ألقى الزعيم خطابه، ولهذه المدة الطويلة من الزمن دون أن يرتكب أية غلطة لغوية أو نحوية ".
جدير بالذكر أن الخطاب سجل وطبع ووزع وقرأه الرفقاء في جميع حفلات الحزب في الوطن في الليلة التالية للحفلة المركزية التي أقيمت في منزل الرفيق لبابيدي.
ومن أبرز الاحتفالات التي جرت، تلك التي أقامتها مديرية السيدات، مديرتها الرفيقة جمال ناصيف وفيها قدم جورج عبد المسيح، باسم الدكتور محمد أمين تلحوق، منحه سعاده لاحقاً رتبة الأمانة، سيفاً تذكارياً لآل تلحوق.
أما هدية سعاده في الأول من آذار عام 1938 للرفقاء وللأمة السورية، فكانت كتاب "نشوء الأمم"، فقد خرج هذا الكتاب القيّم صبيحة أول آذار بعد أن عمل الطابعون والمجلدون طيلة ليلتهم لإتمامه وإخراجه في يوم مولد سعاده.
وفي المكسيك حيث تشكلت منفذية، وكان الحزب قد انتشر بشكل كبير في أوساط الجالية السورية، فقد احتفل القوميون الاجتماعيون للمرة الأولى بعيد مولد الزعيم في احتفال ضخم حضرة جمع غفير من المواطنين فيما أعلام الزوبعة تخفق في أروقة مكتب المنفذية وفوق الشرفات، والأسهم النارية تملأ الجو.
أول آذار عام 1939
لم يحتفل الحزب بمناسبة الأول من آذار كالعادة، فوضعه شبه السري بعد الأحكام التي صدرت بعد مغادرة سعاده الوطن، حال دون ذلك، ولكن رغم هذا كله أشعلت النيران على قمة صنين وقام منفذ عام بيروت الأمين جبران جريج (وكان باسم مستعار: إحسان سالم) بطبع كراس إذاعي من عشر صفحات يتضمن ملخصاً لسيرة الزعيم، ولمسيرة الحزب خلال السنوات الثلاث بعد انكشاف أمره، كما يتناول المنظمات الطائفية وطروحاتها. طبع من هذا الكراس خمسة آلاف نسخة تم توزيعها بطريقة محكمة جداً. فلقد تشكلت في كل مديرية زمرة أو زمرتين، وتسلمت المديرية حصتها من الكمية قبل حلول أول آذار بثلاثة أيام وسلمتها إلى الزمر قبل يوم واحد مع تبليغها عن موعد التوزيع في الساعة العاشرة من ليل 28 شباط - أول آذار. أما عن كيفية التوزيع فقد كان بوضع الكراس من تحت أبواب المحلات التجارية، أما بالنسبة للمنازل فبالطرق على أبوابها وتسليمه لمن يقبل على فتحها. وزعت الكمية كلها حسب الخطة المرسومة، ولم تنتبه السلطة إلى توزيع الكراس إلا بعد الانتهاء من ذلك، وهكذا لم تستطع القبض على أي رفيق. عضو واحد خالف التعليمات هو الرفيق شكيب أبو مصلح (الأمين لاحقاً). إذ توجه مع الرفيق شحاده رزق الله بعد أن التقيا في مكان عمل الرفيق فهد حريق وتداولوا في التصرفات الشاذة التي كان يقوم بها مكتب التحريات الذي كانت السلطات قد أنشأته لملاحقة الأحزاب، وخاصة حزبنا، ورئيسه القاضي فرنان ارسانيوس، فقرر الرفيق شكيب أن يتحدى القاضي المذكور، ولما لم يكن يعرف عنوان منزله فقد اصطحب معه الرفيق شحاده رزق الله الذي كان يعرف المنزل، حتى إذا وصلا صعد الرفيق أبو مصلح الدرج، ورن الجرس، وإذ فتح له أحدهم يسأله ماذا يريد، شاهد الرفيق شكيب القاضي ارسانيوس جالساً في الصالون يتبادل الحديث مع أحد ضيوفه، فأجاب السائل وهو يدخل القاعة "أريد أن أقدم هذه الهدية إلى حضرة الأستاذ ارسانيوس بمناسبة عيد أول آذار مولد زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي"، وسلمه الكراس يداً بيد.
وغادر الرفيق شكيب المنزل كما دخله، إلا أن الحارس، وكان استيقظ من غفلته لحق الرفيق أبو مصلح واعتقله، ليحاكم بعد ذلك ويحكم بمدة الشهر التي كان قضاها في السجن .
أما في البرازيل التي كان وصل إليها سعاده بعد مغادرته الوطن في 28 تموز 1938 فقد نشرت جريدة "سورية الجديدة" في عددها الأول الصادر بتاريخ 11 آذار 1939، أن العديد من الرفقاء والأصدقاء فاجأوا سعاده بحفلة أنيقة في ذكرى ميلاده الخامس والثلاثين، وفيها تحدث سعاده زهاء ساعتين .
وكما كانت شهدت صافيتا احتفالاً مميزاً في ذكرى أول آذار عام 1937، فقد احتفل السوريون القوميون الاجتماعيون في دمشق بمظاهرة رائعة، وعلم الزوبعة يتقدم الصفوف المرصوصة تجتاز شوارع المدينة، والأسهم النارية تطلق في سماء دمشق .
غاظت السلطات هذه المواكب فألقت القبض على بعض الرفقاء، ولكن موقف رفقائهم الحازم، وقد دخلوا سراي الحكومة وهم يهتفون جعل السلطات تخلي سبيل الرفقاء المعتقلين في اليوم التالي.
أول آذار عام 1940
الاحتفالات في الوطن جرت بشكل سري جداً وفي نطاق اجتماعات المديريات، وكعادتها كل عام شهدت قمة جبل صنين اشتعال النيران. من جهته نظم الأمين عجاج المهتار قطعة زجلية رائعة بعنوان "بكرا بيجي" تداولها السوريون القوميون الاجتماعيون بحماس لافت .
أما عبر الحدود فقد حصلت الاحتفالات في كل من المكسيك، البرازيل والأرجنتين التي كان وصل إليها سعاده في أواسط أيار 1939 .
تحضيراً لاحتفال بيونس ايرس، تألفت لجنتان: أولى للسيدات، وأخرى للرجال. أما المأدبة فقد أقيمت في الصالة الكبرى لفندق "جوستان" الفخم. بعد الكلمات والقصائد، والتي كان منها قصيدة "بلاد النبوغ" للشاعر زكي قنصل، ألقى سعاده خطاباً شاملاً تناول فيه أوضاع امتنا، وتحدث عن المدرحية، عن الوحدة القومية، عن العروبة، وعن لبنان، وفيه قوله: "نحن لا نهتف يعيش، يعيش، بل يحيا، يحيا، لأننا نريد الحياة بكل معانيها، لا مجرد العيش، وفي الحياة من المعاني ما لا وجود له في العيش" وفيه أيضاً قوله الشهير: "نحن جبهة العالم العربي وصدره وسيفه وترسه، ونحن حماة الضاد ومصدر الإشعاع الفكري في العالم العربي كله".
أول آذار عام 1941
في الفترة الصعبة بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وملاحقة سلطات الانتداب للرفقاء وزجهم في السجون والمعتقلات شكلت بعض مناطق الوطن حصوناً للحزب، ومنها منطقة القويطع في الكورة التي شهدت قراها نمو الحزب منذ بدايات التأسيس، والتي كان لجأ إليها الأمينان جبران جريج وعبد الله قبرصي، وغيرهما من مسؤولين مركزيين في اكثر من مناسبة. في العام 1941 كان الأمين قبرصي فاراً من وجه المظالم، ومع ذلك احتفلت بتعبورة والقويطع بالأول من آذار، وهذا ما يصفه الأمين قبرصي في الجزء الأول من مذكراته:
" دعوت القرية بيتاً بيتاً، علمت ليلى ونازك بربر، وجمال صعب وعدداً من عرائس بتعبورة الصغيرات، من الحلوات ذوات الصوت الكناري، بعض الأناشيد "الآذارية" "… أتيت بالصبايا وألبستهن الثياب البيضاء الناصعة وحملتهن السلال مليئة بورود وأزهار ربيع الكورة الفتان. أما حليم بربر الذي كان يطل على الحياة فقد كان بصوته الساحر بلبل الاحتفال الحاشد.
" كانت بتعبورة في عرس تنتظر احتفالاً لم تألفه من قبل. مع مسؤولي المنطقة، تدارسنا البرنامج واتفقنا على كل خطوطه وخطواته. أمّنا حراسة مدخل القرية كما أمّنا حراسة الممرات المؤدية إلى المدرسة. جئنا بكل كراسي البلدة لتسع لكل الضيوف خاصة الكهول والعجائز من كل قرى المنطقة .
تدبرنا من ينشد سورية لك السلام. نشيد الحزب الرسمي. ناظر تدريب المنفذية أخذ على عاتقه إعطاء الإيعاز عند وصول موكب المسؤول الأول.
كان قد تقرر أن يتألف هذا الموكب من المنفذ العام وهيئتي المنفذية والمديرية، وكان يجب أن يتقدم هذا الموكب شلة من الفتيات – الحمائم البيضاء – يحملن سلال الزهر، وينثرن منها أزهارهن على الحضور يميناً وشمالاً .
لا أزال اذكر حلوات بتعبورة الحمائم البيضاء يتقدمن الموكب الرمزي والزهور من سلالهن تملأ رؤوس الحاضرين، ومنشدات سورية لك السلام والمنشدون تتردد أصداء أصواتهم في الأودية القريبة في ذلك الليل الربيعي المقمر…
لم يكن في بتعبورة كهرباء، فنوّرنا الساحة والقاعات بقناديل اللوكس الوهاجة. العيد وحده نور، فما بالك إذا أضيفت إلى نوره أنوار اللوكس الوهاجة؟
دخل الموكب القاعة، وقف الحضور من كل أنحاء القويطع، أدى الرفقاء التحية، فأداها معهم كل من حضر دون استثناء. منظر الشيوخ والعجائز يرفعون أيديهم بالتحية يستدر دموع الفرح، ومشهد الفتيات ينثرن الزهور يهز عواطف البهجة في الأعماق. وسورية لك السلام تنشدها الفتيات والفتيان في جو من الغبطة والحماس والإيمان تفيض روعة وجمالاً .
وقف الموكب يؤدي التحية حتى نهاية النشيد الرسمي. ثم تقدم إلى الصفوف الأمامية واعتلى المسؤول الأول المنبر. وبدأ عريف الحفلة يقدم المتكلمين .
لا أذكر من خطب ومن انشد شعراً زجلياً، أذكر أني كتبت خطاباً طويلاً، وصفت فيه الزعيم بشعره المنمنم، وقامته الرمحية، ووجهه النحاسي وتقطيبة حاجبيه السحرية وعينيه الفارضتين ومشيته كأنما مارد يمشي هادئ الخطى جباراً.
ورحت اذكر تعاليمه ومبادئه، مذكراً الحضور بطلته على بتعبورة في أيلول 1937. ولن أنسى عبارة ما برحت أرددها:
لقد طبع سعاده نفسه في تعاليمه ومبادئه، فجاءت وكأنها من لحمه ومن دمه. إن ميلاد سعاده رمز لميلاد الأمة الجديدة. إن ذكرى ميلاد المعلم هي ذكرى ولادتنا الثانية، فهو مؤسس حزبنا، وباعث نهضتنا، وخالق القضية التي من أجلها نحيا، ومن أجلها نموت.
أول آذار عام 1942
كان سعاده قد عقد قرانه على الرفيقة جولييت المير (الأمينة الأولى) عندما حلّ أول آذار العام 1942. في منتصف شهر شباط بدأ الرفقاء التهيئة للاحتفال بالعيد فتألفت لجنة منهم ووضعت منهاجاً لعملها، وتقرر إقامة مأدبة يحضرها الرفقاء والأصدقاء في إحدى القاعات الخاصة بالاحتفالات في بيونس ايرس .
تليت نصوص البرقيات العديدة التي وردت إلى الزعيم من فروع الحزب في المكسيك والولايات المتحدة والبرازيل وأفريقيا وجزر الكناري والتشيلي، ومن فروعه في الأرجنتين. بعد الكلمات ألقى سعاده خطاباً شاملاً جاء فيه "إن الأشخاص يجيئون ويذهبون ويتبدلون، ولكن العقيدة هي الأساس الراسخ الثابت على الأيام والسنين والعقود
والأجيال. وان العقيدة السورية القومية الاجتماعية، والنظام السوري القومي الاجتماعي اللذين قد اصبحا قبلة أنظار الشعب السوري، لا يمكن ولا يجوز أن توضع قيمتهما في محل قيمة الأفراد. ولا يمكن ولا يجوز أن يكون الأفراد محكاً لهما، بل يمكن ويجب أن يكون العكس، أي أن يكونا هما محكاً للأفراد. فحين الاختيار بين العقيدة والنظام من جهة وفرد أو أفراد من جهة أخرى، نحن لا نتردد في التمسك بالعقيدة والنظام ، وترك الأفراد لمصيرهم .
أول آذار عام 1943
ورد في كتاب "سعاده في الأول من آذار" نقلاً عن جريدة "الزوبعة" خبر ومقتطفات من خطاب الزعيم في حفلة أول آذار التي أقيمت في مدينة كوردبة (الأرجنتين) بالاستناد إلى ما دونه أحد الرفقاء من الخطاب الذي كان ارتجله سعاده في المناسبة .
أشار سعاده إلى الأحكام التي كانت صدرت عن المحكمة العسكرية عام 1940 بحق معاونيه في إدارة الحزب، وبحقه شخصياً إذ حكمت عليه هذه المحكمة بعشرين سنة سجناً، وعشرين أخرى إقصاء. "ومع ذلك فهذه الأحكام لم تثبط من عزائمهم، ولم تضعف من قوتهم الروحية " .
وتناول في خطابه أوضاع الأمة، والحزب "فليس هذا الاجتماع هنا سوى واحد من ألوف الاجتماعات التي تحدث في هذا اليوم لتبرهن للعالم أن الأمة السورية العظيمة التي كانت صريعة قد نهضت وأن الحركة السورية القومية الاجتماعية قد أخذت توحد صفوف الأمة لمغالبة اللصوص الذين اقترعوا فيما بينهم على حقنا في الحياة والارتقاء" .
أول آذار 1944 – 1945 – 1946
لم نقع في كتاب "سعاده في أول آذار" كما في "الآثار الكاملة" أو في أي من أدبيات الحزب المتوفرة لدينا، على ما يشير إلى احتفالات الأول من آذار في الأعوام 1944 – 1945 – 1946 باستثناء ما ورد في الجزء 12 من "الآثار الكاملة" بالنسبة لأول آذار العام 1945 إذ يشير سعاده في رسالته إلى منفذ عام بيونس ايرس الرفيق إبراهيم أفيوني بتاريخ 20 شباط 1945 إلى حفلة أول آذار، وإلى عدد "الزوبعة" الخاص الذي سيصدر في هذه
المناسبة، وفي شباط يقول: "يؤسفني أن لا أكون معكم بشخصي في احتفالكم بالأول من مارس ليكون لي السرور بإظهار عزيمة العمل المستمر والثقة بالانتصار الأخير" .
أول آذار عام 1947
لعله كان الاحتفال الأروع، حيث تقاطرت الحشود من كل أرجاء الوطن إلى مطار بيروت في منطقة بئر حسن، وألقى الزعيم خطاباً تاريخياً أعاد به الحزب إلى موقعه الأصيل .
ففي 2 آذار هبطت الطائرة التي أقلت سعاده إلى الوطن بعد تسع سنوات في أميركا اللاتينية، كان معه في الطائرة الآتية من مصر القائد الوطني فوزي القاوقجي عائداً من ألمانيا حيث أمضى سنوات الحرب، فظنّ أن الألوف
المحتشدة في المطار أتت لاستقباله فنزل من الطائرة يلوح مبتسماً، ولم يكتشف أنها أتت لاستقبال سعاده إلا بعد خروج الزعيم من باب الطائرة، وأخذ السوريون القوميون الاجتماعيون يهتفون بحياته وحياة سورية .
من خطاب العودة
"إن جهادنا يستمر، ويجب أن تتذكروا دائماً أن فلسطين سورية، وأن هذا الجناح الجنوبي مهدد تهديداً خطراً جداً. إن إرادة السوريين القوميين الاجتماعيين هي إنقاذ فلسطين من المطامع اليهودية ومشتركاتها" .
"ولعلكم ستسمعون من سيقول لكم أن في إنقاذ فلسطين حيفاً على لبنان واللبنانيين، وأمراً لا دخل للبنان فيه. إن إنقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم، كما هو أمر شامي في الصميم، كما هو أمر فلسطيني في الصميم، إن الخطر اليهودي على فلسطين هو خطر على سورية كلها، هو خطر على جميع هذه الكيانات .
"وأعود فأقول أن هذه الكيانات يجب أن لا تكون حبوساً للأمة، بل معاقل تتحصن فيها الأمة، وتتحفز للوثوب منها على الطامعين في حقوقها" .
"إن كلمتي إليكم أيها السوريون القوميون الاجتماعيون هي العودة إلى ساحة الجهاد". وتعلو أصوات الحشود بالتصفيق والهتاف "تحيا سورية، يحيا سعاده، ، وأنظر حولي فأرى الدمع ينهمر من عيون السوريين القوميين الاجتماعيين القدماء وهم ينظرون إلى سعاده بلا حراك كأنهم لا يصدقون ما يرون، وما يسمعون، وأرى البعض يعانق بعضهم: "سعاده رجع، رجع سعاده، الحزب رجع" . (هشام شرابي – الجمر والرماد) .
***
بعد عودة سعاده إلى الوطن في 2 آذار العام 1947 جرت مناسبتان للاحتفال بعيد الأول من آذار، الأولى عام 1948 في منزل الأمين بشير فاخوري، والثانية عام 1949 في منزل الرفيق هاني بلطجي، ثم في منزل الرفيق فؤاد إسكندر الشاوي .
أول آذار عام 1948
بسبب الأوضاع التي نتجت عن مواجهة الحزب للسلطات المحلية بعد عودة سعاده من مغتربه القسري كما الوضع في الجنوب السوري، فقد أصدرت عمدة الإذاعة التعميم عدد 10/48 بتاريخ 26 شباط 1948 جاء فيه:
"يصادف أول مارس هذا العام الفترة الدامية النضالية من حياة جنوب سورية العزيز في معركة إنقاذه من الخطر الصهيوني الغاشم، وتعطيل مفعول قرار التقسيم الجائر، فبالنظر إلى هذه الحالة الدامية يطلب حضرة الزعيم من السوريين القوميين الاجتماعيين في الوطن وعبر الحدود أن يمتنعوا عن إقامة الزينات والاحتفالات الشعبية العامة والاقتصار على الاجتماعات العادية لجميع المديريات في جميع الفروع الحزبية". على الصعيد المركزي، ومساء أول آذار أقامت الإدارة المركزية مأدبة حافلة على شرف الزعيم في بيت الأمين بشير فاخوري، دعت إليها المسؤولين،
وبعض الشخصيات السياسية في العاصمة، وبعض الصحافيين، وحضر منهم الرئيس سامي الصلح، والنائب كاظم الخليل.
بعد الكلمات التي ألقيت، وقبل تناول الطعام ألقى سعاده خطاباً جاء فيه:
"نحن اليوم لا نقدم للناس نظريات في الحياة، نحن اليوم نقدم للناس أمة حية، تتحرك، تتكلم، تتعاطى، تأخذ وتعطي، تحتك بالكون حولها، ومع ذلك لا يصدقون. نقول لهم: الطوائف أصبحت كياناً قومياً واحداً، فقط تعالوا المسوهم وانظروهم واشعروا بوجودهم. لكن لا نصدق، هذا ما يقولون" .
"ولكن نحن الذين آمنا وصدقنا، نسير لا تعرقلنا المخاوف، ولا تعوقنا قوة المخاوف التي هي قوة عنيفة عنيدة، قوة لخوفها تقوم بأعمال جنونية، إلى حد أنها تقدم على قتل الروح المحيي لو أمكنها. مع ذلك سرنا مؤمنين نتلقى اللطمات من الخائفين، من أبناء امتنا. نتلقاها كما يتلقى الطبيب لطمات عليل يريد أن يداويه من علة تملكت به، ويأبى أن يتداوى" .
وفي 2 آذار أقامت منفذية الغرب حفلة في عاليه حضرها سعاده، ومن الذين تكلموا فيها الرفيق أديب حداد (أبو ملحم) الذي ألقى قصيدة زجلية، الأمين عبد الله قبرصي، وآخرون، واختتم الزعيم الكلمات بخطاب تناول فيه قضايا الساعة وموقف الحزب منها .
أول آذار عام 1949
حاولت السلطة تعطيل الاحتفال الذي أقامه الرفقاء في بيت الرفيق هاني بلطجي – رأس بيروت – تكريماً للزعيم. إلا أن الرفقاء أحبطوا محاولات قوى الأمن التي كانت تستقدم التعزيز تلو التعزيز، وبالمقابل ضوعفت الاحتياطات من قبل قيادة القوات السورية القومية الاجتماعية لمواجهة جميع الطوارئ. وفي هذا الجو وقف الزعيم بعد أن انتهى البرنامج الخطابي ووزعت الحلوى فألقى خطاباً طويلاً هاجم فيه السلطة، ومما جاء فيه "إن أمر الحرب هي الحرب الداخلية، الحرب التي يثيرها علينا الذين يدعوهم الشرف القومي إلى المحاربة معنا فلا يحاربون إلا علينا. إن زمن القطعان قد انتهى وابتدأ زمن الجماعة المدركة الحرة. أننا نحيا في عهد النهضة القومية الاجتماعية. أننا نحيا في العز والقوة. أننا لم نعتد على أحد ولم نهاجم أحداً ولكننا لسنا نعاجاً إذا هوجمنا، بل اسوداً".
هذا الانتصار الذي تحقق بعدم تمكن قوى الأمن من إفشال الاجتماع، دفع رئيس الوزراء رياض الصلح إلى التشدد في منع حفلة العشاء التي كانت إدارة الحزب المركزية قد دعت إليها في فندق النورماندي، رجال السياسة والصحافة، والأدباء، والمفكرين، فقررت إقامتها في دار الرفيقين فؤاد وإسكندر شاوي في الأشرفية، في نفس اليوم والساعة، وبحراسة مسلحة من قبل الحزب. حول الاجتماع في بيت الرفيق هاني بلطجي يقول الأمين قبرصي في مذكراته:
"كنت في بيت الرفيق هاني بلطجي وشهدت كيف دخل رجال الشرطة قاعة الاحتفال والزعيم يلقي خطابه واقفاً على كرسي، والشرطة حوله، وقد طوق السوريون القوميون الاجتماعيون الحديقة التي كانت حول البيت، وطوقوا بالوقت نفسه كل القوة البوليسية التي كان في نيتها تعطيل الاجتماع وتفريق المجتمعين. فاستمر الاجتماع كما استمر سعاده في إلقاء خطابه حتى نهايته !!!
وفي خطابه في منزل الرفيقين شاوي، قال سعاده: "لم يتسلط اليهود على جنوبي بلادنا ويستولوا على مدن وقرى لنا إلا بفضل يهودنا الحقيرين في ماديتهم، الحقيرين في عيشهم، الذليلين في عظمة الباطل" .
"إن الصراع بيننا وبين اليهود، لا يمكن أن يكون فقط في فلسطين، بل في كل مكان حيث يوجد يهود قد باعوا هذا الوطن وهذه الأمة، بفضة من اليهود. إن مصيبتنا بيهودنا الداخليين أعظم من بلوتنا باليهود الأجانب. إن الصراع هو صراع حياة أو موت، فأما أن تنتصر هذه النهضة التي تحقق بعث أمة فتية جديدة، أمة تعرف أن الحياة عز، وترفض الحياة في ما دون الصراع، ودون العز، وأما أن ينتصر الانحطاط وتغلب الرجعية التي تمثل عيش جماعة فانية هالكة. إن الصراع فرض حتمي علينا إذا كنا نريد أن نكون حياة، أن نكون عزاً " .
|