الأمين نواف حردان امام المنزل الذي قابل فيه الزعيم للمرة الأخيرة في دمشق
استفزاز
وضعت هذه الرسالة في غلاف وأقفلته، ثم سلمتها للراعي وطلبت منه ان يسلمها للمقدم حيدر يداً بيد، وعدت ادراجي الى حيث كان رفقائي في اعلى الهضبة.
في مساء ذلك اليوم، وصل الرفيق خليل حردان(1) من بلدتي راشيا الفخار، واخبرني ان الرفقاء ما زالوا متوارين عن الأنظار، ينتظرون تعليمات جديدة مني، وان زلم المير مجيد أرسلان وعلى رأسهم، يدخلون بيوت القوميين ويقلبون ما فيها رأساً على عقب، بحثاً عن سلاح او وثائق حزبية، وانهم يلتقطون الدجاج ويذبحونه، ويفرضون على الأهالي صنع مأكولات لهم وتناول العرق... ويجلسون بعد ذلك يأكلون ويشربون ويعربدون.
وأضاف ان رجال الدرك القوا القبض على والدتي، وساقوها الى بيت المختار حيث قال لها الضابط:
- انت أم نواف حردان؟
• نعم انا أمه .
- بدك تروحي تجيبيه وإلا نقبض عليك بدلاً منه.
- أنا امرأة.. وابني رجل بالغ الرشد لست مسؤولة عنه.. إذا كنتوا انتو رجال.. رحوا جيبوه.
وأخبرني ايضاً ان كتيبة من الجيش وصلت البلدة، وقصدت بيت جدي، ووضع عريف يدعى يوسف عبد النور من بيت ملات – عكار، أصابع ديناميت في جدار البيت بقصد نسفه، فتقدم جدي يصيح ويحاول ان يمنعهم من ذلك، وظل يصيح ويحتج الى ان اقنعهم بأن البيت ملكه وليس ملكي، فذهبوا الى بيت ابي ونسفوه.
ولبثنا ذلك اليوم ننتظر ان يطل علينا الرفيق زيد الأطرش(2) من جهة الشرق، او جنود من الجيش اللبناني من جهة الغرب، والرفقاء في حالة تنبه واستنفار دائمين.. الى ان عيل صبري من الانتظار في اليوم التالي، فقررت ان أقوم بعملية استفز بواسطتها فرقة الجيش اللبناني الرابطة في الكفير، بقيادة المقدم حيدر، عله يقوم بعد العملية بإرسال احد ضباطه على رأس بعض الجنود لملاحقتنا في الجبل، فأكمن له مع الثلاثة الرفقاء المسلحين، على جانبي وادٍ يمر فيها الطريق من الكفير الى الجبل، يدعى "باب الخان" لا مهرب لمن يريد الصعود الى الجبل من المرور فيها.
ناديت الرفقاء: سالم صليبا وجميل متري وأخي حليم حردان(3) الذي كان خبيراً باستعمال السلاح وصياداً ماهراً ومقاتلاً معروفاً منذ فتوته، وطلبت منهم ان يرافقوني.
شعر الأمين عجاج بأني سأقوم بعمل ما فتقدم مني وسألني:
- الى اين أنت ذاهب؟
- انا ذاهب الى مقربة من الكفير لكي استفز الجيش المرابط فيها، فأستدرجه الى ارسال كتيبة منه كي تلاحقنا، فنكمن لها على الطريق ونهاجمها.
- ولكن هل بإمكانكم بثلاث بنادق فقط؟ ان تخوضوا معركة مع الجيش ؟
- إن اختيار مكان المعركة – أجبت – وتوقيت حدوثها، شرطان أساسيان للانتصار في أي معركة يا أمين عجاج.
- هذا صحيح.. ولكن السلاح معكم قليل.
- ولكن ايماننا كبير وثقتنا بنفوسنا كذلك.. وسوف ترى غداً بأني سأعود اليك بسلاح كثير.
ورحت أسير مع الرفقاء الثلاثة انحداراً في الجبل، وايماننا وعزمنا وتصميمنا على خوض معركة ننتصر فيها، تحفزنا على الإسراع في السير.
كان الوقت مساء والشمس قد أذنت بالمغيب، فقدرت اننا سنصل الى جوار الكفير نحو الساعة التاسعة ليلاً.
وصح تقديري.. إذ وصلنا جوار الكفير ما بعد الساعة التاسعة بقليل، فطلبت من اخي حليم وجميل متري ان يفترقا عنا، ويذهبا ليتمركزا في الجهة الشمالية الشرقية من الكفير، على بعد 400 متر منها.. وأوصيتهما ان يطلق كل منهما طلقتين من بندقيته، عندما يسمعان انفجار قنبلة يدوية، سأرميها من مكان آخر أتمركز فيه، جنوبي شرقي البلدة مع الرفيق سالم صليبا، بين كروم خلوات الكفير، ولكن بعد منتصف الليل بقليل.
ذهب الرفيقان ليتمركزا في المكان الذي أشرت إليه، واتجهت ورفيقي جنوباً الى ان بلغنا كروم خلوات الكفير المقابلة للكفير، فجلسنا تحت شجرة زيتون كبيرة على بعد خمسمئة متر من البلدة في مكان يدعى "عين الزمرونة"، ننتظر حلول منتصف الليل.
كانت الليلة حالكة الظلام، وانوار بلدة الكفير الراعشة تخترق الظلمة وتبدو لنا ضعيفة مرتجفة، ثم راحت تتلاشى شيئاً فشيئاً(4).
واخيراً.. بعد انتظار طويل ثقيل، حل منتصف الليل... فأمسكت القنبلة اليدوية ونزعت فتيلها، ورميتها على الطريق العام على بعد عشرين متراً من المكان الذي كنا فيه، فانفجرت بعد قليل، وكان لانفجارها دوي هائل، اهتز له الليل الساجي، وتجاوب في الأمكنة المجاورة كأنه انفجار الرعد.. ولم تمض ثوان أخرى، حتى اطلق كل من الرفيقين حليم حردان وجميل متري من الجهة الشمالية المقابلة، رصاصتين، ثم أطلق رفيقي سالم صليبا ثلاث رصاصات، تجاوب صداها يخترق السكون المخيم.
سمعنا بعد ثوان قليلة ضجيجاً في معسكر الجنود، وصوتاً عالياً يصيح:
- لقد هوجمنا يا سيدي المقدم.
ثم صوتاً آخر يدوي:
- الى السلاح.. الى السلاح..
وحدث ارتباك شامل في المعسكر، نهضنا أثناءه وغادرنا مكاننا، ورحنا نصعد بهدوء الى ان التقينا رفيقينا الآخرين، اللذين أطلقا الرصاص من الجهة المقابلة، فتابعنا وإياهما الصعود.. وأنا أقدر بأن الجنود لن يجسروا على التحرك ليلاً، ومغادرة معسكرهم لملاحقتنا..
*
وبلغنا الوادي الذي كنت قد قررت ان نكمن على جانبيه "باب الخان" بانتظار وصول الجنود الذين قدرت ان المقدم حيدر، سيرسلهم صباح اليوم التالي لملاحقتنا، بعد ذلك الاستفزاز المتحدي.
بقينا ساهرين في الوادي الى الصباح، عندما طلبت من الرفيقين حليم حردان وجميل متري، ان يصعدا ويكمنا بين الصخور من الجهة الجنوبية، ثم ابتعدت مع رفيقي الآخر نحو عشرين مترا عن الوادي، وجلسنا بين الصخور نراقب الطريق.
كنت على ثقة بأن المقدم حيدر، سيرسل عشرين او ثلاثين جندياً على الأقل لملاحقتنا، بعد ذلك الاستفزاز الذي قمنا به أثناء الليل.
وكنت قد قررت ان نهاجم أولئك الجنود فجأة، على غير انتظار منهم، عندما يصلون ويتوسطون الوادي، ثم أصيح بهم محذراً وطالباً منهم الاستسلام، عندما يدركون بأنهم وقعوا في كمين لا رجاء لهم بالتخلص منه.
وطال انتظارنا دون ان يظهر أحد من الجنود.. ساعة.. ساعتان.. ثلاث ساعات.. الى ان انتصف النهار فرحت اسائل نفسي:
- هل تسلم المقدم حيدر قائد الفوج رسالتي فقرأها وكان لها تأثيرها عليه؟ ولذلك لم يرسل جنوده لملاحقتنا؟ أم أنه خشي إرسالهم، والوقوع في كمين ننصبه لهم؟
أسئلة بقيت بدون أجوبة.. ولا تزال باقية كذلك الى اليوم.. وسوف تبقى في المستقبل.. لأن الحياة أقامت فاصلاً بيني وبين ذلك الرجل فلم اره لكي اسأله.. ولم أعرف عنه شيئاً فيما بعد.
نهضت بعد ذلك وناديت رفيقيّ في الجانب الآخر من الوادي.. ثم أشرت اليهما كي يلحقا بنا.
ورحنا نصعد الجبل مرة أخرى.. وأنا أظن بأني سألاقي الرفيق زيد الأطرش ينتظرني، في المكان الذي تركت فيه باقي الرفقاء، فوق الهضبة المشرفة على سهل "جنعم".. ولكن خيبتي كانت كبيرة عندما وصلت ولم أجد اثراً له.
*
القبض على الأمين عجاج
الامينان عجاج المهتار ونواف حردان
أتابع تسجيل ما جرى معي في جبل الشيخ، بعد ان عدت من الكمين الذي نصبناه للجنود على جانبي الوادي، كما ذكرت سابقاً، ولم أجد أثراً للرفيق زيد الأطرش، في المكان الذي كنا قد جعلناه مقراً لنا.
قررت بعد تفكير قليل، ان اكتب تقريراً مفصلاً للزعيم في دمشق، أشرح له فيه ما جرى معي، وأطلب تعليمات جديدة.
جلست وكتبت التقرير ثم ناديت الرفيق يوسف الصبّاغ، وطلبت منه ان يحمله لمدير مديرية عرنه، الرفيق رشيد مجاعص ويطلب منه ان يرسله لقيادة الحزب في دمشق، فسار على الفور ينفذ ما طلبته منه.
في صباح اليوم التالي عاد، وعلى وجهه تبدو مظاهر الخيبة فقال لي:
- اعتذر الرفيق رشيد مجاعص(5) عن تسليم الرسالة، وقال لي ان "عرنه" تعج برجال الجيش الشامي، مما يدل على ان حسني الزعيم انقلب علينا.. فلا فائدة من ارسال التقرير.. وقل للرفيق نواف ان يكون شديد الحذر.
حرت بأمري.. وجلست أفكر بما يجب عليّ القيام به، وقد انسدت أمامي جميع الطرق.
وطال جلوسي وتفكيري.. الى ان اقترب مني الأمين عجاج، الذي كان قد عرف ما أجاب به الرفيق رشيد مجاعص في عرنه، وقال لي:
- ليس من مخرج أمامنا، سوى ان أذهب بنفسي الى دمشق أحمل التقرير للزعيم، ثم أعود بالتعليمات اللازمة منه، وببعض المعلبات والمأكولات والألبسة والأحذية للرفقاء، لأن الزاد الذي لدينا يكاد ينفذ، وألبسة الرفقاء وأحذيتهم أصبحت في حالة يرثى لها.
وافقت رأساً على اقتراحه، وناديت أخي حليم وطلبت منه ان يرافق الأمين عجاج الى عرنه، لكي يتابع طريقه منها بالسيارة الى دمشق.
وعاد أخي حليم مساء فقال لي، أنه أوصل الأمين عجاج الى ما فوق عرنه.. وظل يراقبه الى ان رآه يدخل البلدة.
ولبثت بعد ذلك انتظر عودة الأمين عجاج، بفارغ صبر وأعصاب متوترة.
*
في صباح اليوم التالي رأيت رجلاً ينحدر من المقلب الثاني للجبل قادماً نحونا فاشتبهت به، وأمسكت كرّاري وأطلقت منه رصاصتين نحوه، فرأيته يرفع كوفيته البيضاء ويلوح بها إشارة بأنه من أصدقائنا.
وصل بعد قليل وقال لي:
- أنا رفيق لكم من مديرية عرنه، رأيت الجنود الشاميين المرابطين في البلدة، يلقون القبض على الأمين عجاج المهتار عندما وصلها أمس، وقد دعاني فيما بعد في غفلة من الجنود وقال لي: اذهب الى سهل "جنعم" في جبل الشيخ، وقل للرفيق نواف حردان الذي ستجده مرابطاً هناك، ان رجال الجيش الشامي قد القوا القبض عليّ عندما وصلت عرنه، مما يدل على ان حسني الزعيم قد انقلب علينا.. فليحذر شديد الحذر وليدبر حاله.
أدركت عندئذِ ان حسني الزعيم قد انقلب علينا فعلاً، وإلا ما معنى القبض على الأمين عجاج؟ كما ادركت أننا أصبحنا بين نارين.. من الغرب تلاحقنا الحكومة اللبنانية.. ومن الشرق الحكومة الشامية.
أصبح موقفنا حرجاً جداً.. وزاد الطين بلة نفاذ المؤونة والزاد منا.. وسوف يعضنا الجوع حتما في ذلك المكان المقفر بعد قليل.. إذا لم نتخذ تدبيراً عاجلاً يقينا ذلك.
ناديت الرفقاء يوسف الصباغ وسالم صليبا ومعروف قيس، وطلبت منهم ان يتوجهوا الى عرنه، لكي يشتروا كمية من الخبز تكفي لسد جوع الرفقاء يومين او ثلاثة، لبينما نتخذ تدابير أخرى.
ولبى الرفقاء الثلاثة طلبي وساروا قاصدين عرنه، بعد ان أوصيتهم ان يدخلوها من الجهة الشمالية، حيث لا ينتظر ان يكون الجيش الشامي مرابطاً، كما طلبت من الرفيق يوسف الصباغ ان يتابع الى دمشق يحمل رسالة مني لقيادة الحزب.
بعد ان سار الرفقاء بساعتين، وصل سبعة رفقاء من راشيا الفخار بطريق الجبل، فارين من ملاحقة الجيش اللبناني لهم.. فأدركت ان الكماشة سوف تحكم أطباقها علينا قريباً.
وكانت تبدو على وجوه الرفقاء مظاهر الحزن والاسى.
وعندما سألتهم عن سبب حزنهم، أجابوني بأن شائعة سرت تقول بأن الزعيم قد أعتقل.
لم أصدق الشائعة.. لأن حصول أي ضرر او مكروه للزعيم لم أكن أتوقعه على الاطلاق.
تلقيت خبر تراجع الرفيق زيد الأطرش برباطة جأش وهدوء أعصاب.. كما كنت قد عرفت باستشهاد الرفيق عساف كرم قرب مشغره.. فلم يفاجئني ذلك، لأنني كنت في حالة تنبه واستعداد، لتقبل أخبار المفاجآت وأي خبر مهما كان سيئاً.
*
خبر استشهاد الزعيم
خبر واحد لم أكن أتوقعه.. هو اعتقال الزعيم، او غيابه عن الساحة وعن قيادة الحزب.
ليبق الزعيم على رأس قيادة الحزب، وكل شيء يهون..
ليبق حيا.. وبصحة جيدة وأمان يعطي النهضة والأمة من معين عبقريته، ما لم يعطها بعد.. فما زال عنده الكثير الكثير ليعطي.
لا بأس.. ان نشرّد وننكب ونلاحق وندخل السجون، وتصيبنا الهزائم ويتساقط شهداؤنا.. شرط ان يبقى الزعيم حيا، يغذينا بفكره وقدوته وحكمته.
لا تزال نهضتنا بعمر الورود.. تحتاج للزعيم كي يتعهدها، لتقوى وتنمو وتشتد، وتقدر على الثبات في وجه العواصف والأعاصير.
وانقضى ذلك اليوم.. وأنا انتظر عودة الرفقاء الثلاثة، الذين أرسلتهم الى عرنه، على غير طائل.
وحل اليوم الثاني.. وطال انتظاري الى الظهر دون ان يعودوا.. فبدأ القلق يساورني.. والتساؤلات تنتصب أمامي:
هل ألقى القبض عليهم الجيش الشامي؟ وهل يستبد الجوع بالرفقاء الذين ينتظرون عودتهم بفارغ صبر.
وتضاعف قلقي فقررت أن أتوجه الى عرنه بنفسي.
وحملت بندقيتي ورحت انحدر في الجبل شرقاً، بعد ان طلبت من باقي الرفقاء انتظار عودتي.
لم ألجأ الى الطريق الجبلية المعروفة.. كي لا اصطدم برجال الجيش الشامي الذين قدرت بأنهم سيرابطون على تلك الطريق.
اتخذت الشرق وجهة لي ورحت اضرب في الجبل.. تارة هبوطاً وصعوداً بين الوديان والمرتفعات.. حينا بين الثلوج وحينا بين الصخور والاشواك، وأنا نهبة قلق عنيف وتوتر شديد.. وبينما أنا اجتاز منخفضاً صغيراً تملأه الثلوج لأصل منه الى منخفض آخر تحته.. سمعت همساً فتوقفت حذراً متنبهاً لحظات قليلة.. ثم مشيت وإصبعي على زناد بندقيتي.. ثم توقفت مرة ثانية أصغي فسمعت ما يشبه البكاء.
يا للعجب؟ من يبكي في هذا المكان البعيد المقفر من الجبل.
ازداد في صدري اضطرام نار قوية من الغضب والنخوة والحماس والتحدي، وأسرعت الخطى الى ان أشرفت على المنخفض، مصدر الهمس والبكاء، فرأيت الرفقاء الثلاثة الذين كنت قد أرسلتهم الى عرنه، جالسين على الأرض، أحدهم يبكي، وبين أيديهم جريدة يبحلقون فيها بحزن وقلق ولهفة.
لا اذكر كيف قفزت إليهم وماذا قلت لهم، أذكر فقط أنني انقضيت على الجريدة انتزعها من بين أيديهم لألتهم سطورها بعيوني، فقرأت، ويا ليتني لم أقرأ، ليت عيني أغلقتا تلك اللحظة قبل ان تقعا على الخبر الكارثة الرهيبة.
"سعادة يقابل الموت بثبات"
"تفاصيل القبض على الزعيم سعادة ومحاكمته وإعدامه".
وتلا ذلك التفاصيل.. ورسوم للزعيم في المحكمة العسكرية اللبنانية، محاطاً بالجنود في أوضاع مختلفة.
أأعدم الزعيم حقاً؟؟ سعادة زعيمنا وباني نهضتنا ونبراس أمتنا؟ أأعدم حقاً؟ ولم أشأ ثانية ان أصدق ما رأته عيناي.
ولكن الرسوم.. هذه الرسوم على صفحات الجريدة؟ انها رسوم حقيقية للزعيم في قفص الاتهام في المحكمة العسكرية في بيروت.
هذا هو الزعيم أجل، وهذه وقفته.. وهذه طلعته.. ومن أين لسواه ان يقف هذه الوقفة في المحكمة التي ستحكم عليه بالاعدام؟ ومن أين لسواه ان يجابه الموت بهذه الابتسامة وهذا الهدوء.. وهذه البطولة؟
"لقد أعدم الزعيم نعم.. فيا لخيانة القدر ونذالة أحكامه، ويا لانتصار الباطل على الحق في جولة الغدر، ويا للأمة السورية ما أسوأ طالعها بموت الزعيم العبقري.. وما افدح خسارتها بموت الفيلسوف القائد المصلح الفذ، الذي أراد ان ينقذها مما تتخبط فيه.. ويعطيها الخير كل الخير، والنور كل النور.
لقد مات نعم، مات جسده المادي.. وجرى دمه يروي به أرض بلاده التي أحبها حتى الموت..
لقد قال: "ان الحياة وقفة عز فقط" فما أروع ما قاله، وما أروع ما حقق.. ويا لروعة قرن القول الجميل بالتحقيق العظيم.
مات سعادة نعم.. ولكن موته لم يكن انتصار الباطل على الحق كما قلت سابقا.. لأن جولة الباطل ساعة، أما جولة الحق فتستمر الى قيام الساعة، والى الابد.
إننا لم نبك الزعيم سعادة ولن نبكيه.. لأن مصرعه كان عرساً لهذه الامة، وسنفرح ونغتبط لأنه لم يمت على فراشه مريضاً عاجزاً.. ولأنه هكذا كان يعلمنا كلما سقط منا شهيد..
لقد قضى شهيداً، مات لأنه أراد ان يموت وهو القائل: "نحن جماعة لم تفضل في يوم من الأيام ان تتخلى عن عقيدتها وأخلاقها لتنقذ جسداً بالياً لا قيمة له".
مات ليحيا وتحيا بموته الأمة التي مات من أجلها.. ونحن إذا كنا جنوداً وتلاميذ جديرين به.. فعلينا ان نجدد العهد والقسم، بأننا سنثأر له من قاتليه وجلادي الشعب بتعميم رسالته وانتصارها في صميم الشعب.. فنغير مجرى التاريخ، فيتمجد التاريخ بذكر النهضة السورية القومية الاجتماعية وزعيمها سعادة".
هكذا خاطبت الرفقاء على إحدى قمم الجبل عندما عدت إليهم.. ثم طلبت منهم ان يقفوا ويؤدوا التحية الرسمية للحركة، ويقفوا دقيقة صمت احتراماً لذكرى الزعيم.. وتأملا بكيفية سيره الى ساحة الإعدام، وكيفية سقوطه شهيدا، عظيما على ممر الأيام وتتابع الأجيال.
وهناك على تلك الذروة المشرئبة نحو بقايا هيكل الاله حرمون، في أعلى قمة من قممه، شهدت القمة وأطلال الهيكل مشهداً من أروع المشاهد الناطقة بالبطولة المجروحة المتألمة، المصممة اللامقهورة.
سبعة عشر سوريا قومياً اجتماعياً.. منتصبون كتماثيل الآلهة.. وأيديهم مرتفعة بالتحية السورية القومية الاجتماعية تشق الفضاء.. والسكون العميق الرهيب يلف المكان ويغمره الجلال والخشوع والروعة، والقلوب تخفق بالألم والتصميم والجبروت والعز والرغبة بالثأر، والأبصار شاخصة الى فوق الى الاعالي، حيث كان الزعيم مربوطاً الى خشبة، معصوب العينين، مغلول اليدين، على ثغره ابتسامة أجمل من إطلالة الفجر.. ثم تطلق عليه إحدى عشرة رصاصة، فيسقط الزعيم صريعاً، ويتفجر دمه جاريا على الرمال العطشانة.
هوامش:
(1) خليل حردان: عُرف الرفيق خليل طعمة حردان في محيطه بشدة إيمانه بالحزب، باستقامته وصدقه وجرأته في المواجهة، لا يقف عند صغيرة ولا تؤثر في قناعته منفعة شخصية. وبالرغم أنه لم يصب من العلم كثيراً إلا أنه كان مذيعاً ناجحاً للعقيدة التي احتلّت كل جوانب حياته، يتحدث بها في كل مكان، حتى مع الخصوم، وفي أحلك سنوات الحرب المجنونة عندما أبى إلا أن يبقى ملازماً لمدرسة سوق الغرب حيث كان يعمل، يحميها من العبث والنهب، ويحفظها لطلاب العلم والمعرفة،
انتقل في السنوات الأخيرة إلى قريته رشيا الفخار للعمل في الأرض التي أحبها، فكان إن زرع فيها عشقه لها ولأشجار
الزيتون التي تعهّدها ساعة ساعة، واعتنى بها عناية الأم بوليدها، الى ان قتل بحادث انقلاب الجرار الزراعي الذي كان
يقوده، فشيّع إلى مثواه الأخير في راشيا الفخار بحضور لافت من أهالي البلدة والجوار، ومن القوميين الاجتماعيين الذين
عرفوا الرفيق خليل في مسيرته النضالية الصادقة وأحبوه، وتقبل آله وذووه التعازي في القرية أولاً، ثم في منزل شقيقه
الرفيق سليم حردان في الأشرفية .
(2) زيد الأطرش: من الذين شاركوا في الثورة القومية الاجتماعية وقد جئنا على ذكره في عدة نبذات .
(3) حليم حردان: هو والد الرفيق اسعد حردان الذي اصبح فيما بعد نائباً ووزيراً ورئيساً للحزب .
(4) لم تكن الكهرباء قد وصلت قرى منطقتنا في تلك الأيام وكان الأهالي يستعملون قناديل الكاز للإضاءة ليلاً.
(5) رشيد مجاعص: قمت بزيارته في منزله في "ضهور الشوير" مع الرفيق المهندس م. الحلبي من المؤسف اني لم احصل على المعلومات التي تفيد آنفاً رغم المحاولة.
|