عندما يحكى عن مديرية "جبل النار" في البسطة، يحكى عن الرفيق محي الدين كريدية، كما عن الامين رضا كبريت(1) ورفقاء آخرين نشطوا في ذلك الحي النابض بالحياة في بيروت وجعلوا من مديرية "جبل النار" اسماً يخلد في تاريخ النضال القومي الاجتماعي.
هو من ابطال الحزب، لمع اسمه في الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي بفضل مواقفه ونشاطه اللذين عرّضاه للملاحقات والسجون ومنها، عندما اوعز وهو مدير مديرية "جبل النار" الى الرفيق حسين الشيخ(2) ان ينفذ عملية تأديب النائب العام يوسف شربل، هذا السفيه الذي توجه الى سعادة في قفص المحكمة ليلة اغتياله اعداماً بقوله:
ان الزرازير لما قام قائمها توهمت انها صارت شواهينا
فأجابه سعادة على الفور:
وفي الزرازير جبن وهي طائرة وفي البزاة شموخ وهي تحتضر.
في كتابه "ثلاث رصاصات هزت لبنان" يروي الرفيق حسين الشيخ ما يلي:
في اليوم التالي، زارني في بيتي مدير مديريتي محي الدين كريدية الذي قال لي: "ما رأيك باعدام القاضي يوسف شربل الذي طلب حكم الاعدام للزعيم؟ " سألته :"هل هذا أمر حزبي؟"، قال: "بالتأكيد".
سألني: هل تعرفه"؟
قلت: "لا"
قال: "هل تعرف أين يسكن" ؟
قلت: "لا. لا أعرف عنه شيئاً
فدلّني على مكان عمله، ومكان سكنه، ثم دخل في بعض التفاصيل، منها ان عمله في شارع فوش، وهو رئيس مجلس شورى الدولة، ومنزله يقع في شارع عبدالوهاب الانكليزي، وهذه كانت معلومات اولية للبدء بالمراقبة والاستطلاع.
بدأت مباشرة عملية المراقبة، حتى عرفت تفاصيل لا بأس بها عن تحركاته وأوقات عمله وانصرافه. ثم ابلغت مديري بكل التفاصيل كما ابديت له كامل استعدادي وتأهبي لتنفيذ تلك المهمة.
فقال الرفيق كريدية: "يجب عليك اعلامه انك انت بالتحديد، حسين الشيخ، من يريد قتله حتى لا تتم ملاحقة المسؤولين المركزيين في الحزب، وعندها تكون مسألة الاغتيال مسألة شخصية...."
فكيف تم ذلك؟
اتصلت بالمسؤول عن البناية (الناطور) وسألته عن القاضي شربل ؟ فقال: ماذا تريد منه؟ " قلت: "سأقتله؟!"
قال: وكيف ذلك؟" فبادرت مازحاً: "لو كنت سأقتله، هل كنت لاخبرك؟ طبعاً لا؟ ولكني أحتاجه لفض شكوى بين والدي وشريكه" (على اعتبار أن القاضي يبت بالدعاوى، حسب معرفتي!!).
بعدها ذهبت الى منزلي فوراً وأعلمت مدير مديريتي في الوقت نفسه أن القاضي شربل بات على علم غير مباشر بمسألة الاغتيال، وحتى بمعرفة اسمي شخصيا.
"بعد ذلك احضر لي الرفيق محي الدين مسدساً من نوع "ستار" قياس طويل، ثم قال: "اشتر رصاص عيار 9 ملم طويل للمسدس من ابراهيم قليلات، في احدى مقاهي المزرعة".
وهكذا اشتريت "علبة رصاص" للمسدس لتنفيذ المهمة.
*
تولى الرفيق محي الدين كريدية مسؤولية مدير مديرية البسطة "جبل النار" في اواخر اربعينات القرن الماضي. وبفضل نشاطه انتمى الكثيرون فقسمت المديرية الى مديريتين.
بعد استشهاد سعادة، كان الامين جبران جريج يتولى مسؤولية منفذ عام بيروت، فقسمت العاصمة الى ثلاث اقسام تولى الرفيق محي الدين احداها.
عمل نجاراً للموبيليا في راس النبع مع الرفيق احمد شوقي. اما والده فكان يملك محلا للحلويات في سوق سرسق (وسط بيروت).
يقول عنه الرفيق الراحل وفيق ناعوره وكان احد اعضاء مديرية "جبل النار" انه كان نشيطاً، مجاهراً بالتزامه الحزبي، جريئاً مقداماً، يفرض هيبة الحزب وحضوره في منطقة البسطة.
من جهته يكتب الرفيق المناضل مارون حنينة(3)- عن الرفيق محي الدين كريدية فيقول: "هذا الطود الذي غاب، اتذكره في المناسبات الحزبية. كان يحدثك عن الحزب والعقيدة باسلوب عميق وثاقب، ويستعين احياناً بقصائد للشاعر "ادونيس" الذي كان يحفظ معظم اشعاره. شخصية فذة. بطولة واعية. عنيد في الدفاع عما يراه حقاً.
*
من نضالاته:
• عن جريدة "صدى النهضة" ننقل ما نشرته في عدد من اعدادها حول قيام الرفيقين محي الدين كريدية وعبد الرحمن العطار بإلقاء قنابل على المفوضية الاميركية والقنصلية البريطانية في بيروت.
العدد 122 بتاريخ 16 أب 1946 .
" اصدرت الحكومة البلاغ التالي:
تعلن الحكومة اللبنانية ان التحريات التي قامت بها مديرية الامن العام في قضيتي القاء القنابل على المفوضية الاميركية والقنصلية البريطانية في بيروت مساء 4 اب 1946 قد اسفرت عن اكتشاف الفاعلين واعتقالهم بتاريخ 6 اب وهما محي الدين كريدية وعبد الرحمن العطار. وفي نتيجة التحقيق اعترف الموقوفان بالقاء القنابل في القضيتين المنوه بهما واحيلا الى القضاء.
"ومن ثم تضيف "صدى النهضة": لا يسعنا الا ان نلفت نظر المسؤولين الى ضرورة التعرف الى الدوافع التي حثت الشابين للاقدام على مثل هذا العمل، اهو هوس واندفاع ام شعور قوي نحو الشقيقة فلسطين.
وفي العدد نفسه نشرت "صدى النهضة": لا يزال السيدان محي الدين كريدية وعبد الرحمن محمد العطار مواصلين الاضراب عن تناول الطعام احتجاجا على توقيفهما مع السيد محمد رستم طبارة بتهمة القنابل المعروفة وهم جميعهم يتحدون اي قوة او اي مخبر سري يأتي بأي دليل يثبت ان لهما دخلا او معرفة بالحادث. ويصرّ السيدان كريدية وعطار على الاضراب عن تناول الطعام حتى تظهر براءتهما او يقضيا ضحية الوشايات التي لا تقوم على اساس من الصحة" .
وفي زاوية "اقرأ باختصار" نشرت: "صدى النهضة" في عددها 171 تاريخ29 أب 1946 الخبر الموجز التالي:"عرف ان السيدين عطار وكريدية المتهمين بالقاء القنابل على المفوضية الاميركية والقنصلية البريطانية ببيروت قد عادا عن اضرابهما عن الطعام لان المساعي مبذولة لاطلاق سراحهما وقد قدم محاميهما طلبا باخلاء السبيل".
وفي اليوم التالي (30 اب 1946) نشرت صدى النهضة عن اخلاء سبيل الرفيقين كريدية وعطار لقاء كفالة مالية بعشرة الاف ليرة عن كل منهما.
• اثناء توقيفه في سجن الرمل بعد استشهاد سعادة في تموز 1949، كتب الرفيق محي الدين على حائط القاووش: ليسقط الخائن محمد جواد، ذلك ان مدير السجن محمد جواد دبوق عُرف بفظاظته وبتعاطيه السيء مع القوميين الاجتماعيين.
• حاول رياض الصلح استمالته بالقول ان سعادة مات، وحزبه مات معه، اجابه: الحزب باقٍ، ومحي الدين كريدية باق في الحزب، وسأبقى على قسمي وولائي ولن أغيّر.
|