إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الرفيق الاديب فـؤاد سـليمـان اديب مميز من ادباء النهضة

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2025-03-29

إقرأ ايضاً


فؤاد سليمان، الاديب، الرفيق، المنتمي في اوائل الثلاثينات، الكاتب القومي الاجتماعي، معظمنا ان لم نقل جميعنا، سمع به، انما معظمنا ايضاً، يجهل الكثير عنه، وقد تكاد معرفتنا به لا تتعدى اسمه، وبعضاً من مؤلفاته.

هنا اضاءة موجزة عن فؤاد سليمان، للتعريف:

ولد في فيع الكورة عام 1911.

تلقى علومه الابتدائية في مدرسة دير البلمند ثم تخرج من كلية الفرير في طرابلس ودرس الادب العربي في المعهد الشرقي في جامعة القديس يوسف في بيروت. وتخرج بناء على اطروحة قدمها عن جبران خليل جبران، وما زالت مفقودة من مخلفاته الادبية.

انتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي في مطلع عام 1934 وكان الحزب آنذاك سرياً.

تسلم مسؤولية ناموس عمدة الاذاعة وكان عضواً بارزاً في لجنة الاذاعة والنشر التي كان من ابرز اعضائها: صلاح لبكي، روبير ايبلا ومحمد النقاش.

بالاضافة الى نشاطه الاذاعي في الحزب مارس نشاطاً ثقافياً في الندوة الثقافية المركزية الاولى.

عمل محرراً في جريدة الحزب الرسمية الاولى "النهضة". وكان يكتب في صحف عديدة في فترة الثلاثينات كتابات قومية مدافعاً عن الحق السوري في الاسكندرون وفلسطين وحاملاً على الرجعيين خدام الاجنبي المتربعين على كرسي الحكم.

ساهم في صحف اخرى اديباً وشاعراً وناقداً ومحرراً سياسياً قومياً اجتماعياً.

عرف بامضاء "تموز" وهو اسم لاله سوري قديم، وكان يوقع به مقطوعاته الادبية الاجتماعية النقدية التي افتتح بها طريقاً جديداً في الصحافة.

توفي في الرابع عشر من شهر كانون الاول عام 1951 بعد اشهر عديدة امضاها في الالم والوجع في مستشفى الجامعة الاميركية .

نعاه القوميون الاجتماعيون في جريدة "الجيل الجديد" الدمشقية:

"البارحة مات في لبنان رفيق لنا، لن نبكيه ولن نتأوه عليه، ولكن سنرصف مشاعرنا دروباً لذكراه، وكان وهو يقترب من الموت اشد ما يكون تعلقاً ببلاده ... بالجبل والسنديانة والضيعة والرفقاء، وكان وهو يلوح للموت بيديه او يلوح له الموت اعمق ما يكون احساساً بعظمة الحركة القومية الاجتماعية التي تمثل عظمة بلاده".

نعته محطة الاذاعة اللبنانية والصحف السورية في الوطن والمهجر وكتبت فيه وفي ادبه الشيء الكثير.

منحته الحكومة اللبنانية وسام المعارف من الدرجة الاولى تقديراً لجهوده في خدمة الناشئة اللبنانية.

اقامت له اللجنة الدائمة لتخليد ذكراه حفلة تذكارية في قاعة الاجتماعات العامة بالجامعة الاميركية في 10 شباط 1952 تكلم فيها عدد كبير من الادباء والشعراء.

بمناسبة الذكرى الثانية لوفاته اقامت لجنة التخليد حفلة كبرى في 21 ايلول عام 1953 في الساحة العامة في قرية فيع – الكورة مسقط رأسه، حضرها الالوف من المواطنين.

اقام الحزب السوري القومي الاجتماعي حفلة تكريمية له في بلدة فيع – الكورة في ايلول عام 1972.

تولى رئاسة تحرير مجلة "صوت المرأة" عامين كاملين. واستمر نشاطه الصحفي في جريدة : "النهار" حيث كانت تصدر مقالاته في زاوية "صباح الخير" وبتوقيع "تموز".

كتبه المطبوعة: درب القمر – اغاني تموز – تموزيات والقناديل الحمراء .

هناك العديد من مقالاته الادبية الاجتماعية المنشورة في الصحف مثل "النهضة"، "الكشوف"، "المعرض" "صوت المرأة"، "كل شيء" و"النهار" ما تزال منتظرة من ينفض عنها غبار الاهـمال وينشرها.

*

في 12/12/2001 عممت عمدة الثقافة والفنون الجميلة النص التالي كان اعده الرفيق لؤي زيتوني يتناول فيه "تحليلاً لأدب الاديب القومي الراحل الرفيق فؤاد سليمان"، وقد اقتطفت العمدة من النص الجزء التالي الذي نعيد نشره، على أن نورد لاحقاً أهم ما جاء عن سيرة الرفيق الاديب، في الرسالة الجامعية (ماجستير) التي اعدها الرفيق سيمون الديري عام 1971 وصدرت عن "فجر النهضة" عام 2002 .

كتب الرفيق لؤي زيتوني معرّفاً عن ادب الرفيق الاديب فؤاد سليمان، التالي:

تنبع اهمية كتابات فؤاد سليمان من كونها على اتصال مباشر في كثير من الاحيان بالزعيم وبنظرته الجديدة الى الحياة والكون والفن، فكانت تتلبس بشكل دائم المنطق الصراعي موجدة موصل الاستمرار الفلسفي بين السوري القديم والسوري القومي الاجتماعي الجديد، مبرزة التعاليم القومية الاجتماعية على الدوام.

فكان توقه المستمر الى الوحدة القومية التي تحوّلنا من ضعفاء الى اقوياء، فهو يقول: "يا صديقي أنت ضعيف وأنا ضعيف، فاسند ضعفك الى ضعفي لنحارب فلا نموت.. شدّ جناحيك يا صديقي لأشدد جناحي، واشف من جراحك لأشفي من جراحي.

أنا الامل الاخضر يا صديقي، نحن الشباب... نحن الزوبعة الحمراء التي تهصر الاغصان".

ولذلك رأى بأن أول خطر يواجه الأمة ووحدتها ومصيرها هو العدو اليهودي المتربص بنا الشر بشكل متواصل، ومن اجل هذا يسأل: "أما تزال الارض تضج تحت أقدام الجبابرة من اسرائيل، يحملون الدم والموت والخراب؟؟ أو ما يزال صوت يهوه، يا رب، سنة وشريعة الأرض".

فصراعنا ضدهم صراع وجود، فإما أن يصرعونا وإما أن ننتصر عليهم ونأخذ الحرية لأمتنا. من هنا كان تشديده الدائم على التضحية والإستشهاد في سبيل حياة الامة وحريتها وكذلك رقيها.

فكان طلبه من نساء أمتنا، وهنَّ الاساس في التربية والتوجيه، أن يحضّوا ابناءهنّ وأزواجهنّ على الشهادة من أجل حياة شعبهم قائلين: "موتوا يا ابناءنا وأزواجنا لتفرح بكم الحياة".

وذلك لأنه يؤكد على "أن باب الدم، أوسع أبواب الخلود.. ومن يمت في العاصفة يكتب التاريخ عاصفة".

فأرضنا لا تتحرر ولا تتوحد إلا من خلال الدماء الطاهرة التي اثبت التاريخ أنها الطريق الامثل لحرية الامم ولا سيّما أمتنا من أيام صور الكنعانية وايليسا حتى يومنا هذا.

لذا فهو يطلب تواصل هذه الطريق قائلاً: "صلّ لربك.. أن تفرح دائماً أرض بلادك وتخصب على دماء الشهداء!". ونرى بوضوح هنا أن الشهادة طريق للحياة وليس للفناء لدى فؤاد سليمان، فهي دليل أكيد على نهوض الأمة وإيمان راسخ بانتصارها.

لهذا يصرخ سليمان من مأساة شعبه في فلسطين: "من آلامنا الطويلة، من جراحاتنا الدامية، من عذابنا واضطهادنا، من تضحياتنا التي لا تعرف حداً، من بطولات شبابنا الجديد سنخرج نحن لفلسطين، ولكل حبة تراب تضيع من أرضنا.. ولن تضيع يومذاك حبة تراب واحدة في هذه الارض، وسنزرع التراب هنا بطولة فلا تنبت ارضنا غير البطولات. ونقف في وجه التاريخ مرة أخيرة، ندقّ التاريخ على رأسه لنكتبه كما نشاء وتشاء الكرامات".

من هنا كان كلامه الدائم عن خط النضال السوري ضد الايدي الجبارة العاتية للتنين اليهودي، المتجلي في احقاب متعددة من تاريخ الامة، والذي تتجند فيه كل عناصر الأمة وجميع افرادها. فيقول: "هو الصراع، بين كنعان واسرائيل، يدفع دليلة المرأة الكنعانية الى وادي سورق (فلسطين) لتشد قرني الجبار الاسرائيلي (شمشمون).. وتكسر من حدته.. وخرجت كبيرة منتصرة رائعة".

وعلى هذا الاساس يتكلم سليمان بلسان الامة السورية بأسرها، وبلسان نهضتنا الحية معلناً: " اعداؤنا نحن نعرفهم.. ولن يفلت واحد منهم من قبضة التاريخ الذي سنكتبه نحن.. هم اقوياء، ولكننا سنجعلهم خزفاً وفخّاراً في موقدة التاريخ، ولن يبقى منهم غير الرماد.. حتى رمادهم سنذرّيه في الريح..". وبناء على ذلك فهو مطمئن للمستقبل لأنه سيكون مشرقاً بالنسبة لأمتنا ما دام حاضرنا مليئاً بالبطولات والتضحيات، ويوضح ذلك بقوله:

"للافعى السمراء هذا الربيع وحده، وللشحارير والاطياب والورود كل ربيع بعده".

وهكذا ففؤاد سـليمان يناجي اجيال النصر الآتي معتبراً أنها ازهار تدل بتفتحها أنه قد حان زمان الخير والمحبة، ويحضّ هذه الاجيال على التحرك والخروج من التربة بغية الإشارة الى بدء الانتصار الحقيقي للأمة، فيقول: "اطلعي أيتها الشقائق الحمراء الحلوة" لتعود الحياة من جديد الى اروع مما كانت عليه.

لذلك فإن ما علقه من رجاء وأمل على الحزب السوري القومي الاجتماعي يتضح بشكل جلي لا ريب فيه في آخر ما كتب.

حيث يبعث رسالته الى القوميين الاجتماعيين بأن لا يكلوا ابداً عن الخوض في ساحة الجهاد، فهو لا يريد لقنديل النهضة الاحمر أن ينطفئ في وجه الليل العاتي بعد انطفاء جميع الاضواء على الارض، وذلك في إشـارة واضحة الى الزوبعة التي تنير بيته – أمته، لأنها الأمل الوحيد والمضمون الذي سيتحوّل الى شمس تولّد النهار وتكسر الليل الطويل، قائلاً:

"لا تنطفئ، لا تنطفئ، يا قنديل بيتنا الصغير!

يا الذي انطفأت النجوم ولم ينطفئ..

حكاية الليل الطويل، أنت يا قنديلنا الاحمر الصغير".

إذا فلتشـرق يا سـليمان – الزوبعة الحمراء هذه، لتنهض الامة والبلد الذي "فيه خير وفيه حق وفيه جمال"، لا بل فيه كل خير وكل حق وكل جمال".

*

إلى روح الرفيق الصديق سيمون الديري، أرفع ما كنت نشرته بتاريخ 16/3/2010 عن عمدة شؤون عبر الحدود بعنوان: "فؤاد سليمان أديب مميز من أدباء النهضة"، نقلاً عن

آمل من الرفيق الصديق نبوغ نصر أن يكتب عن الرفيق الأديب سيمون الديري، وقد عرفه جيداً في ستينات القرن الماضي عندما نشط الرفيق نبوغ في الوسط الطالبي وتولى مسؤوليات وكان له حضوره اللافت على مدى سنوات غير قليلة.

وأدعوه أيضاً إلى أن يكتب عن الكثير مما يعرف عن والده الرفيق المناضل إلياس نصر، وهو من أوائل الرفقاء في بلدة بتعبورة، وعن رفقاء آخرين منهم الدكتور حسيب بربر.

وآمل أيضاً من حضرة الأمين جورج ضاهر، ومن الرفيق عوني الديري (شقيق الرفيق سيمون) أن يكتبا ما يفيد سيرة الرفيق الراحل سيمون الديري.

*

فــؤاد ســلـيـمـان أديب مميز من أدباء النهضة

تحت هذا العنوان قدم الرفيق الكاتب والأديب سيمون الديري رسالته الجامعية، والتي صدرت في كتاب عام 2002 عن "فجر النهضة".

سـيرتـه

مولده: هو فؤاد بن الشيخ خليل، بن موسى، بن جرجس سليمان الحصني. ولد في فيع، قرية من قرى الكورة الخضراء الأربعين، تقع على تلة بيضاء التربة، مشرفة من الشمال والشرق على سهل فسيح من الزيتون وأحراج السنديان والكروم، ومن الغرب والجنوب على شواطئ شكا وأنفة، تكوّن مع بترومين وددّه وبدّبا وعفصديق وقلحات القسم الأسفل من الكورة وتعتبر مع قلحات مدخلاً لدير البلمند.

صادف مولده عام 1911 في الصيف بعد الحصاد قبل عيد مارسمعان الواقع في أول أيلول كما تقول أمه العجوز، مرجحة مولده في يوم من شهر تموز، أبصر النور في الغرفة الشرقية من البيت القرميدي الريفي المزروع على "بيادر" فيع حيث يسمع الجرس المترنّح في كنيسة مار سمعان المجاورة.

هو صغير العائلة المؤلفة من عفيفة واديل وعفيف وموسى وفؤاد. كان جدّه الشيخ موسى جرجس سليمان شيخ صلح مدة طويلة في بلدته فيع، وقد نزح إليها من بلدة الحصن في الشام، لذلك تعرف العائلة باسم آخر هو عائلة الشيخ خليل سليمان الحصني أو عائلة خليل الشيخ. كان أبوه الشيخ خليل سليمان شيخ صلح في القرية، بفرمان من الدولة العثمانية أصبح مندوبها الرسمي. وكان خيّالاً فارساً حوّاداً. هاجر إلى المكسيك طلباً للرزق، واستغرقت هجرته الأولى ثلاث سنوات، وبعد عودته مكث عشر سنوات بنى خلالها بيتاً وأولد عفيف وموسى وفؤاد. وكانت هجرته الثانية قبيل الحرب العالمية الأولى، طالت قرابة خمسة وثلاثين عاماً، يمد خلالها العائلة بالمال.

وإلى هجرته يشير فؤاد في "درب القمر": "أخذه البحر منا في الفترة العنيفة وفي العنفوان الأشد، وأعاده البحر ذات يوم على غير ما أخذه منا" ولمّا عاد كان فؤاد يزاول التعليم وحرفة الأدب (1).

أما أمه فهي كريمة نقولا الحايك من بشمزين. ولدت عام 1874 وماتت في 18 حزيران 1971. تعهدت الأولاد بحنان بعد سفر ربّ الأسرة.

من هذين الأبوين، أب يكافح في سبيل لقمة شريفة فيهاجر، وأم تبذل النفس في تعهد أبنائها بتربية صالحة وحنان جمع عطف الأبوة والأمومة، ولد سليمان يكرج فوق تربة فيع فيسري عبيرها في دمه وروحه.

طفولته: يقول فؤاد سليمان عن طفولته: "ما زلت حتى اليوم ألعب في جنباتها مع أتراب مثلي منذ عشرين سنة، وأمرّغ وجهي بترابها وأتمدد على أعشابها وأختبئ في معابرها ومنعطفاتها. أراها تتأبط كتابها ورغيفها. مملّعة القميص، مبعثرة الشعر، مخدّشة، مجرّحة، سفيهة، وقحة. أنا أراها الآن في هذه الليلة الباردة تحاول أن تنتزع القلم مني لتجلسني بجانب أمي قرب الموقـد الدافئ، أقفقف على النار، رأسـي إلى كتف أمي، أصغي بقلبي وعيني إلى حكايات كانون الجميلة".

عاش طفولته قبل الحرب وبعدها، وعانى أهوالها ونكباتها من جوع وتشـرّد وبؤس. كانت طفولته مضطربة وسط الظروف الاجتماعية التي أوجعت طفولته ثم ألهبت حنينه إليها من بعد. ولم تكن طفولته مميزة عن طفولة أبناء الريف الملتصقين بخيرات الأرض ومواد الهجرة. ونشـأ فؤاد شـبه يتيم في غياب أبيه تتعهده أمّه. وكانت طفولته في فيع ريفيـة خالصة، يكرج على بيادر الضيعة ويسـرح بين الكروم مرمياً في حضن الطبيعـة والأرض يرتوي من ينابيعهـا ويشـنّف أذنيه بأصوات بلابلها، تتكيف حياتـه مع الفصول مواقد دافئة وحكايات سـمر في كوانين ولعباً ومرحاً و"تشـيطناً" طفولياً في الربيع والصيف، يلسـعه البرد وتدفئه الشـمـس وترتوي عينه من جمالات الحياة القروية، حياة الفلاحين والرعاة.

وتنازعت النشـأة الريفية والظروف الاجتماعية في وجدانـه الطفولي، في كلامه عن جوع الحرب صدى عذابه وعذاب من نشأ معهم في تلك المرحلة:

"جوع.. أطعمنا في لبنان، مرة في التاريخ، لحم الجيف المنتنة في القبور، من القبور نبشـناها لنشـبع، وأطعمنا لحوم أطفالنا، نذبحهم لنأكل، وأكلنا الديدان من جيف البغال الميتة، أكلناها يومذاك، أنا ما ذكرته عهداً إلا وتنشـف دمائي في عروقي".

دروسـه:

كانت مدرسـة الضيعة الخاصة، وصاحبها إبراهيم شـاهين، مدرسته الأولى، وانتقل بعدها إلى مدرسـة دير البلمند عام 1921 – 1922 أيام المطران الكسـندر جحا وكان من أسـاتذته فيها البروفسـور نقولا شـاهين(2) وأخوه قسـطنطين وأسـتاذ روسـي.

عاد من مدرسـة دير البلمند إلى مدرسـة الصفـا بين فيع وقلحات. مدرسـة أسـسـها الشـاعر نعمان نصر صاحب مجموعـة "شـقائق النعمان" يعاونه الشـاعر سـليمان نصر. وكان من أسـاتذة فؤاد سـليمان في الصفا بالإضافة إلى نعمان نصر وسـليمان الأسـتاذ نسـيم نصر. يقول جبران جريج(3): كان الصف مؤلفاً من: جبران جريج، ميشـال أسـعد، أيوب ليّوس، جرجي إبراهيم عبد الله، عبد الله قبرصي، فؤاد سـليمان. وقضى فؤاد في مدرسـة الصفا سـنتين: 1923 – 1925 وفي الفصل الدراسـي الأخير أشـعرنا الأسـتاذ سليمان نصر أن مدرسـة "الصفا" سـتغلق أبوابها نهائياً. وفي الأسـبوع الأخير علمنا أنّ الأسـتاذين سـليمان ونسيم نصر تعاقدا مع المدرسـة الأرثوذكسـية للصبيان في طرابلـس فاتفقنا أن ننتقل معهما. ويوم انتقل فؤاد إلى طرابلس كان قد حصّل دروسـه الابتدائية في مدرسـة الضيعة والبلمند والصفا. مكث فؤاد سليمان في مدرسة الصبيان الأرثوذكسية سنة 1925 – 1926" وقد اعتبرناها سنة تمهيد وتركيز للصف الرابع في معهد الفرير "كما يقول جبران جريج". وكان أستاذه للغة العربية نسيم نصر.

انتقل بعدها إلى معهد الفرير في بيروت. وظل في المعهد من عام 1927 إلى 1931 ليتخرّج منه عام 1932 حاملاً شهادة البكالوريا، وقد درّسه الأدب العربي خلال السنة الأخيرة بطرس البستاني.

وتابع دروسه في معهد الآداب الشرقية سنة 1943 فنال شهادة الدبلوم بناءً عل بحث قدّمه عن جبران.

شخصية فؤاد التلميذ: تفتح ميلـه الأدبي باكراً، وفي ذلك يقول عبد الله قبرصي: "درس بعقلية الأديب، الشـاعر، العصبي. لم تكن تهمّه الرياضيات ولا باقي المواد. كان يدرسـها لينجح في الامتحانات بلا رغبة وبلا جلد. أما الأدب فقد اسـتهواه منذ أبعد سـني طفولته. وعلى شـرفة بيتهم مثلت مسـرحية "الآباء والبنون" لنعيمه، وكان من أبطالها فؤاد رغم أنه لم يكن قد تجاوز الثانية عشـرة من عمره. كان يمثل دور فتاة "ولم تكن حياة فؤاد المدرسـية لامعة إلا في الإنشـاء العربي والخطابة. كان دائماً في الطليعة".

ويزكي قول الأسـتاذ قبرصي زميل آخر لفؤاد هو جبران جريج فيقول: "كان يدرس الرياضيات لأنها واجب". أما أسـتاذه نسـيم نصر فيكشـف عن ذكائه وقلة دأبه واجتهاده: "عرفته مبكراً في نباهته غير ملحّ على الشـدة في التحصيل، فكأنه كان يريد أن يكتفي بما يتعلمه من أصول تسـاعده لجعل البيان عن معرفته وافياً بأدائها صحيحاً. كان رفاقه يدرسـون دائبين ولكن هو على قلّة ما يدرس متنبّه الرأي مسـتيقظ التفكير". ويعلل الأسـتاذ نسـيم نصر سـبب تقصيره: "السـلحفاة لم تسـبق الأرنب إلا مرة واحدة، وذلك في خيال لافونتين. وهو يقصد أن صاحب الموهبة هو السـبّاق مهما حصّل أصحاب الشـهادات".

في معترك الحياة

حبّه – زواجه: باكراً جداً أحبّ فؤاد سـليمان وخفق قلبـه على درب القمر في فيع. أحب التي أصبحت فيما بعد رفيقـة حياتـه جوزفين خوري ابنة عمته وابنة الأكسـرخوس غفرائيل جبور كاهن فيع آنذاك. كان حبّه ريفياً شـاعرياً فمنحـه روحه وأعصابه وحافظ على براءته وكتب فيه القصائد والمقطعات. يقول جبران جريج: "في السـنوات الثلاث 1927 – 1930 (بين السـادسـة عشـر من عمره والعشـرين)، وهي بعض من الفترة التي عشـق فيها والتي كانت بالنسـبة لنا سـنوات مراهقة، ما تحدثنا يوماً بموضوع الجنـس، مع أننا كنا نتبادل المعلومات الكثيرة عن غزلياتنا الأفلاطونية العذرية، وما كان للجنـس أية علاقة بالغزل".

وانتهى حبّـه الريفي إلى الزواج، ولكن التقاليـد الطقوسـيّة وقفـت حاجزاً بادئ الأمر دون إتمام زواجه. تقول السـيدة زوجته:

"مُنعنا من الزواج لأن تقاليد الطائفة الارثوذكسـية تقتضي بأن لا يتزوج الإنسـان من ابنة عمته". ومن جراء ذلك وعناده سـجّل فؤاد سـليمان موقفاً بين الانتحار والشـجاعة. ورد على لسـان عبد قبرصي رفيق ذكرياته: "الجميع كانوا ينظرون إلى الحبيبين مجالاً لإنشـاء عائلة طيبة منسـجمة، ولكن الجميع لا يرضون عن هذا الزواج لأنه خروج عن قواعد الدين". كانت ضربة أولى صوّبها فؤاد سـليمان إلى الذين أرادوا أن يضحّوا به وبحبيبته عن حسـن نية أنه أطلق يوماً من الأيام النار على جنبه من مسـدس صغير، لقد هزَّ بهذه المحاولة قلوب القرية، فتراخت الأعصاب ولانت الإرادات وتظاهر الكل بالقبول، وصفت الدنيا أياماً للحبيبين.

قدر فؤاد سـليمان بموقفه المغامر أن يحرر ذاته فتزوج ابنة عمته جوزفين، من فتيات الكورة الراقيات، خريجة مدارس طرابلـس الأرثوذكسـية، وتم قرانهما في أيار عام 1941 وفؤاد في الثلاثين.

فؤاد الزوج والأب: اختصرت زوجته حياتهما قائلة: "كان زوجاً مثالياً يحب الحياة العائلية، وكان بيتنا ملتقى أصدقاء وأدباء كثر". وكلمتها بعد دفنه، والناس يحاولون العودة بها إلى المنزل، تعبّر عن أواصر الألفة التي كانت تجمعهما: إلى أين أعود؟ إلى البيت؟ لقد كان فؤاد بيتي.

أنجب ثلاثة: ربيع(5)، وليد(6)، وسـام(7). ويوم توفي كان ربيع يبلغ من العمر تسـع سـنوات ووليد ثماني سـنوات ووسـام خمـس سـنوات.

الرفيق فؤاد سليمان وزوجته واطفاله الثلاثة مع احد اقاربه

غمرهم وهو حيّ بحنان، وأصر على أن يرتووا من طفولتهم.

وفي سـجلّ الولادة البيتي كلمة بخط يده موجهة إلى ابنه ربيع حين ولادته عام 1942: "عشـت ربيعاً ناضراً يا بنيّ، لقلبي وقلب أمك التي أحبهـا كثيراً، ولهـذا البيت الذي يسـتقبلك بلهفة وحنان ولهذه الدنيا كلهـا. ها شـبابي وشـباب أمك المخلصة يعيشـان في شـبابك أنت ولأيامك كلها ولسـعادتك، وها أنت طيب من حب حملته أنا وأمك في قلبينا زمنـاً طويلاً فكنت الثمرة اليانعة والأمل الطري والربيع الحلو الإلهي. لتحرسـك قلوبنـا يا بني وليحرسـك الله.

وفي بيته مجموعة من الصور الفوتوغرافية تبرزه يلعب مع أولاده، وفي حضن الطبيعة يعربشون على ظهره فيحني رأسه لهم وهو الذي قال مرة لصديقه الأديب الياس زخريا: "نحني رأسنا لأولادنا في صغرهم كي يعرفوا معنى شموخ الرأس عندما يكبرون".

لقد حُرم فؤاد وهو صغير من عطف الأب المهاجر فمال لأن يعوّض لأولاده ما حرمه، وعرف الاستقرار النسبي بعد زواجه. يقول جبران جريج: "انتقل إلى منزل جديد في بيروت. كان مرتاحاً نفسياً. كان يحدثني عن أفكار تزدحم في مخيلته. وبدأ يفكر في توسيع دائرة نشاطه الأدبي في التحرير".

شـخصيته: كان نحيف البنية، متوسـط القامة، كسـتنائي الشـعر ضارباً إلى صهب، ووجهه بلون شـعره، عيناه صغيرتان تقدحان حياة، وجبهته عالية، أنفه ميّـال إلى الطول قليلاً، ووجهه الضامر يوحي بالعصبية، والطيبة، وعليه شـحوب. يترك شـعره منفوشـاً، وربطة عنقه مرخية إحمالاً. متحرر من قيود اللباس فلم يتأنّق، ويرتّب هندامه على بسـاطة لا تخلو من الإهمال. كان عصبي المزاج "ذا حسـاسـية دقيقة وعصبية ثائرة، وقد عرف فؤاد عصبياً إلى درجة الكفر وحسـاسـاً إلى درجة الإغراب. عاش لعاطفتـه على حسـاب أعصابـه".

وكان إلى جانب عصبيته طيب القلب، وديعاً قروي الطباع، سـريع الانتفاض، سـريع الهدوء. وفي حسـن طويته يقول الشـاعر خليل حاوي أنه تخاصم مع فؤاد ومضى زمن، واتفـق أن رأى خليـل حاوي يمـر في الشـارع مشـيحاً بوجهه عنه، فاقترب منه فؤاد وقال: "بعدك زعلان يا خليل؟ لا شـيء يسـتحق الزعل".

وكانت أخلاقه مرحة أحياناً فإذا ضحك، ضحك من قلبه، وإذا تطرّف جاءت نكتته لاذعة. يقول جبران جريج: "سأل الأستاذ في الصف قال: "هل يعرف أحد منكم شخصاً كان يتقاضى على كل كلمة يقولها أو يكتبها أكثر ممّا كان يتقاضى عليها الكاتب الفرنسي الذائع الصيت ألكسندر ديماس؟ "فكان الجواب من فؤاد: "نعم. نائبنا الكريم في الكورة، فهو لا يفوه بأية كلمة ويقبض ما يقبض".

ويروي ألفرد خوري عن فؤاد السـاخر: "كنت أجلـس وإياه في الليوان في بيتـه. وقف فجأة. رأى جبر جوهر(8) وهو يشـبه فؤاد نحافة وقامة. قال لي ضاحكاً: "انظر إلى الشـحص الذي يمر هناك، هو إما أنا وإما جبـر جوهر".

وأخبرني عبد الله قبرصي عن حادثة يعرفها أهل فيع " تبنى أخصام آل سـليمان فتىً شـرسـاً للاعتداء عليهـم. يوم أحد حضر ثملاً إلى البيادر وراح يشـتم آل سـليمان. سـمعه فؤاد، نزل بجرأة نادرة لمجابهته أعزلاً. الأول بطّاش مسـلّح، والثاني شـاعر ما غازل الرصاص ولا البارودة رغم أنه أول من أهداني مسـدسـاً في حياتي. واسـتطاع اللسـان والقلب الشـجاع أن يقهر السـلاح الثمل. ألقى الفتى سـلاحه وعانق فؤاداً واعتـذر".

وقد جمع إلى الشـجاعة الوفاء، وكان عظيم الحفاظ على الجميل، حميم الصداقة طيب المعشـر، يقول جبران جريج أنه كان يشـجع زملاءه على إقامة نصب تذكاري لأسـتاذه نعمان نصر.

روى لي نسـيم نصر، أسـتاذه، أنه زاره حين مرضه. قام بنفسـه يهيّئ القهوة. "أبيت عليه أن يفعل خوفاً على صحته، قال لي بالحرف: "إن هذا العمل الواجب أنجع في نفسـي من تناول جرعة الدواء".

وفـوق ما في أخلاقه من نبل كان واثقاً من نفسـه حتى العنجهيـة، عنجهيـة وديعـة. يقول جبران حايك(9):

"كتبـت مقالاً في "النهار" أعجب به فؤاد. قال لي: "بهنيـك ما حدا بيقدر يكتب هالمقـال إلا فؤاد سـليمان". كان ذلك سـنة 1949.

كان يكره التعصب الطائفي على ممارسـة الفرائض، وعلى صادق إيمانه المسـيحي. يقول شـقيقه الدكتور موسـى سـليمان في مقدمة "أغاني تموز": "كنت برعماً لم تتفتـح أكمامك بعد عندما كنا نجتمع في ليالينـا الباردة، حول مواقد النار، في القرية الحبيبة، وحولك العشـرات وأنت بينهم عاصفة ثائرة، باليمين إنجيل النصارى، وباليسـار قرآن المسـلمين".

وتنم مواطنيته عن ضمير حيّ يحمل آلام الشـعب ويدافع عنـه بجرأة. يروي أهل فيع أن نائب الكورة عام 1947 ميشـال مفرّج دعا إلى اجتماع في اوتيل النورماندي يواجه فيه المشـتغلين في حقل السـياسـة الكورانية. كان فؤاد سـليمان حاضراً. أزمة العطـش في أذهان الناس. وقف مجابهـاً وقال: "إن الحمير في الجنوب تشـرب وأبناء الكورة عطاش إلى الماء".

أما في حياته اليومية "فكان يميل إلى المطالعة هواية رئيسـية، ويصيد العصافير، ويهمل صحته بالإكثار من شـرب القهوة والدخان، ودخانه المفضل "يانانجه"، يكتب على قفا علبه بعض مقالاته في المقهى وفي الترامواي وفي السـيارة".

*

1- كان لهذه الغربة الطويلة أثر كبير على نشأة الطفل فؤاد. فقامت بينه وبين والده – كما يقول الدكتور موسى شقيقه – مراسلات عن الهجرة ووجوب رجوع المهاجرين إلى الأمة. وفي تفجعه على خراب القرية بسبب هجرة أبنائها بعض أثر لذلك كما سنرى.

2- المسؤول عن الرصد الجوي يوم إعداد الأطروحة.

3- مخطوطته: "فؤاد سليمان رفيق صبا رفيق صراع" كتبها وهو سجين إثر المحاولة الانقلابية القومية الاجتماعية. بدأها في 18/10/1967 وانهاها في 10 آذار 1968.

4- تسمى في فيع درب العويني. يقع بيت حبيبته فوقها. وعنه حكى في كتابه "درب القمر".

5- طبيب في الجامعة الأميركية. (حالياً في شيكاغو) (وافته المنيّة منذ اشهر. ل. ن.)

6- ماجستير في الاقتصاد يعمل في حقل البترول.

7- ماجستير في العلوم السياسية. كان مدرّساً في الكلية الثانوية من الجامعة الأميركية، ويقيم الآن في لندن.

8- صحافي طرابلسي كان صاحب جريدة "الرائد".

9- صاحب جريدة "لسان الحال": من حديث في كانون الثاني 1971.

*

الـجـمـال فـي الأدب

نـصّ مـسـتـعـادٌ لـفـؤاد سـلـيـمـان (1912 - 2012) فـي مـئـويـتـه(*)

عن "البناء" تاريخ 29/08/2012.

كانت "البناء" أول مطبوعة تشير، منذ أشهر، إلى مئوية فؤاد سليمان في لفتة تكريم. فالأديب الفقيد سليمان قيمة أدبية وفكرية كبرى فقدها الإبداع باكراً وخسرها، في الطليعة، الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكان منتظراً لهذه القيمة أن يكتمل سطوعها ووهجها، لكنها انطفأت في أوج العطاء. إلاّ أن الكنوز لا توارى، فأصالتها تجعلها شريكة في صنع الزمن.

"البناء" التي تتذكّر فؤاد سليمان في "تموزيات" و"درب القمر" و"أغاني تموز"، نشرت مقالاً، نُشر في مجلة "المعرض"، العدد 1096 _ آذار 1936، وهو ينمّ عن الحسّ الأدبي والمستوى النقديّ الراقي اللذين جُبل بهما أديبنا الراحل، وهنا نص المقال.

لا مشاحة في أن الفن، شعراً كان أم تصويراً أم موسيقى، إذا لم يستند إلى قواعد الجمال الأصلية، كان فناً بارداً، باهتاً لا روح فيه ولا حياة.

ورجال الفن الحقيقيون هم الذين ينشدون في فنّهم، الجمال المطلق، الجمال في المبنى وفي المعنى، الجمال في العاطفة وفي الخيال.

والفن الذي لا يغبّ من معين الجمال يظل حيث ولد، فلا يخطو خطوة واحدة إلى الأمام، هذا إذا لم تجرِ عليه سنّة الانقراض التي لا تحترم إلاّ الجميل ولا تبقي إلاّ على الخالد والحق.

وليس الجمال في تقليد الطبيعة فالتقليد كان ولا يزال عقيماً لا جمال فيه ولا إبداع.

ويلٌ لعين لا ترى في البحر إلاّ أمواجاً زرقاء تندفع ذات اليمين وذات اليسار.

ويلٌ لعين لا ترى في الجبل إلاّ تلة من التراب ترتفع إلى الفضاء.

ويلٌ لعين لا ترى في الدمعة إلاّ لؤلؤاً مستمطراً ولا ترى في العيون إلا نرجساً نعساناً، وفي الخدود إلاّ وروداً حمراء، وفي الصدر إلاّ رخاماً ناصعاً. إنها من تراب هذا العين.

لا، ليس الجمال بلمحة العيون، ولا ببريق الثغور ولا هيف القدود ولا لؤلؤ الثنايا وراء عقيق الشفاه ولكنه شعاع علوي يخلعه الخيال الجبار على الأشياء فيكسبها روعة وسحراً وفتنة.

ومن خصائص الأدب ـ وهو من الفنون الجميلة ـ أن ينشد دائماً وأبداً الجمال المطلق، ومن خصائص الأديب ـ وهو فنان ـ أن يسير دائماً نحو الإبداع فيخلع على أدبه وشاحاً من الروعة والفتنة.

وما هو الجمال في الأدب؟

هو أن نتفهّم الطبيعة بخيالنا ونعطي صورة حيّة جليلة لمن يقرأنا منشدين أو يسمعنا عازفين.

الجمال هو أن يأتي الشاعر في قصيدته بهيبة الجبل، وطمأنينة السهل وتمتمة الجدول وزمجرة العاصفة وأن يسكب الرسّام في رسومه حلاوة الأمل ومرارة اليأس وطهارة العذراء، وفسق المومس. الجمال هو ما نحسّ به في أعماقنا لا ما نراه بأعيننا.

هو تلك السكرة التي تخدّر أعصاب الروح والجسد وتغرقنا في عالم كله أحلام ورؤى وأظلال.

الجمال هو تلك الرعشة التي تستولي على جميع حواسنا فتحملنا إلى عالم سحريّ ونحن ننظر إلى وجه جميل، أو نقرأ قصيدة أو نشاهد رسماً أو نصغي لإنشاد قطعة من الموسيقى.

هذا هو الجمال في الأدب. فما هو نصيب آدابنا من الجمال؟

لا أغالي إذا قلت بكل جرأة إن الأدب السوري وأعني بالأدب السوري، الأدب الذي تغذّى من هواء البلاد السورية، واستقى من ينابيعها ـ لا أغالي إذا قلت إنه جاء من جميع نواحيه أدباً ناقصاً، بارداً، بشعاً.

هذه آثارنا الأدبية، هل كشفت لنا عن ناحية واحدة من نواحي الحياة؟ هل سارت نحو الإبداع فتراً واحداً؟ هل استنبطت فكرة جديدة لعالم جديد؟ هل كشفت لنا عن الخيال السوري، هذا الخيال العبقري، بقصيدة أو كتاب أو رواية؟

هل تمكّن الأدب السوري أن يجعلنا نحسّ بأرواحنا لا أن نرى بأعيننا؟ وبالخلاصة هل تمكّن بجميع ما فيه من أراجيز، ومقامات ومعاجم، وقصائد، أن يغرقنا في سكرة أو في شبه سكرة؟

أنا أقول لا، فهل هنالك من يقول نعم؟

نحن فقراء فلماذا نخجل من الإقرار.

إن أكثر، إن لم أقل جميع ما تملكه خزانة الأدب السوري، هو أكياس من الخرنوب الأسود لا يأكله الجائع إلا ليقع بالتخمة أو ليصاب بعسر الهضم.

ولم تنفرد آدابنا بالبشاعة فحسب، بل تفرّدت أيضاً بالكذب والتقليد، والكذب والتقليد ـ وهما توأمان ـ سم قتّال في شرايين الأدب.

لقد كنا نكذب على نفوسنا وعلى الناس والناس من حولنا يطبّلون ويزمّرون وينفخون بأبواق الإعجاب ـ ولا يزال بعضنا يكذب إلى اليوم ـ ولا تزال الأبواق تصوّت لهم ـ ولكنها أبواق من «تنك» على ما يعلم العارفون.

لقد أغمضنا عيوننا عن كل ما حولنا من جمال: في الجبل وفي الوادي، في الشاطئ وفي السهل، في الفجر وفي الليل، في الغابة وفي البحر.

وسددنا آذاننا عن كل ما حولنا من موسيقى: في ولولة العاصفة وتمتمة النسيم، في ثغاء الحمل وترنيمة الصيّاد، فرحنا نستنطق الأموات وقد عاشوا لزمان غير زماننا ونقتات ونقيت بخبز لم يعجن في معاجننا، أحببنا ولكن بقلوب غير قلوبنا، وبكينا ولكن بعيون غير عيوننا، لقد كان امرؤ القيس جميلاً صادقاً، فهو يمثل حياته ومحيطه، ويعبّر عن خوالج قلبه أما نحن، نحن النافخون بأبواق ليست لنا، الحاملون مصابيح استعرنا زيتها من معاصر غيرنا، أما نحن الكاذبون فما الذي يدعونا إلى ذلك؟

قل هو التقليد البشع، قل هو الكذب والكذب كان ولا يزال مصيبة بعض شعرائنا وكتّابنا. ومن خلال هذا الجو الملبّد بالتقليد والكذب والبشاعة طلع فجر جديد لعالم جديد يحمل إلى أبناء الأدب رسالة الجمال والإبداع والابتكار.

وأرسل الله لنا خبزاً كنّا نجوع إليه، وخمرة كنا نعطش لوحيها ومزماراً فضياً أيقظت نغماته كل ما في أعماقنا من حنين ولهفة وجمال وحقيقة، فشعرنا بروح جديدة متمرّدة تغلغل في آدابنا لتطهّرنا من كل ما علق بها من أدران وأوساخ ودمامل، وسمعنا أصواتاً سحرية تأتي إلينا من وراء البحر تحمل إلينا أعراف جبالنا وطمأنينة سهولنا وأحلام شواطئنا وهمس أزهارنا وولولة عواصفنا وأغاني أعراسنا وصراخ أيتامنا وعويل أراملنا.

وكانت تلك الأصوات، أصوات جبران والنعيمة وأيوب وأبي ماضي والقروي ومعلوف وفرحات.

لقد سمعنا الحياة بكل ما فيها من جمال وخير وحكمة وطهارة بكل ما فيها من يأس وقنوط تتكلم بألسنتهم، بينما كنا نحن هنا نسفح عواطفنا على أقدام أمير ونهرق دماء وجوهنا أمام وزير خطير، ونسخّر قلوبنا وأقوالنا لمدح مطران أو وال ونحرق بخور الإكبار والإعجاب أمام عرش حاكم أو نعش زعيم. كأن هؤلاء الشعراء يبنون الهيكل المقدس، في جوانب العالم الجديد بحجارة مقتلعة من مقالع حنانهم وشوقهم ويزيّنون جدرانه برسوم مصبوغة بدماء قلوبهم، يخلعون على قببه ومذابحه ألواناً سحرية من النور والجمال والإبداع يسجدون بشغف وإيمان أمام آلهة الجمال والفن، ينشدون أعمق صلاة تختلج بها عواطف بشري.

هؤلاء عرفوا أن ليس كل ما سُطّر بمداد على قرطاس أدباً ولا كل من نظم قصيدة شاعراً، هؤلاء وأمثالهم، عرفوا أن الأدب الحقيقي هو الذي يستمدّ غذاءه من تربة الحياة ونورها وهوائها، ويستقي من ينبوع الجمال، والأديب الحقيقي هو الذي يكشف العوالم الشاسعة في أعماقه، هو الذي يخلع على أدبه فكرة جديدة وخيالاً جديداً وصورة جديدة وبمعرفتهم هذه خرجوا بالأدب من طور الجمود والتقليد والبشاعة إلى طور الابتكار والجمال والحرية والصدق.

ولقد قامت عليهم قيامة أنصار التقليد والجمود في جميع أنحاء العالم العربي، فقالوا عنهم إنهم "فوضويون" يستبيحون حرمة اللغة، وقالوا عنهم إنهم "خياليون" لا يفهمون هم أنفسهم ما يكتبون، وقالوا إنهم يغزون الأدب الأميركي، وقالوا أشياء وأشياء، ولكنهم لم يقولوا الحقيقة فهم وإن كانوا قد تخلصوا من بعض قواعد لغوية، فلأنهم عرفوا أن هذه القواعد سوس ينخر في جسم اللغة والأدب.

أما أن البعض منا لم يفهمهم فلأن هذا البعض لا يزال في عالم الجمود لم تتفتح عيناه على سرّ الجمال في الأدب.

أما من حيث أنهم تأثروا بالأدب الأميركي فنحن نشعر أن هذه المصابيح هي مصابيحنا وهذا الزيت المقدس هو من معاصرنا، وهذه الموسيقى من قيثارات أوتارها لنا وأنغامها منا.

نحن شعر بقلب سورية، سهلها وجبلها ينبض في كل كلمة من كلامهم.

ألا تباركت ألسنة مطهرة.

ألا تباركت مباضع منقية.

ألا تباركت مصابيح منيرة.

ألا تباركت مطرقة مقدسة فكّت رقبة الصنم والبعل.






 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2025