يُسجل التفاهم الروسي الإيراني التركي تقدّماً في استيعاب أزمة سورية في أبعادها المحلية، والإقليمية، والدولية، متجهاً إنما ببطء لنصب آلية بإمكانها الإشراف على مفاوضات داخلية واعدة، تتمتع بحصانة لتحجيم محاولات الاختراق الخارجية.
بهذا الصدد، هناك من يؤكد أن لقاءات هذا الثلاثي تعكس الحاجة الآنية المتبادلة بين أطرافه وليس أكثر.. وكأن كل التفاهمات والتحالفات في التاريخ لم تبدأ على هذا النسق قبل إدراكها مرحلة العلاقات الاستراتيجية المتسمة بالاستمرار على قاعدة مشروع دائم..
فالتحالف الأميركي ـ الأوروبي انطلق لمجابهة الخطر الألماني ـ الياباني، منتهياً بتركيب الحلف الأطلسي، المرجعية الدولية الدائمة لمجابهة كل من يُهدد السيطرة الغربية على العالم بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.
هناك أيضاً مئات الأمثلة الأخرى التي تؤكد البدايات الظرفية للتحالفات وتحوّلها مرجعيات شبه دائمة مع نمو الأدوار والمصالح.
لذلك لا يوجد تناقض في التفاهم الثلاثي إلا إذا طرأت مستجدات أدّت إلى تفجيره. وهذا قابل للحدوث بمعجزة واحدة تقوم على إلغاء الأميركيين ورقتهم الكردية بشكل كامل في الميدانين السوري ـ العراقي. ما يؤدي إلى انهيار المشروع الكردي بكامله في منطقة الشرق الأوسط.. ولأن هذا الأمر لا يكفي. يجب على الأميركيين، السماح للجيش التركي مموّهاً بتنظيمات الاخوان المسلمين السورية والعالمية وأحرار الشام وفرق التركمان والجيش الحر المزعوم للدخول إلى مناطق شرق الفرات من حدودها مع تركيا إلى حدود سورية مع العراق.
فهل يمكن للأميركيين اللجوء إلى هذا السيناريو؟ قد تسمح لهم باستعادة «التركي».. لكنه يتسبّب بانهيار علاقاتهم مع السعودية ومصر بسبب عودتهم إلى التحالف مع الإخوان المسلمين.. ويضع المنطقة في حالة حرب جدية مع الروس والإيرانيين، موفراً شروط انتفاضات كردية قوية في تركيا وسورية والعراق في وجه الأميركيين في المنطقة. الأمر الذي يعزّز من قوة الدولة السورية بازدياد المكوّنات الملتحقة بها.
ما هي إذاً أسباب التقاء هذا الثلاثي؟
لجهة أنقرة، يبدو أنها أصيبت في كل طموحاتها بدءاً برفضها عضواً في الاتحاد الأوروبي، مروراً بخسارة مشروعها المتمحور حول فدرالية للإخوان المسلمين بزعامة تركية، الذي عملت عليه طويلاً، وذلك بفتح حدودها لكل أنواع الإرهابيين تسليحاً وتمويلاً وتدريباً ورعاية لمدة سنين سبع.
كما انهار مشروعها العثماني ومحاولات حصولها على امتيازات سياسية واقتصادية.. وتعثرت محاولات جيشها القضاء على «الجهادية الكردية» في تركيا نفسها التي يقودها حزب العمال الكردستاني المنتشر أيضاً في سورية والعراق حيث يعمل بين أكراد هذه الدول لتأسيس إقليم كردي متصل بين إيران والعراق وسورية وتركيا، وميزة هذا الإقليم أن أثره التدميري على تركيا أكثر هولاً من بقية الدول.
وجاء الانقلاب العسكري للإطاحة بأردوغان والاخوان المسلمين ليرفع من معدلات التدهور بين أنقرة وواشنطن. خصوصاً أن المتهم بإعداده فتح لله غولن «الإسلامي» مقيم في الولايات المتحدة الأميركية، وصاحب النفوذ الأقوى بين إسلاميي تركيا، جاء ليرفع من مستويات التعارض ـ الأميركي مع الدولة التركية، التي استغلت فشل الانقلاب لطرد واعتقال قرابة نصف مليون تركي من الإدارات والجيش والأجهزة الأمنية والقطاع الخاص.
تؤرخ هذه الحادثة لبدء التقارب الروسي ـ التركي، من جهة والإيراني التركي من جهة ثانية، في محاولة من أردوغان لإيجاد محيط مجاور يرفع من درجات شعوره بالأمان، مؤمناً له في الوقت نفسه رفضاً للمشروع الكردي وتلبية لبعض طموحاته في سورية والعراق، فكان أن تطوّرت هذه العلاقة إلى تفاهم سياسي أنتج حتى الآن مؤتمرات أستانة، وسوشي، متجهاً إلى التحوّل مرجعية لن تكون كاملة إلا بعد انضمام الدولة السورية إليها.. وهذا لما يحدث بعد.
على مستوى روسيا، فإنها لم تتأخر عن محاولات جذب تركيا. على الرغم من التوتر الذي ساد العلاقات بينهما في الميدان السوري.. ووجدت موسكو في استيعاب تركيا فرصة لتنشيط دورها في تصديع الأحادية الأميركية في احتكار النظام العالمي. وجاءت الهدنة مع تركيا، فرصة تاريخية لتتفرّغ القوات السورية والروسية والإيرانية لقتال الإرهاب والوصول إلى الحدود العراقية وتحرير حلب قرب الحدود التركية بأقل قدر ممكن من الضجيج الأردوغاني. الأمر الذي فرض هذا التحالف مع الأتراك بتشجيع إيراني أيضاً.
أما إيران، فإن قتالها على الأرض السورية يُجسّد محاولة للدفاع عن دولة صديقة لها تشاركها التصدّي للنفوذ الأميركي الذي يحاصرها منذ 1980.. وانتزاع تركيا من براثن الأميركيين يمثّل عملية تستحق البحث عن قواسم مشتركة حتى لو احتوت شيئاً من التنازلات.. فالتنين الأكبر هو الأميركي.. وعندما يتراجع لا يبقى أي أثر للحيوانات الأقل خطورة.
لذلك فالإيراني المُرحِّب بتحالفات مع الروسي لأسباب استراتيجية مرتبطة بالتصدّي للنفوذ الأميركي، اعتبر أيضاً أنّ الأتراك قوة مضافة لهذا التقارب.. لأنه ينتزع من الأميركي أدواراً تركية تعادل في خطورتها أدوار «إسرائيل».. وربما أكثر فتركيا بلد إسلامي له نفوذه بواسطة الاخوان المسلمين المنتشرين في معظم العالم الإسلامي، والسكان العرب من ذوي الأصول التركمانية الموزّعين في سورية والعراق ولبنان ومعظم البلدان العربية الذين تسيطر عليهم أنقرة بالعامل العرقي وتحوّلهم أدوات تفتيت داخلي.
هذه هي الحاجات التي قربت بين حركة المحور الثلاثي، السورية، وجعلتهم يفتشون عن قواسم مشتركة إضافية ليتحولوا مرجعية تدير الأزمة السورية نحو تسوية سياسية تحتاج إلى كثير من الوقت من دون إخفاء رغبتهم في إعادة إعمار سورية بعد السلام.
لقد اعتبروا أنّ تأمين الاستقرار الداخلي يحتاج إلى آليات قوة، تضبط الأوضاع وتستكمل القضاء على الإرهاب.. والسؤال هنا هل اتفق الأطراف على تحديد هذا الإرهاب؟
فأردوغان يقول إنه داعش والقاعدة وحزب العمال الكردستاني، والأحزاب الكردية المتحالفة معه. وهذا يعني كل الأكراد السوريين.. فهل هناك اتفاق سوري ـ إيراني ـ روسي مع هذا التعريف التركي؟.. قد يكون هذا التعريف بحاجة إلى مزيد من الدراسة، لأن الروس لم يتأخروا عن دعوة كرد سورية إلى الالتحاق بمفاوضات أستانة كمكوّن سوري يتمتع بكل الحقوق. والاستمرار التركي في احتلال جزء أساسي من الشمال السوري، أثار اختلافاً مع الإيرانيين.. فهل يتسع أم يتمكن الروس من إيجاد حل له؟
هناك الكثير من نقاط التفاهم بين الحلف الثلاثي إلى جانب الكثير من نقاط الاختلاف ما يخلق حالة صراع خفية، تأمل موسكو لجمها للوصول إلى بلورة مرجعية أساسية تدفع بالميدان السوري إلى تسوية سياسية نهائية.
فهل نحن أمام ولادة مرجعية استراتيجية تنتقل من سورية إلى ميادين الأزمات في الشرق الأوسط؟
هذا ما يرغب الأميركيون المتمسّكون حتى الآن بأحاديتهم الدولية.. ويشعرون أن العالم على مفترق إعادة تكوّن مرجعيات متعددة لإدارة النزاعات العالمية، نتيجة التغيير الكبير الذي طرأ على موازنات القوة، المترابطة بدورها مع نتائج الحروب الأخيرة.
إذا كان الانتصار الروسي ـ الأميركي في الحرب الثانية أدى إلى ولادة مرجعية ثنائية دولية، فإن انهيار الاتحاد السوفياتي أطلق يد الأميركيين في إدارة العالم.. وخسارة واشنطن في حملاتها العسكرية في أفغانستان وإيران والعراق وسورية واليمن ودعمها لأكبر إرهاب في التاريخ، انهار بدوره تحت وقع الضربات الروسية ـ السورية ـ الإيرانية.. لهي من المفاصل التي تفرض ولادة مرجعيات دولية جديدة تُمثل المنتصرين. وهؤلاء متجسّدون اليوم في المحور الروسي ـ الإيراني الذي جذب الأتراك لبناء فرع إقليمي في سورية وجوارها من أجل إقرار استقرار سياسي دائم يدخل في إطار تحول «حلف الحاجات» حلفاً استراتيجياً يؤمن مصالح المنطقة، ومصالحه أيضاً كحال كل التحالفات في التاريخ.
يتبين بالنتيجة أن الشرق الأوسط يتجه نحو مزيد من الصراعات المتنقلة التي تعكس رغم ضراوتها المرتقبة تراجع الدور الأميركي مقابل تقدّم الدور الروسي وولادة مرجعيات إقليمية تستند إلى المراجع الدولية كحال الحلف الثلاثي الروسي ـ التركي ـ الإيراني الذي ينقصه الالتحام بالدولة السورية صاحبة السيادة الفعلية على الأرض والممثلة الواضحة للسوريين، حتى يصبح آلية قابلة للتكرار في مناطق أخرى.
|