يبدو أنّ آخر اهتمامات المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، الكشف عن الهوية الفعلية لمن اغتال الرجل، بدليل أنها انطلقت بتحديد مسبق لـ«المتهم» المطلوب إدانته من جهات دولية، وهي تحاول في جلساتها التلفزيونية المتواصلة «فبركة» أدلة لإدانته. في حين أنّ المحاكم تحقق عادة في الجريمة، وتبحث عن أدلة يُفترض أن تؤدّي إلى الكشف التلقائي عن المجرمين.
وقد تبنّت هذه المحكمة، التي تعتبر الأعلى تمويلاً في تاريخ المحاكم الدولية، تحقيقات جرت في وزارة الاتصالات اللبنانية، استخرجت منها، كما زعمت أرقام هواتف خلوية، كانت تتواصل يوم الاغتيال في شكل مشبوه وفي مواقع قريبة من مسرح الجريمة.
أما المضحك، فهو ما سبق للدولة اللبنانية أن كشفته في أوقات سابقة ولاحقة عن عملاء لبنانيّين في وزارة الاتصالات كانوا يوفّرون «لإسرائيل» فرصة التلاعب بالمكالمات الهاتفية، حيث تمّ اعتقال بعضهم وإدانته، فكيف لا يكون لـ«إسرائيل» دورٌ في التلاعب بالأدلة الهاتفية؟
والطريف في هذا الموضوع، اعتماد المحكمة على شهادات من سياسيين لبنانيين معروفين بحقدهم على سورية وحزب الله، ادّعوا أنّ الحريري كاشفهم بتهديدات بالقتل تلقّاها من الرئيس السوري بشار الأسد.
فكيف تستمع محكمة تدّعي تمسّكها بأهداب القانون، إلى شهادات أشبه بثرثرات عجائز لا قيمة قانونية لها؟ ومن يؤكد أنّ الحريري قال مثل هذا الكلام بعد أن انتقل إلى جوار ربه ولم يعد هناك دليلٌ على ما يقوله الشهود المزوِّرون؟ وهنا تَقترف المحكمة تهمة التشهير والقدح والذمّ في آن معاً، لأنها تنقل هذه الفبركات التي يتمّ بثها عبر الشاشات التلفزيونية باعتبارها مسلّمات. ألا يمكن لهذه المحكمة أن تتوقع وجود سوء نية للإيقاع بأبرياء، أو أنها هي التي لديها سوء نية؟
إنّ دراسة الظروف السياسية لزمن الجريمة هي من اختصاص علم التاريخ، ودراسة المصلحة في الجريمة هي من اختصاص المحاكم. وبين هذه وتلك بونٌ شاسع يكشف عن وجود نية بالإدانة المسبقة لطرفين معاديين للسياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط هما سورية وحزب الله.
ودراسة المصلحة في الجريمة هي الركن الأهمّ الذي يتوجّب على المحكمة اعتماده، لأنّ القرائن الملموسة غائبة، لذلك يتوجب التصريح أنّ النظام السوري كان أحد الأعمدة الأساسية التي تسلقها الشهيد الحريري ليصل إلى الزعامة السياسية التي أدركها. وهذا مثبتٌ بالقراءة الدقيقة لسياق تطوّره السياسي والاقتصادي.
وما ينطبق على سورية يسري على حزب الله الذي ارتبط أمينه العام السيد حسن نصرالله بصداقة متينة مع الحريري. ولطالما التقى الرجلان في خلوات ليلية ناقشا خلالها الكثير من المسائل الوفاقية والخلافية، وتوصلا إلى قواسم مشتركة، جعلت من الرئيس الراحل صديقاً كبيراً للمقاومة ومسانداً لها في المحافل الإقليمية والدولية.
لذلك يجب ربط الاغتيال بالأحداث الإقليمية التي تضرب المشرق العربي بأعاصيرها العاتية. ويبدو أنّ تفكيك المجتمعات على الطريقة الغربية اقتضى تنفيذ اغتيالات وعمليات قتل جماعي لها أبعاد طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية، في العراق ولبنان وسورية واليمن ومصر واستعمال الإعلام سلاحاً للفتنة المذهبية والطائفية، كلّ ذلك خدمة للعبة الأمم التي تدمّر اليوم مجتمعات هذه المنطقة، عبر تفكيكها مذهبياً وطائفياً وقبلياً وعرقياً، وإعادة تجميعها على النحو الذي يناسب مصالح الدول الكبرى.
إنّ مسيحيّي العراق وسورية والمشرق هم ضحايا هذه اللعبة ومعهم الأيزيديون، فالقتل الجماعي لمكوّنات أساسية في المنطقة جزء من اللعبة، وهذه الأمور لا تخفى على متتبع «لعبة الأمم»، فالدول الكبرى لا تغيّر نسيج المجتمعات بالقوة العسكرية فقط، بل تستعين بأدوات داخلية للتفجير تعينها على الانقضاض.
فمَن يصدّق أنّ الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي يُستقبل من قبل جماهير شمال أفريقيا بالتهليل والتصفيق، وهو وريث أقصى يمين نظام فرنسي أباد الملايين من عرب شمال أفريقيا التي استعمرها حتى منتصف القرن العشرين.
ضمن هذا الإطار، اغتيل الرئيس الحريري، وكان المقصود إثارة حرب أهلية دموية بين السنّة والشيعة كادت تحصل غير مرة لولا حكمة حزب الله الذي استوعب اللكمات والصدمات ولم يردّ على القتل بالقتل، فكظم غيظ المتضرّرين متحمّلاً ظلم ذوي القربى والأهل في الوطن، مركزاً على أولوية العداء «لإسرائيل» فقط والسياسة الخارجية الأميركية.
وأخيراً، مَن اغتال الرئيس الحريري؟ عندما نحسنُ الربط بين الحوادث المتتابعة نعرف أنّ قتلة الرئيس الحريري هم صانعو «لعبة الأمم» الذين يواصلون احتلال المنطقة بأشكال مختلفة.
بقيَ أن تجتاز المنطقة النصف الأخير من المعاناة على أن يتمّ وضع حدّ بسرعة لهذه «المحكمة الهزلية» التي يموّل لبنان نصف نفقاتها، ويصرّ البعض على أنها محكمة لبنانية صرفة تكشف حقيقة مَن اغتال الحريري، فيما هي تبعد الشهود الزور الذين ليسوا سوى أدوات رخيصة في لعبة الأمم القذرة.
|