تتكثف الاتصالات واللقاءات بين الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة السورية على نحو يشي بدخولها مرحلة مفاوضات سياسية عميقة إنما على هدير المدافع واستمرار المعاركة الحاسمة.
هناك لقاءان شديدا الأهمية أحدهما مركزي واستراتيجي حيث أكد فيه الرئيس بشار الأسد زيارته الأخيرة إلى طهران عاصمة إيران في اجتماعين مع مرشدها الأعلى الخامنئي ورئيسها روحاني، على استراتيجية العلاقات بين بلديهما في إطار محور عسكري وسياسي واقتصادي له طبيعة دائمة.
فيما بذل رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي ننتياهو جهوداً جبارة في زيارته الأخيرة التي التقى فيها الرئيس بوتين في موسكو عاصمة روسيا لإخفاء قلقه من تطوّر الأزمة السورية في سياق يؤكد على استمرار المقاومة ودعمها في فلسطين المحتلة، فاغتنم فرصة هذا اللقاء ليؤكد انّ «إسرائيل» لن توقف هجماتها على الوجود الإيراني العسكري في سورية.
والطريف أنه زوّر مضمون اقتراح روسي ليأخذ منه ما يحلو له ويخفي أهدافه الحقيقية، فبدلاً من الإقرار بأنّ الروس يتجهون إلى تأسيس لجنة للدول المعنية بالأزمة السورية على قاعدة الانسحاب المسبق لكلّ القوات الأجنبية من سورية، وهذا اقتراح يشمل الأميركيين والاتراك والقوات الاوروبية و»إسرائيل» التي تحتلّ الجولان السوري منذ 1967.
على الرغم من صدور قرارات أممية تطالبها بالانسحاب منه ويشمل هذا القرار أيضاً قوات إيرانية مفترضة في حالة وجودها الفعلي على الأراضي السورية.
انّ الوجود الإيراني العسكري في سورية ليس حقيقة لأنه يتجسّد بدور لمدرّبين ومستشارين إيرانيين يعاونون الجيش السوري على مستوى التخطيط والإشراف، وهذا لا يندرج في إطار التورّط العسكري بالإضافة إلى أنه خاضع لعقود بين سورية وإيران. ولا يناقض بالتالي سيادة أيّ من البلدين أو العلاقات الدولية المستندة إلى مفاهيم الأمم المتحدة، ضمن هذا الإطار يمكن القول انّ تصريحات نتانياهو لها أهداف يعيدة، أوّلها التأثير على مجرى الانتخابات الداخلية المرتقبة في «إسرائيل» بتصوير نتانياهو «حامي الكيان» كما تزعم الملصقات الدعائية لترشيحه في تل أبيب.
وتهدف أيضاً لجذب دول الخليج المؤيّدة له في مسعاه لضرب إيران أو طردها على الأقلّ من سورية.
كما يرضي بذلك الأميركيين والبريطانيين على قاعدة تطوير مصطلح الوجود الإيراني ليشمل حزب الله وبعض التنظيمات الرديفة.
للكشف عن دقة هذه المرحلة هناك لقاءات أخرى أكثر أهمية من مراوغات نتانياهو، وبدأ بجولة يقوم بها بعد يومين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على قطر والسعودية والكويت والإمارات.
ولا شك أنها على علاقة بفكرة «مجموعة العمل الدولية» الخاصة بالأزمة السورية التي أعلن عنها مؤخراً بوتين.
في الوقت نفسه تجتمع ما يسمّى الهيئة العليا للتفاوض في الرياض العاصمة السعودية في محاولة للاتفاق على ممثليها في اللجنة الدستورية بما يضمن حصتين: واحدة للسعودية وأخرى لتركيا.
وهذا يتواكب مع دعوة الممثل الأممي في الأزمة السورية بيدرسون الى توسيع إطار المعارضة في هيئات التفاوض واعتبارها ممثلاً أساسياً في التفاوض مع الدولة السورية إلى جانب ضرورة مشاركتها في حلقة أطلق عليها بيدرسون «المنتدى الدولي».
وهذا مشابه لما أسماه الرئيس الروسي بوتين «مجموعة العمل الدولية».
لذلك ليس من قبيل المصادفة ان تلتقي في أنقرة مجموعات عمل مشتركة أميركية تركية لبحث ما يسمّى المنطقة الآمنة، وملف انسحاب القوات الأميركية من سورية.
انّ أهمية هذا اللقاء والتعويل على نتائجه تتجسّد في استهلاله بلقاء بين وزير الدفاع التركي خلوصي ونظيره الأميركي باتريك شاناهان في تركيا وتلاه على الفور اتصال هاتفي بين وزير الخارجية الروسي لافروف ونظيره التركي مولود جاويش أوغلو.
انّ هذه المبالغة في اللقاءات والاتصالات توحي باقتراب الأزمة السورية من المراحل الأخيرة التي تسبق عادة بدايات الحلّ السياسي، فهناك توسع كبير للجيش السوري يطال أكثر من 70 في المئة من أراضي بلاده.
الى جانب انهيار المشروع الأميركي في سورية المتغطي بإرهاب دولي غير مسبوق بأحجامه وتغطياته.
لذلك علينا أولاً الإقرار بأنّ هذه الأزمة شديدة التعقيد لكثرة المتورّطين فيها على المستويين الدولي والإقليمي، وهؤلاء يمثلون قوى تستطيع تجديد آلياتها الإرهابية وبناها العسكرية بسرعة في العمق السوري خصوصاً أنها تؤثر على دول حدودية كتركيا والأردن، ولديها قواعد في سورية والعراق.
ضمن هذه المعطيات يتحرك الروس الذين يريدون تحقيق السيادة السورية الكاملة لبناء الدولة ودعمها للانطلاق نحو الشرق الأوسط، وبالتالي المشاركة في القرار الدولي، أما إيران فما يهمّها هو سورية الحليف الاستراتيجي الكامل المواصفات في إطار خطة دائمة لمجابهة النفوذ الأميركي والعدو «الإسرائيلي».
بالإضافة إلى أنّ إيران وسورية مستهدفتان من هذين الطرفين بالتحديد منذ 1980 بالنسبة لطهران ومنذ واحد وسبعين عاماً وأكثر لجهة سورية.
أما الأميركيون الذين فشلوا بالسيطرة على الدولة السورية ومحاولات تفتيتها فيضغطون الآن لإرجاء الحلّ وعودة النازحين ولمرحلة إعادة بناء آلياتهم في سورية أو السيطرة على اللجنة الدستورية المولجة تطوير المؤسسات الدستورية وطرد النفوذ الإيراني الكبير في الدولة السورية والمحافظة على المشروع الكردي للتأثير على المنطقة بأسرها.
لجهة الترك فلا تنفك أهدافهم تسجل التراجع تلو الآخر، بمواكبة انتصارات الدولة السورية وحلفائها، لكنهم يحاولون الاستفادة قدر المستطاع من التنافس الأميركي الروسي في حركة ابتزاز اعتاد عليها أردوغان مستغلاً أيضاً علاقته بتنظيم النصرة الإرهابي وحركة الإخوان المسلمين والتنظيمات التركمانية السورية واحتلالها لعمق حدودي سوري ومنطقتي عفرين وإدلب.
بالنسبة للقوى الأوروبية الأخرى فهي لاهثة وراء الأميركيين تبحث عن بقايا النفط والغاز والاقتصاد وموجات إعادة الإعمار بواسطة التدخل العسكري المحدود في المناطق التي يسيطر عليها الأميركيون في سورية.
ويبدو انّ الزخم الأميركي الأوروبي يتجه حالياً الى إرضاء الكرد ومنعهم من الانجذاب نحو الدولة السورية وخطر ايّ عمل عسكري تركي ضدّهم.
هذه هي الأهداف الكبرى للأطراف المتورّطة في الأزمة السورية التي تبدو شائكة وبالغة التعقيد.
لكن المدقق بالتفاصيل يعرف انّ المعني بهذا الموضوع هو دولة سورية منتصرة لها تحالفاتها القوية والواسعة وكما جرى تحرير ثلاثة أرباع سورية بالقوة العسكرية فإنّ الامر قابل للتكرار مع الربع الأخير، إذا ما أصرّت الأطراف المتورّطة على مواقفها المتشنّجة.
فإلي اين تتجه الأمور؟ العلاقات الروسية الإيرانية ثابتة على دعم الدولة السورية بما يؤدّي إلى استكمال السيادة سلماً أم حرباً.
|