إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

انتداب فرنسا

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1939-08-29

إقرأ ايضاً


لقد تحدّت فرنسة بمنحِها اللواءَ السوري إلى تركية رغم إرادة الشعب السوري في هذا اللواء وفي جميع أنحاء الوطن السوري، قانون الانتداب وجعلته من تلقاءِ نفسِها على بساط البحث والنقد ولو ألقينا نظرة فاحصة على العشرين سنة الغابرة التي قضاها الشعبُ السوري وهو مرغمٌ تحت نير الانتداب الفرنسي لوجدنا أنَّ سورية أُصيبت في أثنائها بسلسلة متواصلة من هضمِ حقوقها الدولية القوميّة.


فعلى أثرِ اتفاقيّة سايكس بيكو التي عقدت في آب سنة 1917 والتي قضتْ بتجزئةِ سورية إلى قسمين شماليِّ وجنوبيِّ وبين الدّولتين الديمقراطيتين إنغلترا وفرنسة، اعترفَ مؤتمرُ سان ريمو للدولة الفرنسيةِ بالانتداب على القسم الشماليّ من سورية الطبيعيّة.


ومنذ ذلكَ الوقت أخذت هذه الأخيرة تبذلُ جهدَها لتجعل من سورية مركزاً حربياً لإمبراطوريتها في الساحل الشرقي من البحر المتوسط على حساب الشعبِ السوري، دونَ أن تفكّرَ قطّ في تنفيذ الوعودِ التي قطعها الموظفون الفرنسيون وبملءِ اختيارهم للشعبِ السوري التي كانت بمثابة مخدِّر يُِِعطونَه كلما لا حظوا الاستياء يشتدُّ من جرّاء سياستهم الخرقاء، حتى ولا في تنفيذ الواجبات التي وقعتْ على عاتقهم من جرّاءِ اعترافهم بقانون الانتدابِ بملءِ حريَّتهم.


أما هذا العمل الإجرامي الأخير التي قامت به فرنسة تجاه الشعب السوريِّ وبترُها اللواء ومنحُها إياه إلى تركية "دوطة" لدخولها في سياسة التطويق الديمقراطية لهو تحد صريح ليس فقط لحقوق الأمةِ السورية بل لقوانين الانتداب التي وافقت عليها. وبعملِها هذا مزقتِ اتفاقية حاملة لتواقيع مندوبيها ومندوبي زملائها من الدول الديمقراطيةِ وهي اتفاقية سان ريمو التي اشتركت فيها إنكلترا وفرنسا وإيطالية في 25 نيسان 1920.


وعلاوةً على ذلك فإن بترَ فرنسة للواء الإسكندرون أظهر بوضوحٍ تامٍّ عدمَ اعترافها بواجباتها الحقوقية وبأنها تستوحي سياستها لا من ضميرها بل من زميلتها في الديمقراطية إنكلترا.


لقد خلعتْ فرنسا بنفسها حلة الانتداب التي كانت تلبسها دائماً لعلاقتها مع الأمة السورية فظهرت للعيانِ نواياها السيئة وذلك في مختلف الحوادثِ التي حصلت في سورية منها، بيعُها الإسكندرون من الأتراك وهدمها النظام الحكوميّ وتقسيمها الوطن السوري إلى ولايات ومحافظات، وفرضها نظام اللامركزية إلى غير ذلك ممّا لا يختلف بوجه من الوجوه عن الحكم الديكتاتوري الاستعماري.


ومن المضحك المبكي حقاً هو تلك الإشاعات التي روّجتها عن طريق الصحف الفرنسيّةِ والتي نقلتها عنها الصحفُ اليهوديةُ في العالم، بأن الشعب السوري المهضوم حقوقه في لواء الإسكندرون أظهر ارتياحاً شديدا لعملها هذا إلى ما هنالك من الإشاعات الكاذبة التي دحضتها تلك الحقائق، التي ينقلُها ويصرحّ بها الداخلون إلى اللواء الجريح والخارجون منه.


وآخر ما أثار اهتمام الشعب السوري المتعطش للحرية تصريح المندوب الفرنسي بيو أنّ فرنسة سوف تمكث إلى الأبد في سورية وأنها لن تتخلى عن مركزها في الشرق. هذا التصريح الذي أماط اللثام بصفة رسمية عن حقيقة نوايا فرنسة في سورية. ويدلّنا ما نشرته جريدة الطان “Le Temps” الفرنسية على أن ما صرّح به المندوب الفرنسي لم يكن على سبيل الفصاحة في التعبير، كما أذيع على أثر هذا التصريح، للتحذير بل إنما هو حقيقةُ ما يفكر الفرنسيون به إذ قالت إن فرنسة لا تفكر أبداً بالتخلي عن مركزها في سورية وبذلك تكونُ فرنسة قد تعدت نصوص صكّ الانتداب، لأننا لا نستطيع الاعتقاد بأن تنفيذ رسالتها الانتدابية يحتاجُ الحياة بكاملِها.


وعلى الرغم من أن قانونَ عصبةِ جنيف ونصّ صكّ الانتداب يسمحان بتفسير مطاط إلا أنهما فصّلا بصراحة تامة واجبات وحقوق الانتداب. وقد استند في وضع صكّ الانتداب على المادة الثانية والعشرين من قانون العصبة القائلة بالاعتراف باستقلال سورية التام على أن تستعين بإحدى الدول المكلفة في إدارة الحكم إلى أن تصبح قادرة على إدارة أمورها بنفسها. وقد اعترفت فرنسة صراحة في المادة الثانية من صكّ الانتداب، بأنها ستحافظ عل وحدة وكيان الوطن السوري بيدَ أنها لم تفكر ولو مرة واحدة منذُ تاريخ الانتداب حتى الآن في تنفيذ ما وضع على عاتقها من الواجبات. ففي شهر آذار 1921 منحت فرنسة قسماً كبيراً من الأراضي السورية الشمالية إلى الأتراكِ وبذلك خسرت سورية المدنَ السورية الأربعَ بياز وعينتاب وأورفة وماردين بكامل نواحيها وكانت فكرة وضع لواء الإسكندرون (بحجة كون أكثرية سكانه تركية) تحت حكم إداري ممتازٍ بمثابة الخطوة الأولى التي خطتها فرنسة في صفقة بيع اللواءِ الشهيدِ.


وتنصّ المادة السابعة من صكّ الانتداب بضرورة منح جميع أفراد وطوائف الأمة السورية، وأفراد الجاليات الأجنبية بدون أي تفريقٍ حرية الدين والاعتقاد. إلا أن الواقع كان عكس ذلك فإنها استفادت من وجود طوائف مختلفةٍ وجعلتْ أقليات، ووسّعت الشقاق والخلاف بين الطوائف أو على حذِّ تعبيرها بين الأقلية والأكثرية وجعلت لكل طائفة امتيازات غير امتيازات الطائفة الأخرى إلى غير ذلك من التجزئات الطائفية التي من شأنها تأخير الشعب السوري من الوصول إلى السيادة القومية. وكذلك فإن تقسيمها وفرضها النظام الإداري في كل المقاطعات السورية (جبل الدروز والعلويين والجزيرة) يخالفان تمام المخالفة واجباتها نحو الأمة السورية كدولة منتدَبةٍ.


وأخيراً تنصُّ المادة السابعة عشرة من صكّ الانتداب على أن تقدم الدولةُ سنوياً تقريراً مجمَلاً عن حالة البلاد التي وُضِعتْ تحت انتدابها إلى مجلس عصبة الأمن. بيد أن هذه المادة كانت منذ البدء حبراً على ورق لأن أكثر أعضاء مجلس العصبة كانوا من الدول التي منحت أمماً لتكون منتدَبة ً عليها كما أن ما يسمونه لجنة الانتداب كانت لمّا تزل هيئة أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة. وأحدث ما نستطيعُ أن نسرده تبريراً لقولنا هو أن عصبة الأمم لم تأخذ حتى الساعة – رسمياً – علماً بوصول الاحتجاجات الصاخبة.


فبمثل هذه الطرق من المغالطات البريئة المظهر حكمت فرنسة الجزء الشمالي من سورية الطبيعية وخدعتنا في جميع حقوقنا. وفرنسة هذه هي نفس فرنسة التي تتبجح بالحرية والعدل والمساواة تحت ظل الديموقراطية والتي تبرر وجودها في بلادنا السورية العزيزة، بوجوب المحافظة علينا من خطر مداهم. أترى هنالك خطراً علينا غيرَ الخطر الذي إليه سائرون من جراء هذه السياسة التي أقل ما يقال عنها إنها خنفشارية؟


إن نتيجة الاتفاقات بين بريطانية وفرنسا وتركية قد أوضحت تفوّق الدفلماسية التركية على دفلوماسية الدولتين الأولييّن. فقد استفادت تركية من الظروف الأنترنسيونية وتعهدت بالقيام بأمور كانت تعلم أنها لن تحتاج إلى تنفيذها وكسِبَتْ لقاءَ هذه التعهدات العديمة القيمة العملية، لواء الإسكندرون السوري، الذي ضمّته إلى كيليكية السورية وأصبحت داخلية سورية الشمالية تحت ضغط جيوشها يساعدها التفكيك الذي أمعنت فرنسة في إحداثه في النصف السوري الواقع تحت انتدابِها. أما فرنسة فماذا ربِحت من إضعاف سوريةً الشمالية وتفكيكها؟

نشر هذا المقال في "سورية الجديدة" العدد الثاني والعشرين الصادر في التاسع والعشرين من يوليو 1939


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024