إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

إلى الدكتور شارل مالك (جزء 3)

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1948-03-01

إقرأ ايضاً


عزيزي الدكتور مالك،

بسرور شديد تسلمت هديتك الثمينة "معنى الفلسفة". وقد قطعت مطالعتي جمهورية أفلاطون ومجرى أعمالي التفكيرية لأقرأ هذا الخطاب الجديد الذي تستحق زبدته أن تكون قسماً من مجرى بعثنا القومي الفكري، أو ظاهرة من ظواهر هذا البعث، وإني أحسبه أحد أدلة يقظة الأمة السورية الفكرية.

لست أقصد القول أن "ما تعني الفلسفة" خطاب خطير إلى الدرجة القصوى في حد ذاته بل أن خطورته قائمة في أنه يمثل أحد اتجاهات البعث القومي الفكري الفاعلة الموجهة. وكونه شيئاً في بدء البعث أو في نقطة الابتداء من التوجيه عظيماً بقدر عظم القصد منه.

ولست آخذ عليك محاولتك العظيمة التوفيق بين الفلسفة والعقل العادي حين تتكلم عن الشرق الأدنى بمعنى العالم العربي وحين تحاول أن تخاطب الشرق الأدنى كله كما لو كنت تخاطب وحدة ثقافية فكرية يمكن أن تسمع خطابك وتتأثر به. فتنسى أن فاعلية الفكر هي التي تفرض نفسها واتجاهها على النطاق الذي تشمله، كما امتد الفكر السوري قديماً إلى الإغريق من غير أن يخاطبهم، وكما أمتد الفكر الإغريقي إلى الأمم الغربية وشرقي المتوسط من غير أن يتصور إقليماً معيناً من أقاليم العالم ويخاطبه. وتنسى أن هذا الإقليم الكبير "الشرق الأدنى" ليس إلا شتاتاً من العمران ومن الاجتماع ومن الثقافة. فتخاطبه كما لو كان مجموعاً واحداً متجانساً متلاحماً فيذهب خطابك في دورة واسعة، فتقع بعض حباته على الصخر، وبعضها على الرمال المحرقة، وبعضها يذر على الأرض الصالحة ذراً من غير فلح وزرع، فإذا نبت أعطى غلة قليلة.

ولست آخذ عليك هذه المحاولة العقيمة حين تلومنا لإهمالنا فلسفتنا الكلاسيكية "الخاصة" العربية والإسلامية ولا تلومنا لإهمالنا فلسفتنا الكلاسيكية الخاصة، السابقة الفلسفة العربية الإسلامية.

لا. لا آخذ عليك شيئاً من هذا لأني أوقن أن الفيلسوف المؤمن بحقيقته وحقيقة فلسفته لا يلبث أن يدرك عدم حاجته إلى وسائل العقل العادي ليشق الطريق لفلسفته، التي هي، في ذاتها، خروج على المعتاد. ولكني آخذ عليك هذه الحملة العنيفة علينا من أجل ما حل بأمتنا، في العصور المتأخرة من الظلم والطغيان، اللذين أفقداها حيويتها الفلسفية، حتى ابتذل فيها لفظ الفلسفة وأصبح من تعابير الإدراك العادي. والإدراك العادي ليس مصيبة حلت بنا وحدنا، بل حقيقة، عندنا منها ما عند غيرنا، مع اعتبار فارق المرتبة الثقافية بيننا وبين غيرنا.

إنك، يا أخي، تجور علينا كثيراً حين تستعمل هذه العبارة:

I hardly think I am mistaken when I say that we do seem to have a very strong anti-philosophical streak in our very being.

وحين تقول أنه من المستحيل علينا أن نرتفع عن شهوات الجسد إلى الأفكار والحق والحب والوجدان، فقد جرى في الماضي، قبل نكباتنا العظيمة، إننا ارتفعنا فوق هذه الأمور الدانية إلى المرامي السامية من الفكر والحق والحب والوجدان. وها نحن نعود، وأنت في عداد حججنا، إلى الارتفاع من القاع الذي ألقتنا فيه النوازل التاريخية.

...

يتبع

النظام الجديد، العدد الأول مارس 1948 المجلد الأول.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024