تواصل تل أبيب حربها على الصورة تجاه جمهورها أولاً وأعدائها ثانياً، في مسعى منها لإثبات ما لم يعد بالإمكان إثباته: الانتصار في الجولة الأخيرة على غزة، وإن بالنقاط، والحؤول دون تكرار التصعيد والمواجهة التي لا تريدها. وتصرّ القيادة السياسية في تل أبيب، بمعية المؤسسة العسكرية، على نفي وقف إطلاق النار الذي سارعت إليه بمساعدة الجانب المصري، مع التشديد على أن الضربة الأخيرة في التراشق الناري كانت إسرائيلية لا غزّاوية، في موازاة التأكيد أن الرد على صاروخ تل أبيب لم ينته، والتظهير المفرط للاستعداد العسكري، والحديث التخويفي عن إمكان تجدد المواجهة على خلفية مسيرة العودة المليونية في يوم الأرض، السبت المقبل.
صحيح أن إسرائيل عوّدت نفسها عدم الاعتراف علناً باتفاقات وقف إطلاق النار مع فصائل غزة، على خلفية أنها «دولة» والطرف الآخر «تنظيمات إرهابية»، لكنها كانت تشدد في المقابل على أن «الهدوء يقابله هدوء»، وهو ما لم يصدر عنها هذه المرة، والمفارقة أنه صدر عن الجانب الفلسطيني. القيادة الإسرائيلية متموضعة بين فكَّي معضلة: تعذّر الرد بما يتناسب وصاروخ تل أبيب، وفي الوقت نفسه عدم إمكانية القول إن الرد انتهى وجاء متواضعاً خشية انعكاساته، مع ما يعنيه هذا الأمر في الداخل، حيث المزايدة على خلفية انتخابية، وأيضاً على مستوى الردع الذي لم يعد صلباً في مواجهة غزة. ضمن هذا المنحى، يُفهم الإصرار على رفض الإقرار باتفاق وقف إطلاق النار، وعلى أن الضربة الأخيرة كانت إسرائيلية، وكذلك على إعطاء صدقية، وإن بتكلّف زائد، من خلال تمديد مدة الضربات إلى ما بعد الموعد المتفق عليه للتهدئة. وأحد أهداف تل أبيب من ذلك هو تأجيل الإجابة عن النتائج الفعلية للرد، خاصة أن الرأي العام الإسرائيلي يوازن النتيجة عبر أعداد الشهداء الفلسطينيين.
في المقابل، القيادة السياسية في تل أبيب، كما العسكرية، كانت وما زالت حريصة حرصاً شديداً على أن لا تتسبب ضرباتها في رد فلسطيني أكثر تطرفاً مما كان عليه، ما يحول دون إنهاء التصعيد الذي لا تريده ويطيل مدة المواجهة، الأمر الذي يفسر تجنّب القتل الذي يريده الجمهور الإسرائيلي، وإن كان مطلوباً إرضاء الأخير على خلفية انتخابية. تجنبٌ كان سمة الضربات الإسرائيلية على غزة: ضجة كبيرة جداً، من دون إصابات بشرية. وفي ذلك واحد من تعبيرات الردع الذي شكلته الفصائل في مواجهة الاحتلال، بحيث بات يحسب حساباته جيداً قبل الإقدام على اعتداءاته، بما لا يتسبّب في إصابات تستدعي رداً فلسطينياً، أي على النقيض مما كانت عليه المعادلة في السابق، وهذه إحدى نتائج تعظيم القدرة الفلسطينية من جهة، والجرأة والشجاعة في إرادة تفعيل هذه القدرة، التي تلقّى الإسرائيلي برهاناً عليها قد يكون فاق التوقعات، في استهداف تل أبيب ابتداءً.
*المواجهة المثارة في الإعلام العبري مستبعدة عملياً وتخدم المسعى التخويفي*
في مسعى مواز، أرادت إسرائيل التأثير في الوعي الفلسطيني، ومحاولة التشويش على قيادة الفصائل في غزة كي تتهيّب المواجهة، وتتراجع عن التحرك المليوني الذي دعت إليه في يوم الأرض، السبت المقبل.
ولذلك، مدّدت تل أبيب حديثها التهويلي وتهديدات مسؤوليها وتقارير إعلامها الكاشفة للجاهزية والاستعداد العسكريين «غير المسبوقين» على تخوم القطاع، في موازاة الإعلان عن استدعاء مزيد من الألوية والعتاد الحربي، وأيضاً التشديد على استدعاء احتياطي منظومة القبة الحديدية ونشرها كما قيل «في كل أرجاء إسرائيل!». كل ما تقدم وأكثر كان محلّ تغطية إعلامية عبرية مفرطة، لا يستبعد أنها موجهة لإخافة الفلسطينيين ودفعهم إلى التراجع، أو في حدّ أدنى تليين مسيرة يوم الأرض، والاقتصار على ما يمكن احتواؤه إسرائيلياً.
في هذا السياق، تتجه إسرائيل إلى محاولة إفهام الفلسطينيين أن الرد على التحرك الجماهيري بالقرب من السياج سيكون أكبر وأشمل وأكثر إيذاءً من الرد على القصف المتكرر لتل أبيب. وهي محاولة تأتي، للمفارقة، بعدما عجز المفاوض العسكري الإسرائيلي، خلال التفاوض على وقف إطلاق النار، عن تضمين الاتفاق بنداً يتعلق بإنهاء مسيرات العودة والتحركات الاحتجاجية الأخرى، أو في حد أدنى تحويلها إلى احتجاجات رمزية بلا فاعلية. ما لم يتمكن الاحتلال من تحقيقه في المواجهة العسكرية الأخيرة، رغم أن تبريرها وسببها استهداف تل أبيب نفسها، يريد أن يحققه عبر إخافة الفلسطينيين بالتلويح بالمواجهة التي ثَبت أنه يتجنّبها. مفارقة تستأهل التأمل إزاء ما يمكن أن يقدم عليه الاحتلال، عندما تكون خياراته الفعلية محدودة وضيقة.
من جديد، يمكن التأكيد أن جولة التصعيد الأخيرة انتهت بانتصار فلسطيني واضح، قياساً بإمكانات الطرفين وظروفهما. انتصارٌ قد لا تقتصر انعكاساته وتأثيراته على التصعيد نفسه، بل قد تشمل مجمل المعادلات القائمة بين الجانبين، وصولاً إلى ما يتجاوز قطاع غزة، والعمل على تحسين أوضاع ساكنيه اقتصادياً ومعيشياً، من خلال فكّ الحصار الجائر عنه أو تخفيفه. مع ذلك، المواجهة المثارة في الإعلام العبري مستبعدة عملياً، وكل ما يَرد عنها من تل أبيب يأتي في خدمة المسعى التخويفي الردعي. لكن كيفما اتفق، ما سيحدث في حينه مستقل عمّا سبقه، على نقيض مما تحاول تل أبيب الإيحاء به، سواء سعت إلى تخويف الفلسطينيين، أم عادت واستدركت بأن تخويفهم ـــ بعد مواجهة الأيام الماضية ـــ محدود الأثر.
|