على سنّة النوم ، يرحل وجه صديق غالبه تعب الأيام والسنون العجاف . رحل أنطوان غريّب على صهيل غفوة سريرية كابد فيها غربة أحلامه الثقيلة .. كان يعترف أن العالم لن ينتصر على الفضاء . لكن عناده كان أقوى في شحن النفوس الضعيفة كي تعود إلى فرادة معناها ، فتستقيل من جبنها ونكوصها وتخاذلها ... متحدية عالم المجهول ؟
في آخر جلسة لي معه ، اتفقنا على مقولة أن الوطن أقوى من الحرية ... هكذا وببساطة اختصرنا أنا و"أبو خليل" رحلة الألف ميل من الصراع العربي – الإسرائيلي ، وحديثاً الصراعات العربية و"ربيعها" المجنون ، وهو ما قررنا أن نتوجه به إلى كلّ من عائلتينا الصغيرة والكبيرة في آن ...أوليس ما يمرُّ به عالمنا العربي اليوم يصادق على هذا القول حقاً وحقيقة ؟!
منذ ثمانية وعشرين عاماً ، تعرّفت على أنطوان غريّب في جريدة "الشرق" احسست خلالها أن هذا الرجل يقضي عمره غريباً بين الحروف والكلمات ، كان فيها الشاهد والكاتب والمحلل، واللاعب على مفردات ذكية لا يشعر القاريء معها أنه متهمٌ أو بريءٌ بقدر ما يكون إحساسه أنه خارج الحدث ، لا يحسُّه إلاّ صاحب الأمر الذي يظنّ بدوره أن الكاتب طرفٌ فيه ، لكن دون أن يقدِّم حجّة لبرهانه ؟!
حين بدأ أبو خليل تاريخه النضالي ، لم يحلم بالكثير ... كان يدرك أن أنطون سعاده هو رجلٌ واقعي ولكل المراحل ، رغم صلف الإدعاء بأننا خيرُ أمة أخرجت للناس ... كان يضحك حين تأتيه المقولات المعلّبة والشعارات اللامنطقية ،ويكتفي بنكتة على هذا العالم الذي نحن فيه ، لكنه بلحظة تخرج منه كلمات جدّية عنيدة مرصوصة بقول سعادة : "إن فيكم قوة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ " ...
ابن بلدة الدامور التي استوى كلّ أبنائها على طابور أمام وزارة المهجّرين ، لم يشأ "أبو خليل" أن يقف في هذا الطابور بعد أن اطلقت شرارة حرب الجبل ودمّرت وهجّرت بالكامل ، ليمدّ يده لزبانية الحرب وأساطينها ومليشياتها من أجل "فلس الأرملة" ، فترك حاله على نضاله كي يقصّ علينا رحلة غيابه ...
اليوم ،يمضي "أبو خليل" إلى جنان أفكاره عائداً إلى بلدته التي أنعَشَت رياضَهُ في الصغر ، مقفلاً على دكّانة الحرب الأهلية التي نازعته طوال سني حياته ، وليكمل أحدٌ ما أرعشت كلماته رفقاء درب من أصدقاء مهنة المتاعب إلى أبناء نهضة كبيرة ...
"أبو خليل" ، أُحيي روحك ، لأنك كنتَ أنتَ نفسك ، دون أن تكون سواك ؟!
|