إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

غموض حول الانقلاب التركي: هل هو انقلاب حقيقي أم انقلاب أردوغاني على أردوغان؟

ميشيل حنا الحاج - البناء

نسخة للطباعة 2016-07-21

إقرأ ايضاً


ماذا حدث في تركيا ليل 15 ـ 16 تموز يوليو 2016؟



هل وقع حقاً انقلاب عسكري تمحورت تحركاته الرئيسية بين اسطنبول وأنقرة؟


وهل حقاً نفذت الانقلاب القوات المسلحة التركية التي أنجزت بنجاح في الأربعين عاماً الماضية، خمسة انقلابات عسكرية، ولكنها فشلت في المحاولة السادسة. وكانت أولى محاولاتها الانقلابية في عام 1960، وقاده يومئذ الجنرال جمال غورسيل الذي كان يستقبل في شوارع أنقرة كما شاهدت بنفسي، حيث أنني كإعلامي، قد غطيت هذا الانقلاب، وكان أول انقلاب عسكري أغطيه اعلامياً ، بهتاف الجماهير التركية القائل: «يا يا يا… تشا تشا تشاه … جمال غورسيل… تشوك يا شاه»، بمعنى أنّ غورسيل بطل أو رجل عظيم.

ولم أغط بنفسي الانقلاب العسكري التركي الثاني، الذي وقع في عام 1971 لتواجدي في بيروت، لكني تابعته باهتمام، وأذكر أنه قد وصف يومئذ بانقلاب «المذكرة»، لكون القوات المسلحة التركية، لم تضطر الى محاصرة موقع رئيس الوزراء سليمان ديميريل لإجباره على الاستقالة، اذ اكتفت القيادة المسلحة التركية يومئذ، بإرسال مذكرة مكتوبة إلى ديميريل، تأمره بالاستقالة. فاستقال رئيس الوزراء صاغراً دون أي مناقشة، وعيّنت القوات المسلحة عندئذ حكومة جديدة سمّت هي أعضاءها.

ثم وقع الانقلاب الثالث في عام 1980 أيّ بمعدل انقلاب عسكري كل عشر سنوات تقريباً ، وقاده يومئذ الجنرال كنعان ايفرين، وتلاه الانقلاب الرابع في عام 1997، أيّ بعد صمت وسكون للقوات التركية المسلحة دام هذه المرة 17 عاماً. وتلاه بعد أربع سنوات هذه المرة، الانقلاب الخامس في عام 2001، وكان أشبه بالانقلاب الثاني، انقلاب المذكرة، عندما طالبت القوات المسلحة رئيس الوزراء نجم الدين أربكان، رئيس حزب الرفاه الاسلامي الاتجاه، بالاستقالة، فاستقال طوعاً ودون أيّ مقاومة، علماً أنّ حزب أردوغان الاسلامي «العدالة والتنمية» هو وريث حزب الرفاه الذي كان يتزعّمه أربكان، وكان أردوغان في صفوفه.

ثم وقع الانقلاب العسكري السادس في ليلة 15 تموز من العام الحالي. ولم يكن انقلاباً بمذكرة، بل كان انقلاباً عسكرياً مسلحاً بكلّ معنى الكلمة، شارك فيه الجيش الثاني التركي، والجيش الثالث، وسلاح البحرية، وحرس الحدود، بل وسلاح الجو أيضاً تمّ عزل كلّ قادة هذه الأسلحة بعد فشل الانقلاب واعتقال بعضهم ، ومع ذلك فشل الانقلاب السادس خلافاً لما سبقه من انقلابات عسكرية خمسة، رغم مشاركة سلاح الجو فيه، علماً أنّ مشاركة سلاح الجو في انقلاب ما، تعدّ عنصراً فاصلاً عادة في إنجاح الانقلاب من عدمه.

لكن سلاح الجو التركي الذي سيطر على مطاري اسطنبول وانقره، وأغلق الأجواء التركية في وجه تحليق الطائرات المدنية والعسكرية غير الموالية، لم يستطع أن يحسم الأمر لمصلحة الانقلابيين. لماذا؟ لأنّ جزءاً من سلاح الجو ربما طائرة واحدة من طائراته ظلّ على ولائه للرئيس أردوغان، وقد قامت طائرة F16، بإسقاط مروحية كانت تهاجم مقرّ أجهزة المخابرات التي لم تشارك في العملية الانقلابية.

فما الذي حدث إذن في تركيا في ليلة 15 تموز؟ هل كان ما جرى انقلاباً حقيقياً، لكنه فشل نتيجة نزول الجماهير الى الشارع بناء على توجيه أردوغان نداء لهم عبر إحدى القنوات التلفزيونية مستخدماً الهاتف لإيصال رسالته، مطالباً الجماهير بالنزول الى الشارع للدفاع عن الشرعية والديمقراطية، فهرولت تلك الجماهير بسرعة مذهلة، وكأن الإعداد لها قد تمّ مسبقاً ، للنزول فعلاً الى الشارع والتصدّي لدبابات الانقلابيين، مذكراً بذاك التصرف، بسابقة مشابهة ساهم فيها نزول الشعب الى الشارع، في تغيير مجرى الأحداث. وذلك ما حدث في القاهرة في التاسع والعاشر من حزيران يونيو عام 1967، عندما أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر استقالته من كافة مناصبه، فنزلت الجماهير المصرية بكثافة الى الشارع، مطالبة إياه بالعودة عن الاستقالة. ولعب نزول الجماهير المصرية الى الشارع يومئذ، دوراً هاماً في إحداث تغيير هامّ حال دون استيلاء اليمين المصري على السلطة في مرحلة حساسة كان فيها النظام القومي القائم يومئذ، في أحلك وأضعف حالاته، نتيجة الهزيمة التي لحقت بمصر يومئذ في حرب عام 1967.

أم أنّ ما حدث في تركيا في تلك الليلة، ليلة 15 تموز، كان مسرحية أردوغانية مفبركة، تسعى لتحقيق عدة تطورات لمصلحة أردوغان، كما أشار بعض المعلقين ومنهم الكاتب المغربي مصطفى هال بابا الذي نشر مقالاً عنوانه «فيلم ليلة الانقلاب على أردوغان»، وتساءل فيه عن الأسباب التي استدعت الانقلابيين الذي يملكون السيطرة على معظم سلاح الجو، بالتركيز على قصف مبنى البرلمان الذي ليست لديه قوة عسكرية تجابه الانقلابيين، كما يركز على الهيمنة على الجسرين المعلقين اللذين يربطان تركيا الآسيوية بتركيا الأوروبية، ولم يفكر ذاك السلاح الجبار، بقصف مقرّ إقامة الرئيس أردوغان الذي كان يمضي إجازة عائلية على أحد شواطئ تركيا، والذي يرجح أنّ موقعه لا بدّ كان معروفاً للانقلابيين ولقيادة القوات المسلحة التي سيطر عليها الانقلابيون وأسروا رئيس أركانها؟ فقصف مقرّ تواجد الرئيس أردوغان في مدينة ساحلية صغيرة، كانت له أهمية أكبر من قصف البرلمان والسيطرة عل الجسرين، اذ كان من المحتمل أن يؤدّي الى مقتل الرئيس، وفي أدنى الحالات، الى إرباكه واضطراره للفرار من موقع الى آخر تجنباً للطائرات المغيرة التي يفترض بها أن تطارده، وبالتالي عدم التفرّغ لتولي عملية المقاومة بتوجيه نداء للجماهير بالنزول الى الشارع التركي؟

وهذا التشكيك بأصالة الانقلاب العسكري، لم يصدر فحسب عن كتاب ومحللين، بل صدر أيضاً عن فتح الله غولن، الصديق والحليف السابق لأردوغان، والذي نشب خلاف بينهما حول صيغة وصبغة الإسلام المطلوب تنفيذه في تركيا: هل هو الإسلام الاجتماعي كما يطالب غولان، ويعززه بفتح مئات المدارس هنا وهناك في أنحاء المعمورة، ومنها 165 مدرسة في الولايات المتحدة… وهي الرؤية التي تتعارض مع رؤية أردوغان الذي يرغب بإحلال الاسلام السياسي لا الاجتماعي، في تركيا وأنحاء أخرى من العالم. فالداعية فتح الله غولن الذي شجب الانقلاب العسكري، قد شكك علناً بأنّ الانقلاب قد يكون مفبركاً.

انّ ما يرجح هذا الاحتمال أو ذاك، هو التوجه القادم بعد الانقلاب للرئيس أردوغان. فاذا توجه نحو مزيد من التشدّد، ومن إقرار مزيد من الخطوات التي كان يسعى إليها، لكنها كانت تجابَه بالعثرات وبالاعتراضات من عدة أحزاب تركية معارضة، سيبدأ الترجيح عندئذ بأنّ الانقلاب كان مفبركاً، وكان انقلاباً أردوغانياً على أردوغان، بغية تمهيد الطريق لإقرار كلّ مطالبه بالتغيير، ومنه التغيير نحو النظام الرئاسي، والتغيير لإلغاء الصبغة العلمانية الأتاتوركية عن الدستور التركي، والذي من أجل الحفاظ عليها، نفذت القوات المسلحة التركية خمسة انقلابات عسكرية خلال أربعين عاماً… وإحلال الصبغة الاسلامية على الدستور، بوضع نصّ يقول إنّ دين الدولة هو الإسلام، والإسلام هو مصدر التشريع في تركيا، الأمر الذي حاول طرحه على البرلمان التركي قبل عدة شهور، فتصدّت الأحزاب المعارضة له وحالت دون إقرار مشروعه ذاك.

فهل كان الانقلاب العسكري انقلاباً حقيقياً، أم كان انقلاباً أردوغانياً استباقياً، سعى اليه أردوغان لإحباط احتمال وقوع انقلاب عسكري حقيقي، أسوة بالانقلابات العسكرية الخمسة السابقة، وذلك لحماية العلمانية الديمقراطية من الضياع في تركيا؟

ليعرف العالم حقيقة ما حدث، لا بدّ له أن ينتظر ليقرأ الى أين ستتوجه الخطوات الأردوغانية القادمة، علما أنّ الكثير من المؤشرات قد بدأت في الظهور، موحية بأنّ أردوغان يتوجه فعلاً نحو التشدّد أكثر، والى إرساء صبغة الإسلام السياسي على الدولة التركية. ومن بعض تلك المؤشرات التي ظهرت حتى الآن، ما يلي:

1 ـ إعفاء 27 ضابطاً من كبار ضباط القوات المسلحة من ذوي الرتب العالية، مع أنه لم يكن لهم دور في الانقلاب العسكري المذكور.

2 ـ إعفاء نحو 2500 قاض من سلك القضاء فوراً، ومنهم خمسة من قضاة المحكمة العليا، بل واعتقال أحدهم مع أنه لا رابط بين القضاة والحركة الانقلابية. ويعترف بعض المعلقين الأتراك، ومنهم محمد غول، أنّ التوجه لترحيل هؤلاء القضاة كان موجوداً على أجندة أردوغان، لاعتقاده بأنهم مناصرون لفتح الله غولن الذي يقود التيار الموازي لتيار أردوغان. ولكن الرئيس التركي، لم يكن قادراً على تنفيذ قراره ذاك لغرابته، فجاء الانقلاب ممهّداً ومبرّراً له.

3 ـ الرئيس التركي رفع للمرة الأولى علناً، كما قالت «بي بي سي»، وعزز قولها آخرون بمن فيهم المعلق المصري جميل حسن أبو طالب، من صحيفة «الأهرام»، إشارة رابعة التي استخدمها «الإخوان المسلمون» في مصر خلال مرحلة المجابهة مع الاخوان المسلمين في مصر في عام 2013.

4 ـ استخدم أردوغان سلاح إنزال الجماهير الى الشارع لتعزيز موقف سياسي، خلافاً لنداءاته السابقة لأحزاب المعارضة، كما يقول المعلق التركي بركات قارا، حيث كان يشجع على عدم استخدام الجماهير في الشارع لتأييد توجهاتهم.

5 ـ أشار في خطابه الذي ألقاه السبت الفائت في البرلمان، إلى أنّ هناك احتمالاً لإصدار قانون يأذن بحكم الإعدام غير الساري حالياً في تركيا بموجب القوانين السائدة. وهذا يعزز توجهه لاستخدام أقسى وسائل الشدّة، لا بالضرورة لمعاقبة الموصوفين بالانقلابيين، بل لمعاقبة معارضيه الآخرين. وأنا أقول ذلك لأنني كخريج من كلية الحقوق، أعلم بأنّ القوانين حين تشرّع، لا تسري بحسب الأصول، على الجرائم التي سبق وقوعها تاريخ صدور القانون، بل على الجرائم المقترفة بعده. وهذا يعني أنه رغم إمكانية تعديل القانون ليأذن بفرض وتنفيذ عقوبة الإعدام، فإنه لن يسري على الانقلابيين، لحصول الفعل الجرمي قبل تعديل القانون ما لم يتضمّن نصاً يقضي بتنفيذه بأثر رجعي مع حاجة قانون كهذا لأكثرية خاصة ، ولكنه سيسري على عدد من معارضيه الذين قد يتعامل معهم بمنتهى الشدة بعد الانتصار على الانقلابيين، علماً بأنه قد استطاع قبل عدة شهور، استدراج البرلمان لإصدار قانون يأذن برفع الحصانة عن بعض النواب المنتخبين تمهيداً لمحاكتهم. وكان المقصود بذلك التشريع، نواب ينتمون إلى حزب الشعوب الكردي الديمقراطي. ولكن قد يوسع الآن تنفيذه، ليشمل آخرين من معارضيه اذا قرّر التشدّد فعلاً في نهجه، وهو ما ترجحه المؤشرات العديدة الوارد ذكرها سابقا.

6 ـ شكل الانقلاب مناسبة لمطالبة الولايات المتحدة باعتقال فتح الله غولن وتسليمه إلى تركيا، باعتباره المخطط للانقلاب والمشجّع على تنفيذه. ويعترف المعلق السياسي التركي محمد غول، بأن هناك مكتب محاماة في واشنطن معتمد من قبل تركيا، لإعداد مذكرة المطالبة بتسليم غولن لتركيا. ويعترف أيضاً، بأنّ المكتب يعمل في هذا الشأن منذ فترة من الزمان، أيّ قبل وقوع الانقلاب العسكري، مما يوحي بأنّ وقوع الانقلاب، قد عزز موقف أردوغان بالمطالبة باعتقال غولن الذي كان يستند لأسباب ضعيفة واهية، فجاء الانقلاب واتهام غولن بالوقوف وراءه، مناسبة لتعزيز المطالبة الأردوغانية بتسليم غولن لتركيا.

ومسألة التوجه نحو التشدّد عوضاً عن الاعتدال وتصحيح مسارات علاقاته، سواء في الداخل أو مع الخارج، بما في ذلك المزيد من الخنق للديمقراطية وللحريات في الداخل، والتي كان قد ضرب بها أردوغان عرض الحائط أحياناً، فكمّ الأفواه واعتقل صحافيين وأغلق صحفاً، مما أدّى لعديد من الانتقادات الصادرة عن الاتحاد الأوروبي الذي يتعامل بحذر مع تركيا نظراً لتجاهلها أبسط مبادئ الحرية وحقوق الإنسان… هذه المخاوف من تراجع الديمقراطية، يمكن لمسها بين سطور الخطابات التي ألقاها اليوم في الجلسة الخاصة للبرلمان التركي بمناسبة انتهاء الانقلاب، عدد من زعماء الأحزاب وأبرزهم رئيس حزب الشعب الجمهوري قليتشدار أوغلو الذي أكد على أهمية الديمقراطية التي من أجل الحفاظ عليها، بادر كلّ رؤساء احزاب المعارضة للتنديد بالانقلاب، باعتباره خطوة للحدّ من الديمقراطية والشرعية التي هي أحد أصول الديمقراطية.

اذن ما الذي حدث في تركيا في ليلة الخامس عشر من حزيران؟ هل كان انقلاباً حقيقياً رغم ما بدت فيه من سذاجة في التنفيذ، أم حركة استباقية؟ لا أحد يعلم بعد على وجه اليقين، وقد لا نعلم قبل مرور بضعة أسابيع على ذاك الحدث الموصوف بالجلل، لما حمله معه من احتمالات على تركيا داخلياً وكذلك على علاقاتها وسياساتها الخارجية…

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024