ما يحدث للولايات المتحدة الأميركية مع إيران، ليس حظاً عاثراً وحسب، بل هو نتيجة إخفاقات وسوء تقدير لدور إيران وقدراتها وصلابة مواقفها. إنّ سوء التقدير هذا، كان وراء قرار الولايات المتحدة في العام 1980 القيام بعملية عسكرية لإنقاذ جواسيسها الذين قبضت عليهم إيران في وكرهم المسمّى «سفارة». غير أنّ تلك العملية العسكرية الأميركية، تحوّلت الى كارثة حلّت بأميركا، وكانت حصيلتها جنوداً أميركيين قتلى وطائرات محطّمة.
في العام 1980، لم يكن قد مضى عام على انتصار الثورة الإسلامية، وكانت الثورة منشغلة في عملية التحصين الداخلي وبتنظيف البلاد والإدارات من كلّ دعائم وأدوات نظام الشاه المرتبط بأميركا والغرب، ورغم ذلك، فإنّ العملية الأميركية فشلت فشلاً ذريعاً. فشل تعدّدت أسبابه وقتذاك، غير أنّ النتيجة شكلت عامل ردع للولايات المتحدة التي تخلت عن اعتماد الخيار العسكري، وذهبت الى المفاوضات مع إيران، فكانت اتفاقية الجزائر في العام 1981، وبموجبها أفرجت إيران عن جواسيس أميركا.
غاية استحضار ما حدث لأميركا مع إيران في العام 1980، أنّ الجمهورية الاسلامية الإيرانية كانت حينذاك في بدايات تشكل قوّتها وبناء قدراتها، أمّا اليوم، وبعد أربعين عاماً ونيّف، باتت قوة عملاقة بحق. فهي اعتمدت اقتصاد المواجهة متحدية كلّ أشكال الحصار والعقوبات، وقطعت كلّ الأشواط للوصول إلى مرحلة استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية، وعززت التصنيع الحربي، وصولاً إلى مرحلة أصبحت فيها الصواريخ الإيرانية ترسم معادلات ردعية كبيرة. هي الصواريخ ذاتها التي بيد المقاومة في لبنان وبها حرّرت الأرض وهزمت العدو الصهيوني، وهي الصواريخ ذاتها التي بيد المقاومة في فلسطين وبها تُدكّ المستوطنات الصهيونية وتضع حداً للغطرسة الاحتلال، وهي الصواريخ ذاتها التي ساهمت في هزيمة الإرهاب في العراق والشام.
ولأنّ الصواريخ بالصواريخ تُذكَر، فإنّ تسديدها وإطلاقها على قواعد أميركية في العراق، يشكل تحوّلاً كبيراً في مسار الصراع ليس على صعيد المنطقة وحسب، بل على الصعيد العالمي. ذلك أنّ هذه الصواريخ كسرت القواعد التي كانت تضع «حرماً» من قبل القوة الغاشمة على مهاجمة قواعد وأهداف أميركية. وهذا أمر بالغ الحساسية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، لأنه يضع أميركا في مسار انحداري ينذر بسقوطها من موقع القوة الأولى في العالم، بعد سقوطها من عالم الإنسانية.
بالتأكيد هناك من يقيس نجاعة الردّ الإيراني على جريمة اغتيال اللواء قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما، بعدد القتلى الأميركيين، ومن هؤلاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، غير أنّ هذا القياس لا يمتّ بصلة إلى الواقع. لقد كان لافتاً كلام أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، حينما قال: «لا توجد شخصية بوزن قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، حذاء قاسم سليماني يساوي رأس ترامب وكلّ القيادة الأميركية»، ليؤكد بعدها أنّ المعادلة هي «إنهاء الوجود العسكري الأميركي في المنطقة». وعليه فإنّ الردّ الإيراني بقصف القواعد الأميركية، يشكل نقطة البداية في مسار تحقيق المعادلة.
الردّ الإيراني، وبمعزل عن حجم الخسائر الأميركية، هو ردّ من العيار الثقيل ومفاعليه لا شك ستحدث تحوّلات كبرى في المشهد على صعيد المنطقة، ورغم ذلك فقد اعتبره المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي رداً أولياً ومجرد «صفعة»، مؤكداً أنّ «الردّ بخروج أميركا من المنطقة»، وهذا يعني أنّ الحساب لا يزال جارياً من جهة إيران، في حين أنّ العراق دولة وحشداً شعبياً لم يستوفِ الحساب بعد، وقد صدر موقف عراقي أكد بأنّ الردّ العراقي لن يكون أقلّ من الردّ الإيراني، وذلك بعد تصويت البرلمان العراقي على قرار يطالب الحكومة بالعمل على إخراج القوات الأميركية.
هو ردّ أولي على جريمة اغتيال سليماني والمهندس ورفاقهما، كما قال السيد خامنئي، وقد جاء مزلزلاً.. وكلّ المواقف التي صدرت وتصدر عن دول وقوى المقاومة، تؤكد بأنّ الردّ لن يتوقف حتى خروج القوات الأميركية.
وإضافة إلى مفاعيل الردّ الذي حصل، فإنّ رداً آخر سبق أن تلقته الولايات المتحدة، حين خرجت الملايين في إيران والعراق وغير بلد مقاوم، ترفع القبضات وتطلق الهتافات في مشهد غير مسبوق. ما شكّل مصادقة شعبية عارمة على توجيه ضربة قاسية للولايات المتحدة. وهذه المصادقة الشعبية على وجوب الردّ، أحدثت هلعاً كبيراً لدى الولايات المتحدة التي استبقت جريمتها الإرهابية بإشغال عدد من دول المنطقة بأوضاع وأزمات داخلية، من خلال وقوفها وتغذيتها لحركات الاحتجاج التي حملت عناوين مختلفة.
واضح، أنّ بعد جريمة 2 كانون الثاني 2020 الإرهابية ليس كما قبلها. والواضح أيضاً أنّ الإرهاب ورعاته الأميركيين ليسوا في وضع أفضل بعد استشهاد سليماني والمهندس، فالإنجازات التي تحمل توقيع هذين القائدين وسائر قادة المقاومة تتصاعد، وقد جاء الردّ الإيراني ليلحق هزيمة جديدة بأميركا، هزيمة لم يكن بمقدور الرئيس دونالد ترامب التعمية عليها في خطابه، خطاب وصفه مسؤولون أميركيون بينهم مرشحون رئاسيون بأنه هزيل وليس خطاب رئيس دولة. وفعلاً فقد عكس ترامب في خطابه حالة من الإرباك والتخبّط الأميركيّين، وتعزّزت أهمية لدى المراقبين القناعة بأنّ الردّ الإيراني أفقد الإدارة الأميركية وزنها وتوازنها. ففي وقت يخرج ترامب بمواقف هي أشبه بسيمفونية يعزفها ولا ترقى الى مستوى ما يحصل من تداعيات وتحوّلات على صعيد المنطقة والعالم، فإنّ إيران تكون قد قالت كلمتها في الميدان وفي السياسة، أما روسيا الاتحادية فتواصل الاضطلاع بدور أكبر، حيث يحط رئيسها فلاديمير بوتين فجأة في سورية، للقاء نظيره السوري الدكتور بشار الأسد، وليؤكدا معاً على مواصلة الحرب على الإرهاب، إرهاب لطالما كانت أميركا راعياً وداعماً له.
ما بعد الردّ الإيراني على القاعدة الأميركية في العراق، فإنّ الزمن قد يعود أربعين عاماً إلى الوراء، عندما أخفقت أميركا في إنقاذ جواسيسها وتلقت خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، لتذهب بعد ذلك إلى التفاوض من أجل استعادة جواسيسها.
أما اليوم، فإنّ ذهاب أميركا الى المفاوضات، ليس للتفاوض حول حق إيران المشروع في استخدام الطاقة النووية لأغراض سليمة، فهذا الحق لا مساومة إيرانية عليه، وليس لكلام ترامب أيّ معنى بهذا الخصوص، وهو في موقع الضعف. إنّ ذهاب أميركا إلى اية مفاوضات هو لضمان ترتيبها بين الدول القوية ومن ضمنها إيران في النظام الجديد المتعدد القطبية.
أما بالنسبة للمنطقة، فإنّ ما سيلي الردّ الإيراني سياق من الردود تنفذها قوى المقاومة، لإخراج القوات الأميركية من العراق وسورية، وهو خروج سيؤدّي حكماً إلى اجتثاث الإرهاب من عموم المنطقة، الإرهاب الذي ترعاه أميركا لتشتيت البوصلة عن فلسطين، ولتصفية المسألة الفلسطينية.
بالدماء والتضحيات والشهداء ظلت فلسطين قضية حية، وبالدماء والشهداء والتضحيات انتصر لبنان على العدو وانتصرت سورية على الإرهاب ورعاته. وها هي دماء الشهيدين سليماني والمهندس ورفاقهما ترسم خريطة المنطقة خالية من الأميركيين وترسم خريطة العالم بموازين جديدة.
تحية للدماء التي أثمرت تحريراً وعزاً ونصراً ومعادلات…
|