كنت في زيارة لبيروت عندما قامت "دلال المغربي" بعمليتها الفدائية الجريئة في الحادي عشر من آذارـ مارس 1978, وخلال وقت وجيز سرى الخبر في كل مكان من بيروت الغربية مُشِيعاً الحماسة والإبتهاج. ومع الخبر تواردت التفاصيل عن العملية النوعية التي نفذتها مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين والعرب (من لبنان واليمن)، تتبع "جهاز الأرض المحتلة" الخاص بحركة "فتح", المعروف باسم "القطاع الغربي" بقيادة "خليل الوزير" - أبو جهاد.
حملت المجموعة اسم قرية "دير ياسين"، لتذكِّر بالمجزرة المروعة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية فيها ربيع العام 1948م، وأطلق على العملية اسم الشهيد "كمال عدوان" قائد جهاز الأرض المحتلة السابق الذي اغتاله الصهاينة في بيروت في نيسان - ابريل 1973.
تميزت العملية بكونها من العمليات النادرة للثورة الفلسطينية التي تتم عبر البحر المحروس جيداً من قبل الدوريات الإسرائيلية. وكان نجاح المجموعة المكونة من أحد عشر مقاتلاً في استخدام القوارب المطاطية للوصول إلى الساحل الفلسطيني قرب شاطئ يافا، والتمكن من الإستيلاء على حافلة (إسرائيلية) والتوجه إلى "تل أبيب" والإشتباك مع العدو لساعات، ضربة قوية لنظرية الردع وللبنية الأمنية (الإسرائيلية). ولم تتمكن القوات الإسرائيلية من السيطرة على الموقف إلا بعد نفاد ذخيرة المقاتلين واستشهادهم ـ فيما عدا اثنين تم أسرهما بعد إيقاع خسائر كبيرة في العدو.
لكن ما ميّز العملية أكثر، كان الفدائية الشابة السمراء ابنة السنوات العشرين، المولودة في أحد مخيمات بيروت لأب لاجئ من يافا وأُم لبنانية. وهو ما أجَّج شعوراً عارماً بالحمية والإعتزاز والفخر لدى الجميع، وبخاصة لدى الشابات اللواتي رأين فيها رمزاً ملهماً لهن، فتدفقت المئات منهن على مقرات الثورة للإلتحاق بدورات عسكرية ليتاح لهن القيام بما قامت به دلال.
إحدى صديقاتها - التي كانت معها في المعسكر التدريبي خلال فترة الإعداد- روت بحسرة وندم أنها قد استبعدت من المشاركة في العملية, لأنها- عندما سألها المفوض السياسي للمعسكر بعد انتهاء فترة التدريب, ولم يكن الهدف معلوماً بعد- عما تحلم به وتتمناه؟ أجابت قائلة, وهي اليتيمة: أنها تتمنى أن تتزوج وتنجب طفلاً يعوضها عن اليتم, فيما كان جواب "دلال" على سؤال المفوض حاسماً ومصمماً: أنها تريد أن تقاتل لتحرير فلسطين.
لم تكن دلال أو "جهاد" - حسب اسمها الحركي - حالة استثنائية في المشاركة النسوية في العمليات الفدائية، لكنها كانت أول شابة تشارك مجموعة قتالية كلفت بتنفيذ مهمة معقدة عبر البحر, تتطلب إلى جانب الشجاعة والإقدام، مهارة ميدانية عالية, ورباطة جأش وصبر وقدرة على التصرف في المواقف الصعبة والمستجدة. وهي عناصر امتلكتها "دلال" بجدارة استحقت الإعجاب والتكريم.
فقبل "دلال", نتذكر"جميلة بو حيرد" الفدائية الجزائرية ابنة حي "القصبة" الشهير، التي أحيت في الوجدان الجزائري إرث القائدة الوطنية الثورية الكبيرة في القرن التاسع عشر: "لالا فاطمة نسومر". وقد ذاع صيت "جميلة" أيام حرب التحرير الوطنية ضد الإستعمار الفرنسي (1954م-1962م) كمقاتلة وأسيرة تحملت التعذيب بصبر.
ونذكر "فاطمة برناوي" و"أمينة دحبور" و"ليلى خالد" و"تيريز الهلسه" اللاتي قمن بعمليات مميزة ضد المحتلين الصهاينة وبعضهن تعرض للأسر لسنوات طويلة قبل تحريرهن.
وفي الثمانينيات من القرن الماضي، قدمت الفدائيات اللبنانيات اسهامهن البارز في العمليات النوعية ضد الصهاينة: "سناء المحيدلي"، "لولا إلياس عبود"، "سهى بشارة"؛ والسورية "حميدة الطاهر".
أما الإسهام الأكبر, فقد قدمته فدائيات انتفاضة الأقصى والمقاومة العراقية. الأمر الذي يعني إقراراً بالدور القتالي للنساء، بعكس النظرة التقليدية السابقة لهن التي كانت تحصر أدوارهن في حدود العمل الخيري والشعبي, ومساعدة الرجال الذين فهموا ان القتال امتياز خاص بهم فقط!
لكن شرف المشاركة في قتال المعتدين والظالمين، أكبر من أن يستأثر به الرجال، فهو واجب عام أكدته تجربة الشهيدة دلال ورفيقاتها، وأكدته من قبل مشاركة النساء في كل العصور.
وفي سجل التاريخ وذاكرته, قائمة أسماء لا حَدَّ لها منهن.
|