على شرف مأثرة "يوم الأرض" الأبي.
وإكراماً لشهدائه وجرحاه ومناضليه.
وتحية لذكرى البهي المقدام: توفيق زياد
في تواريخ الشعوب والأمم أحداث وأيام فاصلة تكون خاتمة منهية لما قبلها، وفاتحة مؤسِسة لما بعدها.
وهكذا كان "يوم الأرض" يوماً فاصلاً في حياة الفلسطينيين عموماً، والفلسطينيين الذين تبقوا في الأرض التي احتلت في العام 1948م بشكل خاص.
وقد استحق "يوم الأرض" هذه الصفة لأنه شهد أول نهوض وطني شعبي عام يقوم به عرب أراضي الـ48 منذ النكبة.
وهو نهوض أكدوا فيه بوضوح تخضَّب بدماء الشهداء والجرحى، على تمسكهم بأرض الآباء والأجداد، وعلى هويتهم العربية، وصفتهم كأصحاب الأرض الأصليين، وعلى رفضهم ومجابهتهم لسياسة "الأسياد الإسرائيليين" العنصرية التمييزية التي تعاملهم كمقيمين مشبوهين، مؤقتين وعابرين، وغير مرغوب فيهم في وطنهم.
وكان أهم ما فيه- إضافة إلى توحدهم في المواجهة- هو "يقظتهم على ذاتهم" كجزء حي أصيل من الشعب الفلسطيني والأمة العربية، وأنهم ليسوا "إسرائيليين" قابلين للتدجين في مؤسسات الدولة وبنية المجتمع الإستعماري العنصري المحتل، وإن ما يُراد بهم، ليس فقط اقصاؤهم وتهميشهم واستخدامهم كاُجراء، بل طردهم والإستيلاء على ما تبقى من أراضيهم لإحلال المستوطنين اليهود فيها مكانهم، أو لإستخدامها لأغراض عسكرية لجيش الإحتلال.
* * *
وقد استشعروا هذا من خلال إطلاعهم على ما تسرب من وثيقة من يسمى "متصرف اللواء الشمالي" في وزارة داخلية العدو "يسرائيل كيننغ", التي بيَّن فيها خطر النمو السكاني للعرب، ودعا إلى تهويد مناطق الجليل والمثلث والنقب، عبر تكثيف الإستيطان اليهودي فيها وإقتلاع العرب منها وتهجيرهم بشتى السبل.
ومع الإستيلاء على منطقة "المل" الواقعة ضمن مدى أراضي "ديرحنا" و"سخنين" و"عرابة" الجليل، تأكد العرب من جدية عزم السلطات "الإسرائيلية" على إنفاذ سياساتها الإغتصابية، فدعت هيئتهم التنظيمية التنسيقية: "لجنة الدفاع عن الأراضي العربية" إلى الإضراب العام (يوم الثلاثين من آذارـ مارس 1976)، فحاولت السلطات المحتلة بكل مؤسساتها، كسره والتخويف من المشاركة فيه بتهديد وملاحقة القيادات، وإنذار الموظفين والعمال والطلاب بالفصل.
ولكن تصميم الشعب كان أقوى من أن يُرَد. وبدل الإستكانة، انطلقت التظاهرات في "ديرحنا" ثم "عرابة" و"سخنين" لتزداد زحماً وقوة واتساعاً. فزج المحتلون بقواتهم الأمنية لتبطش بالمدنيين العزل الذين تجرأوا على تحدي "الأسياد"، بعدما اعتقدوا أنهم "روضوهم" على قبول الضيم كأمر عادي أو كقدر لا مَرَدَّ له.
* * *
لكن التاريخ، الذي يلفظ الأمم والشعوب اللامبالية بحقوقها ومصايرها والمستكينة لظالميها، يفتح أبوابه لمن يدقها من الشعوب الحية ذات الإرادة. خصوصاً إذا ما قرنت الإرادة بالوعي والتنظيم والوحدة والإستعداد لبذل التضحيات، كما تجلى في هبة "يوم الأرض" الذي سجلت فيه دماء الشهداء والجرحى وعذابات المعتقلين نهاية عهد التواكل، وسقوط المراهنات على إمكانية التعايش بسلام مع المحتلين العنصريين، وبدء عهد الإنتقال من العمل السياسي النخبوي, المُجزأ, والجهوي، إلى العمل الجماهيري الواسع المنظم الذي تشارك فيه الجمهرة الفاعلة من أبناء الوطن.
* * *
ولسوف تتردد أصداء وصور هذا اليوم الباسل لدى عموم الفلسطينيين في كل مناطق تواجدهم، وتستعاد ذكراه كل عام كموقعة مميزة بارزة في تاريخهم النضالي المعاصر منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ضد الغزوة الإمبريالية البريطانية والصهيونية ووليدتها "إسرائيل"، ومن أجل الدفاع عمَّا جاهد من أجله الآباء والأمهات والأجداد والجدات من قبل، وعما ينبغي على الأجيال مواصلة النضال لأجله: الأرض, والوطن, والهوية، والحرية والسيادة.
* * *
ولا ينتقص من قيمة "يوم الأرض"، (ولا من غيره من المعارك التي خاضها وما زال يخوضها عرب فلسطين) أنهم لم ينجزوا تحرير وطنهم السليب بعد، فقد حققوا ما هو ثمين ومهم في حياة الشعوب: تحرير وعيهم من الأوهام، وإطلاق إرادتهم في مباشرة العمل "بذاتهم" و"لذاتهم".
و"الوعي" و"الإرادة" كما نعلم، هما الشرط المُؤسِس لما هو تالٍ وآت. وهما "الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل" كما قال "ماوتسي تونغ" في وصف مسيرة الثورة الصينية.
* * *
في ذكرى "يوم الأرض" وعلى شرفه، نستعيد بحفاوة قصيدة الراحل الكبير "توفيق زياد" العنيدة المُصمِمة "هنا باقون":
كأننا عشرون مستحيل
في اللد، والرملة، والجليل
هنا..
على صدوركم
باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج، كالصبَّار
وفي عيونكم...
زوبعة من نار
هنا..
على صدوركم
باقون كالجدار
* * *
وفي "يوم الأرض" تحية لحماتها المرابطين.
حتى يظل لنشيد الشاعر"فؤاد حداد" معناه:
"الأرض بتتكلم عربي"
* * *
" ولا بدَّ من يومٍ أغر .."
|