كما كنت أفدتُ في نبذة سابقة، فقد استعدت منذ أيام الملف الغني بالمعلومات عن أحد رفقائنا المميزين من سلمية، الباحث واللغوي حسن قطريب، وفيه أنّه أُحيل بتاريخ 3/7/2007 إلى عمدة الإذاعة مرفقاً بثلاث صور.
ان هذا الملف الغني، وتعريفاً بأحد الرفقاء المميزين، ننشر أبرز ما ورد.
حفل التأبين المُقام بمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيله بمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيل الباحث اللغوي (الأديب) حسن قطريب، أقامت وزارة الثقافة الشامية بالتعاون مع الاتحاد العام للصحافيين ومنفذية حماه للحزب السوري القومي الاجتماعي، حفلاً تأبينياً بدأه الرفيق غسان قدور (عريف الحفل)(1) بالترحيب بالمسؤولين الإداريين والحزبيين والحضور من الرفقاء ومقدّري مكانته، الذين غصّت بهم صالة المركز الثقافي، ثمّ عُرض فيلم وثائقي بالصوت والصورة لأهم مراحل حياة الرفيق الراحل، بعد ذلك ألقى كلمة بدأها بالقول:
" بالأمس، وقفت وراء هذا المنبر في حفل تكريمك، واليوم أقف مؤبناً شخصك الراقد قامة عالية في سرير القبر الذي احتوى جدثك، فشتّان بين الأمس واليوم".
وأضاف: " إنّ التاريخ يسجّل وقفات العزّ لمن لم يحنوا جباههم ولم يتسرّب اليأس إلى نفوسهم، مدركين أنّ آلاماً عظيمة تنتظر كل ذي نفس كبيرة منّا، إذ مهما تعاظمت قوى الشر على بلادنا وأمعنت في تفتيتها وبعثرة قواها، ومهما استقوى يهود الداخل بارتهاناتهم للإرادات الأجنبية، وهما تجاهل السواد الأعظم من شعبنا حقيقة انتمائنا، سنبقى على إيماننا بأنّ النصر قادم، مستشهدين بقول حضرة الزعيم: " إن أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تأتي على الأمم الحيّة، فلا يكون لها إنقاذ منها إلّا بالبطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة ".
وختم: " هكذا كنتَ في حياتك وستبقى، وسنبقى هكذا بعد مماتك واثقون من النصر، لأنّنا مؤمنون أنّ القوة التي في شعبنا ستفعل يوماً وتغيّر مجرى التاريخ ".
*
من كلمة وزير الثقافة ألقاها مدير الثقافة في حماه، الأستاذ محمد عارف قسّوم:
"أستاذنا الجليل أبا زيد: أمسِ كنّا معك، والآن وغداً وفي كلّ يوم.. فمثلك من اصطفته السماء لا ليكون مُلكَ وحده، بل ليكون ملك الناس جميعاً ".
وقال: " أتحفّظ على تسمية هذا الحفل بالحفل التأبيني.. فالتأبين يكون – عادةً – للأموات.. وأنت الحيّ فينا، بعلمك، بنُبلك، بفضلك، بما ألّفت وكتبت وبوثبة الجيل الجديد تتمثّل في إيمانك بأنّ الإنسان خلاصة هذا الكون ومجموع أوصافه، لأجله خُلق وله كلّ ما فيه من جمال وكمال.. وبأنّ الحياة هي الحب علوّاً وسموّاً... و(السوى) وهمٌ زائل لا يلبث أن يصبح هشيماً ".
وقال: " تشبهم لطفاً وأنساً هذه اللغة.. كلاكما يضوّي الوجود، ويجعل بلمسة إبداع واحدة من البيداء القاحلة جنّة من جنان الحُسن والبهاء. وليس ذلك عجباً، فقلبك واللغة هما الحبّ وبالحبّ تتفتّح الأكمام بالشذى".
كلمة رفقاء الفقيد ألقاها الرفيق "أسعد حافظ" استهلّها بقوله:
" الولادة والموت توأمان متلازمان في رحم الطبيعة، فحيثما كانت الولادة كان الموت، وتبدأ بين زمنيهما رحلة يسجل فيها المرء سيرة حياته ويترك من خلالها على صفحات الزمن نفحات ذاته.
فإذا كانت بقع الضوء لا تموت، وإن غابت، وإذا كانت حبات العطر لا تفنى وإن تلاشت، فإنّ دورة الحياة تبقى أزلية، أبدية، سرمدية في مسيرة الكون، ويبقى الأحياء بنفوسهم وعطاءاتهم هم الأثر الخالد، الراسخ في ذاكرة التاريخ، وهم الرمز الذي يتحدّى الموت ويستعصي على الفناء، وترتدّ على صلابة شموخهم أمواج النسيان وينتشر ضياء أفعالهم على امتداد الوطن لتنتشي النفوس عزّة وفخاراً، وتمتلئ القلوب محبة ووفاء.
قد يموت في الحياة من لم يُعطِ الحياة شيئاً، أما من كان في حياته قد وفّى ما عليه على طريق الحياة، ونذر وجوده وكرّس أعماله للارتقاء بأسرته ومجتمعه ووطنه، فذاك هو الخلود، استمرار في عروق الحياة. وانطلاقاً من هذا المعيار، معيار التمييز بين الاثنين، أتساءل تساؤل العارف الواثق من علمه: هل مات فقيدنا الراحل أبو زيد؟
وأجيب جواب المطمئن إلى سلامة رؤياه: إنّ أبا زيد لم يمت، وإن رحل عنّا فهو باقٍ في وجداننا ماثل في أذهاننا خالد في ذاكرتنا، نحن رفقاؤه وهو قدوتنا.. نحن تلاميذه وهو معلّمنا، نحن المحتكمون إليه وهو مرشدنا وقاضينا ".
وأضاف: " لقد كان الراحل عصامياً وإنساناً فاعلاً في المجتمع، واثق الخُطى راسخ المبدأ تليق به هذه الجدارة ويستحق هذه الصدارة، فالذين عايشوه أدرى بما كان عليه من كياسة الحديث وسرعة البديهة ورقّة التسامح وقدرة التحمّل بالصبر على الخطوب والتحلّي بالجلَد عند الملمّات.
كان طيّب الله ثراه أحد أوائل جيله في سلمية، الذين أقسموا بشرفهم وحقيقتهم ومعتقدهم على السير في طريق النهضة القومية الاجتماعية. كان شعلةً من العطاء لا تنطفئ، ونهراً هادراً لا يستكين، فتعملق الحزب على يديه وأيدي رفقائه الذين عاصروه. لقد فجّر براكين العطاء في أبنائه وأسرته، وعلّمهم أبجدية النضال، وأنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي فكرة وحركة ونهضة تحيا في دواخلنا. إنّه حضور قويّ فاعل ومتجدد، ومسيرة كفاح ومقاومة لا تعرف النهايات ولا تؤمن بالحدود وغاية تسمو على كلّ شيء.
كان واحداً من المؤمنين بانتصار النهضة القومية الاجتماعية، المزروعين مجداً على حدود الوطن وهضابه وسهوله ليكونوا البداية المتجددة بالاتجاه الذي يرسّخ العزّة في النفوس ويوقظ النخوة في قلوب الأجيال الواعدة، كان واحداً من أبناء أمتنا التي طلّقت الغباء واستهدت بمشاعل الشهداء الذين كانوا الفجر الذي انبثق من ليله عنفوان الغار والزيتون، وولدت من خيوطه وثبة الأحرار معبّاة بزخم الاستمرار والتصميم والإصرار على رفض سرطان الصهيونية والاستعمار وتقبّل الهزيمة وسراب المساومة في القضية.
ولقد عرفته محافل اللغة أديباً مجلياً ولغوياً متفرّداً، ارتقى به علمه الواسع باللغة العربية أن أسندت إليه جريدة "الثورة" الشامية وظيفة مدقّق لغوي، بجريدة "تشرين" الشاميّة ترأس قسم التدقيق اللغوي، ولضلوعه بعلوم اللغة العربية اصطفاه القائد الراحل حافظ الأسد وقرّبه إليه، فكان أحد مستشاري القصر الجمهوري بدمشق للّغة العربية، كما صدر له عن "دار طلاس للنشر" مؤلَّف "معجم النحو العربي"، وكلّفه وزير الإعلام الأاسبق، محمد سلمان، بإنجاز ما تركه الشاعر الراحل نديم محمد من شعر مخطوط، فعمل مع لجنة مشكّلة لهذه الغاية على إنجاز الأشعار التي صدرت في خمسة مجلدات ".
ونوّه إلى أنّ الفقيد ترك ثروة أدبية لم تُطبع، منها معجم نحو عربي مبسّط شاءه أن يكون مساعداً لمدرّسي اللغة العربية وطلابها، أطلق عليه بعد إنجازه اسم "تقويم الكلام". هذا بالإضافة إلى العديد من القصائد التي جسّد فيها صدق مشاعره تجاه وطنه وأمّته، رسمت دقّات قلبه وهو ينبض بآلام النزوح ووجع الاقتلاع من مسقط رأسه إلى لبنان ثم الكويت ليبحث في صقيع المنفى عن الدفء والأمان... وأيضاً مؤلف أدبيّ هام.
ثم ختم: " أعاهدك أنّي ورفقاؤنا سنعلّم سيرتك لأجيال النصر الآتي، فهي خير وفيّة لذكراك، وعلينا أن نشحذ كلّ ما لدينا من طاقات وما أوتينا من نبوغ لنفجّر في المقاومة إيماناً بانتصار قضيّتنا، ونغرس في نفوس أبناء الحياة كيف يمارسون خبراتهم وكيف يقاتلون في المجتمع المقاوم لدحر الطامعين فيه، فاليوم هو يوم حاجة الأمّة لنا بعد أن طوّقتنا التحدّيات الهمجية – أميركية – إسرائيلية. وعلينا أن ندعو إلى وحدة الصف ونبذ التفرقة بكلّ أشكالها، والالتفاف حول القرار القومي الممركز بقيادة الرئيس الدكتور بشار الأسد، وأن نكون الأوفياء لما أقسمنا عليه أن نرخص دماءنا فداء لكرامة وعزّ الأمة. فاهنأ في عليائك وطب نفساً في خلودك.
بعد كلمة اتحاد الصحافيين، ألقاها عضو المكتب التنفيذي في الاتحاد الأستاذ قاسم ياغي، قدّم عريف الحفل حضرة الأمينة بشرى مسوح، التي ألقت كلمة الحزب السوري القومي الاجتماعي، وبعدما حيّت الحضور قالت:
" نلتقي اليوم لنتذكّر باعتزاز رفيقنا الراحل حسن قطريب، هنا في السلمية، هذه المدينة الغاصّة بالمبدعين، فهنيئاً لكم يا أهالي السلمية، وهنيئاً لنا جميعاً بما أبدعته وتبدعه دوماً هذه المدينة المعطاءة.
إنّها اللحظة التي لا بدّ منها، بل لا مهرب منها، لحظة سقوط الجسد وعودته إلى التراب، أمّا النفس الكبيرة فإنّها لا تسقط، بل تفرض حقيقتها على هذا الوجود.
هذا هو إيماننا في الحزب السوري القومي الاجتماعي، نعمل في حياتنا لكلّ ما هو حق وما هو خير وما هو جمال لهذه الأمة، من ذلك كله كان ولا يزال إيماننا بالإنسان المجتمع، الإنسان المترفّع عن الفردية والطائفية والعشائرية والطبقية. إنّ إيماننا المبدئيّ المطلق هو العمل من أجل عزّ الأمة ومجدها، لأنّ كلّ ما فينا هو من الأمّة وللأمة، حتى "الدماء التي تجري في عروقنا عينها ليست ملكاً لنا، بل هي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها"، كما قال معلّمنا سعاده.
إنّ المفكرين والمبدعين هم عنوان حضارة الأمم وعنوان رقيّها، عليهم تعتمد الأمم في تطوّرها ونهضتها. إنّ أمتنا السوريّة عبر تاريخها الطويل قدّمت للبشرية أعداداً كبيرة من المبدعين الذين ساهموا في تقدّمها وازدهارها، أمّا وقد وقعت أمتنا فريسة الأطماع الاستعمارية التي أدخلتنا في نفق التخلّف والتمزّق الطائفي والعشائري، فنحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى الإنسان النهضوي المؤمن بنظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن، كي يساهم في إعادة الحرارة والدفء إلى شرايين الأمّة لتعود وتأخذ مكانها الطبيعي والطليعي بين الأمم. هذا ما علّمنا إيّاه سعاده، وهذا ما آمن وتمتّع به فقيدنا الغالي الرفيق حسن قطريب. فيا رفيقي أبا زيد: نلتقي اليوم من أجلك، من أجل رجل منح أمّته عطاءات كثيرة... آمن بحقيقة النهضة القومية الاجتماعية وضرورتها لإنقاذ هذه الأمة، مجسّداً إيمانه عملاً وفعلاً بصلابة، مضحّياً لمجد بلاده سورية، وكأنني أسمعه يردّد: لأجلك يا سورية هذا القليل.
أيّها الرفيق المبدع: منذ انتمائك لصفوف النهضة عام 1951 دأبت بكلّ جدّ ونشاط ونقاء لتجسّد حقيقة الإنسان المجتمع، الذي يرفض الأنا الفردية ليعمل لمجد بلاده وعزّ حياتها وبقائها.
تكلّفت بمسؤوليات جسام وكنت أهلاً لها، عانيت من السجن والاضطهاد ولم يتزعزع إيمانك، انتقلت من الشام إلى لبنان فالكويت ولم تنقطع عن الإبداع اللغوي والشعري، ولم تنقطع عن وقفات العز في كلّ ميادين الحياة.
رفيقي أبا زيد: في ذكرى أربعينك نقدّم لك التحية القومية الاجتماعية على جهادك ونضالك، ونقول لك: نم هانئاً في حضن السلمية التي أحببت، وفي ثرى بلادك التي من أجلها عملت وتفانيت، نم قرير العين في حضن أمّتك السورية التي تعوّدتْ إنجاب الأبطال والمبدعين، نم هانئاً فإنّ رفقاءك في الحزب السوري القومي الاجتماعي سيكملون المسيرة وسيعملون دوماً لمجد سورية وعزّها وانتصارها".
بعد كلمة حزب البعث العربي الاشتراكي التي ألقاها علي محمد زين، أمين شعبة الحزب في سلمية، التي جاء فيها:
" عزاؤنا بك أنّك كنت تقود معركة الحياة في سبيل نهضة الأمة ولغتها العربية وحمايتها، وعملت على إعادة الحيوية إلى لغتنا العربية وتجديدها وترسيخ أسسها فيما كتبته بمجال الصحافة وما ألّفته من مؤلّفات.
كان فقيدنا إنساناً أوتي من رهافة الحسّ ولطف الطبع وصفاء البصيرة ما مكّنه من الترفّع عن توافه العيش وترّهاته، فكان بحقّ أنشودة عذبة في فم الحياة، لم يطوه الموت فمثله لا يطويه الموت، فها هوذا يزداد إشعاعه تألّقاً يعيش في قلوب الناس، أحبّهم فأحبوه، فهو من قبل ومن بعد ثمرة من الشجرة التي هم منها، وقيثارة شُدّت أوتارها بقلوبهم، ومصباحٌ يستمدّ نوره من بصائرهم وأبصارهم، فهو منهم وفيهم ولهم، عرفناه روحاً طيّبة تشعّ لطفاً وصدقاً وعزماً وتشوّقاً إلى فعل الخير، يعيش بغير تكلّف ولا تصنّع أو استجداء للإعجاب والاستحسان".
ألقت ابنته المحامية الرفيقة هتاف قطريب كلمة كانت ختام الحفل التأبيني، أنهتها بكلمة شكر لجميع الهيئات الرسمية والحكومية والأهلية، لجميع الذين حضروا من خارج البلدة وتحمّلوا عناء السفر، لجميع المواطنين والأصدقاء والأحبة والرفقاء، لسلمية وأبنائها الطيبين، ولسلمية البلدة المعطاءة التي أنجبت فقيدنا الراحل. شكراً لكم مشاركتنا عزاءنا والبقاء للأمة.
هوامش:
(1) غسان قدور: تولّى بنجاح لافت مسؤولية تاريخ الحزب في سلمية وفي منفذية حماه، كنتُ نوّهت سابقاً بعمله وأنوّه مجدداً.
|