يبذل الأميركيون جهوداً خارقة للإمساك بمنطقة تمتدُّ من جنوب سورية الى حدودها الشمالية على طول المناطق الشرقية لنهر الفرات فيَجمَعُون بين الكرد المنظمين في إطار سورية الديمقراطية «قسد» الى جانب عشائر عربية من تلك النواحي تموّلها السعودية الى جانب قوات إرهابية من داعش أعادوها الى مناطق قرب دير الزور على مقربة من قواعد أميركية ومطارات عدة تنتشر في أمكنة متعددة من المنطقة.
للتوضيح فإنّ تمويل هذه القوى اندرج في قالب مشروع جديد تتكفل به الإمارات والسعودية اللتان سارعتا الى مدّ الأميركيين بـ 150 مليون دولار دفعة واحدة، وذلك بعدما زعم الرئيس الأميركي ترامب انه سيسحب قواته من سورية.
هناك إذاً «عسكرة» كاملة لشرق الفرات تجعل هذه المنطقة في مواجهة مع الأتراك في الشمال والغرب الشمالي ومع الدولة السورية والروس وحزب الله وتحالفاته على طول الحدود الغربية، كما تستند هذه العسكرة أيضاً على قاعدة التنف الأميركية عند زاوية التقاء الحدود الأردنية العراقية السورية والى جانبها مخيم الركبان الذي يضمّ نازحين مع آلاف الإرهابيين بدعم أميركي خليجي مباشر.
هذا توصيف موضوعي ودقيق «لِلحورَبَة» الأميركية التي تذكرت على ما يبدو أنها تكاد تخسر حرب سورية فتحاول استنهاض ما تبقى من أوراقها مرة واحدة لعرقلة الوصول الى الحلّ النهائي.
انّ مجرد محاولة الاستئثار بشرق الفرات ومنعه من التكامل مع جزئه الغربي تصبّ بوضوح في خانة رفض عودة القسمين الى الالتحام مجدّداً في إطار الدولة ايّ منع الحلّ السياسي.
وهذا لا يحتاج الى أدلة قوية لإثباته.
كما يتضرّر أيضاً الروس أصحاب المشاريع الجيوبوليتيكية التي يريدون إطلاقها من ميدان سورية الى الشرق الاوسط هناك حتى الآن طلبات بشراء أسلحة روسية من قطر والسعودية ومصر وتركيا والهند وأميركا الجنوبية… أليس هذا من الدلائل على بدء عودة الروس الى العالم؟
وهو أيضاً من الإشارات التي توضح أسباب هذا الغضب الأميركي من محاولات موسكو مشاركتها في إطار ثنائية قطبية تخففُ من التسلط الأميركي.
أما حزب الله وتحالفاته فمتضرّرون أيضاً من إعادة التجديد الأميركية للحرب، فهم الحلفاء الأصليون للدولة وكانوا سبّاقين الى دعمها متيحين للروس الفرصة للدخول القوي الى الميدان السوري، ولذلك مستعدون لإعادة تجديد حربهم على النفوذ الأميركي في شرق الفرات، لأنّ لسورية مكانة استراتيجية بالنسبة إليهم في الصراع مع الأميركيين والإسرائيليين وحلفائهم الخليجيين في المشرق.
وإلا كيف يمكن فهم الحصار الأميركي المفروض على إيران والمدعوم عالمياً من السعودية والإمارات والبحرين و«إسرائيل»؟ وكيف يمكن تفسير وضع حزب الله على قائمة الإرهاب في كلّ من واشنطن وتل أبيب والرياض وأبو ظبي؟
أما ما يثير العجب فهو الاستهداف الأميركي لتركيا التي يمكن اعتبارها متضرّرة أيضاً وهي العضو الأصيل في الحلف الأطلسي والملتزمة الأهداف الأميركية منذ ستين عاماً ونيّف، ألا يجب ان يعلّم هذا الأمر العرب المتسربلين بالتغطية الأميركية تاريخياً وفحواه انّ واشنطن تتخلى عن كلّ شيء في سبيل مصالحها فقط، ولأنّ الخليج لا يزال في دائرة الأهداف الاقتصادية الأميركية فلن تتخلى عنه الآن وربما في مرحلة استنزاف النفط.
لذلك فهمت أنقرة انّ نشر نقاط عسكرية أميركية عند حدودها مع سورية إنما هو إعلان صريح برفضها لأيّ هجوم تركي على الأكراد المنتمين الى «قسد» الجناح العسكري لمشروع الأكراد الرامي الى إنشاء دولة شرق سورية سرعان ما تمتدّ الى شرق تركيا حيث توجد أكبر كتلة للاكراد في مناطق انتشارهم الاقليمية نحو 20 مليون كردي تركي .
وهذا ما يعتبره الرئيس التركي أردوغان مشروع حرب يستهدف تفتيت بلاده. وهنا يضربُ الأميركيون عصفورين بحجرٍ كردي واحد. فيقسمون سورية بين شرق وغرب وتركيا إلى ثلاثة مكونات كردية وتركية وربما علوية 15 مليون نسمة وذلك تمهيداً لتفتيت العراق عبر كردستان العراقية وإيران أيضاً وذلك بتحريض نحو خمسة ملايين كردي إيراني.
أما سورياً فهناك اتجاه أميركي لتعطيل الحلّ السياسي وإعادة بناء الدولة ومنع عودة النازحين وذلك بانتظار تركيب لجنة دستورية تحتوي على عدد وافر من الأعضاء الموالين للأميركيين الذين يشترطون إجراء انتخابات تحدّد المستقبل السياسي لسورية.
وهنا تبدأ اللعبة، الإمساك الأميركي بشرق الفرات يؤمّن لواشنطن السيطرة على كتلة كبيرة من الأصوات الكردية والعشائرية. هذا بالإضافة الى أصوات النازحين السوريين في تركيا والأردن ولبنان وهؤلاء يزيدون عن خمسة ملايين نسمة ما يفسّر فوراً أسباب رفض الأميركيين والأوروبيين وحتى الأتراك لعودة النازحين الى مناطقهم. فهناك رفض أميركي مطلق لعودة هؤلاء النازحين حتى ولو اقتضى الأمر إعادة تفجير الحرب من جديد.
ألا تعكس هذه الوجهة تصميماً أميركياً على رفض إعادة بناء الدولة السورية ولو بالقوة.
وهذا يؤدي بدوره الى عدم استقرار الدول المجاورة في العراق والأردن ولبنان.
لماذا تعاود واشنطن افتعال هذه الأزمات مجدّداً؟
مع استبعاد الاهتمام الأميركي بمصالح الشعوب يتبيّن انّ الأهداف الأميركية هذه المرة ليست لخسارة حرب تكتيكية قابلة للتعويض بقدر ما تعكس إحساسها باقتراب خسارة مكانتها الجيوبوليتيكة.
لذلك فهي تبذل جهوداً لوقف مشروع تراجع كبير في هيمنتها على الشرق الاوسط أمام قوتين كبيرتين: روسيا وإيران.
بالنسبة لموسكو فإنّ الأميركيين يحاولون إغراءها بالإعلان الجهري عن موافقتهم على بقاء الروس في سورية بعد الحرب إنما شرط رحيل الإيرانيين وحزب الله. وهذا يبدو انه مرتبط بمستوى العداء لـ«إسرائيل» فإيران وحزب الله عدوان استراتيجيان للكيان الغاصب وبشكل تاريخي مستمر، أما موسكو فلها مع الكيان علاقات عادية وذات طابع تنسيقي.
هذا هو الظاهر أما الباطن فإنّ الأميركيين يريدون إثارة الخلافات بين الحليفين الايراني والروسي.
سورية إلى أين؟
الكرد يقترفون مزيداً من الأخطاء التاريخية في منطقة غير قابلة، لأن تصبح دولة فهي مقفلة بحراً وبراً وجواً، أما الأتراك فذاهبون الى مزيد من الصراع مع الأميركيين لاختلاف المشاريع.
لكن الدولة السورية التي لا تنفك تنتصر منذ سبع سنوات هي الوحيدة المؤهّلة لإفشال مشروع شرق الفرات الذي لا يعادل في الأهمية المشروع الأساس الذي هزمته دمشق في دحرها الإرهاب مع سبعين دولة كانت تستثمر به.
سورية إذاً متجهة نحو نصر كبير على حساب تراجع إمبراطورية أميركية أصبحت قابلة للقهر والاضمحلال في نظام متعدّد الأقطاب.
|