السلطات في منطقة الخليج العربي مصدرها عائلات قبلية تعاونت مع المستعمر البريطاني في النصف الأخير من القرن التاسع عشر فكافأها بتوليها شؤون مشيخات واسعة غنية تحكمها حتى اليوم بدكتاتورية مطلقة لا مثيل لها، وتحولت مع الوقت طبقات حاكمة مقفلة لا ينتسب اليها الفرد إلا بالانتماء البيولوجي.
أما شعوبها فهم مجرد رعايا في دول قرون أوسطية لم ترتقِ بعد الى مستوى شعوب الدول المعاصرة في الحقوق السياسية، يبتهلون الى الله للمحافظة على طبقة عائلية حاكمة تقوم على نظام السمع الى ما تقوله والطاعة الفورية لها، وإلا فالبراء منهم، اي يحقُ للحاكم قطع رأس الذي يتخلى عن الولاء.
هناك ملكيات كثيرة في العالم مثال اسبانيا، انجلتره، الدانمارك وغيرها فيها انظمة ملكية، لكن مصدر السلطات فيها هو شعوبها التي تنتخب ممثليها على مستويات ادارة البلاد في النيابة والوزارة والمال العام.
كان هذا الوصف ضرورياً لإظهار الفارق في مفهوم السلطة بين لبنان والخليج، ففي وطن الأرز الشعب ينتخب ممثليه بتحالفات طائفية واسعة، فينتخب في البداية مجلساً نيابياً يختار هو رئيسه، وهذا المجلس الممثل لكل اللبنانيين هو الذي ينتخب رئيس الجمهورية ويكلف رئيساً لتشكيل حكومة لا تصبح شرعية إلا بعد أن يوليها ثقة غالبية أعضائه.
هكذا تنشأ البناءات الدستورية في لبنان وقد يكون للتأثير المالي أو الخارجي والطائفي دور في قناعات الناخبين، لكن هذا الأمر لا يلغي ان الناخبين المنضبطين في إطار طوائفهم ومذاهبهم هم الذين ينتخبون ممثليهم، أما التأثيرات الاعلامية والانتماءات الثانوية فلها ادوارها النسبية في كل مكان، لكنها الاساس الانتخابي في لبنان.
لماذا هذا التفسير؟ كان ضرورياً لمعالجة اوضاع بعض السياسيين المتأثرين بالتجربة الخليجية التي عايشوها وهم رجال أعمال واقتصاد هناك.
ولما عادوا الى وطنهم لبنان اعتقدوا بإمكان بناء طبقات حاكمة تستطيع بواسطة الطائفية والمال استنساخ التجربة الخليجية.
هل هذا ممكن؟
اللعبة في لبنان أكثر تعقيداً، فأقصى ما يمكن للسياسي ان يصل اليه إذا حقق نجاحات سياسية كبيرة هو ان ينجح في الانتخابات النيابية عن طائفته ويتحالف مع ناجحين آخرين عن طوائفهم لهم بريق متساوٍ معه فيشكلون فريقاً متحالفاً يدخل في صراع سياسي مع فريق آخر متحالف سبق وطبق السياق نفسه، فتنقسم البلاد دائماً بين نهجين وفريقين شعبيين متناقضين يبقيان مصدر السلطات مع كل عودة موسمية ومحددة الى الانتخابات الضرورية.
اين المشكلة اذاً؟
انها موجودة في الحريرية السياسية الآتية اصلاً من السعودية وهي تحاول نقل تجربة آل سعود الى لبنان، حاولت وفشلت لأن الطوائف الاخرى رفضت، ما أدى الى انكفائها عن تطبيق آحادية عائلية على مستوى وطني وفشلها في تطبيق النموذج السياسي السعودي على الطائفة السنية، اي فرضُ ولاءات كاملة على مبدأ السمع والطاعة، وذلك بواسطة اختلاق أعداء خارجيين واثارة الخوف من الآخر كما يفعل الاميركيون مع الشعوب الضعيفة: ارهاب الخليج من ايران واوروبا الشرقية من روسيا، وشعوب جنوب شرق آسيا من الصين… فسعت الحريرية السياسية الى ارهاب السنة من الشيعة «الفرس المجوس» والإسلام من المسيحية وهكذا دواليك. وعندما انتبهت الى حاجتها الى تحالفات، فتشت عن الاخطر على نفوذها فاختارت الشيعة فريقاً لديه مشروع مقاوم في الإقليم وامتداد تحالفي كبير في سورية وإيران وتعاديه بلدان الخليج والسلطات الأميركية و»إسرائيل».
فاعتبرت ان هذا التخطيط يؤدي مع القليل من نثر المال السياسي والكثير من الضغط الخطابي والاعلامي والديني الى سيطرتها على الموقع السياسي الذي يمثل السنة اللبنانيين، فيتحالفون مع القوى المحلية الموالية للغرب ويشكلون أكثرية بوسعها حكم البلاد على مبدأ السمع والطاعة السعودي.
هذه الأحلام لم تنجح في الانتخابات: مسيحياً فازت قوى متنوّعة ومتناقضة، وكذلك عند الدروز إنما مع احتفاظ الوزير وليد جنبلاط بأكثرية النواب، لكن الشيعة شكلواً استثناء بمفردهم فقد تمكن فريقهما حزب الله وحركة امل من الاستئثار بكامل المقاعد المخصصة لمذهبهم وذلك بسبب الخطر الاسرائيلي الذي يتعرّضون له في جنوب لبنان و»الارهاب الاسلاموي» الذي يضع من ابادة الشيعة جزءاً اساسياً من مشروعه.
ان ظهور هذين الخطرين في وقت واحد أديا الى تماسك انتخابي شيعي مع حزب الله الذي يقاتل هذين الخطرين في سورية ولبنان، وبالتالي مع حليفته حركة أمل.
لكن الحريرية السياسية لم تتمكن من الهيمنة على كل مقاعد طائفتها، فحصلت على نحو 54 في المئة منهم مقابل 46 في المئة لنواب نجحوا على لوائح منافسة لآل الحريري وبينهم ستة أعضاء شكلوا كتلة مستقلة ويطالبون بمقعد وزاري واحد في أي تشكيلة حكومية.
واذا كان الرئيس ميشال عون والحريرية السياسية نجحا في حلحلة عُقد تأليف الحكومة عند المسيحيين والدروز بالتوصل الى تقاسمات تعكس التعددية السياسية الناتجة من الانتخابات النيابية الاخيرة، فإن رفض رئيس الحكومة المكلف اشتراك النواب السنة المستقلين في الحكومة الجديدة بذرائع واهية أدّى الى تعطيل التشكيل، وتبين أنه يريد إبقاء هذه الطائفة مجردة من الحيوية السياسية ورتيبة لتأمين زعامته المطلقة عليها، حسب مفهوم السمع والطاعة والولاء والبراء لآل سعود وتحالفاتهم ما أنتج أزمة حكومية خطيرة عمرها تسعة اشهر تتحول تدريجياً الى ازمة نظام وتفسير دستور له صلاحية البت بكل النزاعات الدستورية. «فالسعد» وفريق عمله القانوني يعتقدون ان الرئيس المكلف يستطيع أن يبقى رئيساً مكلفاً من دون تشكيل حكومة في المدة التي يريدها فيما ترى مصادر القصر الجمهوري ان مجلس النواب هو مصدر السلطات بوكالته الانتخابية عن اللبنانيين وبالإمكان العودة اليه لدراسة وضع الرئيس المكلف: هل يحق له الاستمرار أم يجري عزله وتكليف آخر لتشكيل حكومة جديدة، وهنا تبذل الحريرية جهوداً جبارة لتحشيد مذهبي سني بدعوى ان رئيس الجمهورية الماروني يعتدي على صلاحيات رئيس الحكومة السني.
وهذه من العجائب لأن أي بلد في العالم لا يقبل إعطاء مدة مفتوحة لا حدود لها لرئيس حكومة مكلف كي يشكل حكومة: قد تنتهي ولاية الرئيس قبل تشكيل الحكومة.
فكيف الحال مع بلد مهدد امنياً ووطنياً من «إسرائيل» ووصل الى حافة الانهيار الاقتصادي والعلاقات بين طوائفه في مرحلة صعبة وأوضاع خدمات الكهرباء والمياه وسحب النفايات من الشوارع في أصعب مراحلها.
فهل يجوز مع هذه الظروف المأساوية تأخير الحكومة بذريعة أن «السعد» لا يعترف بالنواب السنة المستقلين.
لبنان اذاً في مرحلة مأساوية، لأن الحريرية السياسية لم تعرف بعد 28 عاماً من سيطرتها على السلطة السياسية فيها ان هذا البلد ليس مشيخة نفط تقوم على السمع والطاعة. فعساها تفهم هذه المعادلة قبل خراب البصرة!! وهي أكبر الخاسرين فيه.
|