مشروع الدولة العراقية بدمج فصائل الحشد الشعبي في الجيش الوطني بالصهر الكامل يلقى ابتهاجاً كبيراً لكنه يُجابِه في العمق اعتراضات واسعة جداً من الجوار العربي المباشر والإقليمي والأميركي. يُمكن أيضاً اضافة «داعش والقاعدة» وكل انواع القوى المتطرفة والحزبية المتضررة من إنتاج جيش وطني متماسك.
على مستوى الداخل العراقي يلقى قرار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بإلغاء الكيانات السياسية والعسكرية التابعة للحشد الشعبي ودمجها بالجيش الوطني دمجاً كاملاً استحساناً من معظم العراق بمختلف مكوّناته المذهبية والطائفية والعرقية.
لكن يجب الإقرار بأن لا مصلحة لحكام كردستان بجيش عراقي قويّ البنية يستند الى دعم اجتماعي وسياسي ووطني، فهذا يؤدي طبيعياً الى لجم الاتجاهات الانفصالية والتقسيمية عند التيارات البرازانية، وحشرها في زاوية ضيقة وكشف تحالفاتها مع جهتين متناقضتين وبرعاية أميركية وهما تركيا اقتصادياً والقوى الكردية الانفصالية في سورية تحديداً، مع غض طرف عن أكراد إيرانيين معادين لدولتهم.
بالمقابل، فإن معظم تيارات المناطق الوسطى مؤيدة لهذا الدمج لأنه يزيل لعبة التهويل المذهبية التي تزعم أن الحشد الشعبيّ هو مشروع شيعي إيراني للسيطرة على العراق، ويذهبون احياناً الى حد اتهام الحشد بأنه إيراني الجنسية وليس مجرد موالٍ او متحالف مع إيران.
توجدُ ايضاً اتجاهات للتطرف الديني التقليدي وقوى سياسية تسيطر على جانب من مناطقها بدعم من الجوار. وهذه لا تستحسن الاندماج لخوفها من تراجع أدوارها التحريضية، بفقدانها للتبريرات المذهبية او العرقية الضرورية.
وهناك حشد عشائري في المناطق الوسطى قابلٌ ايضاً للاندماج لأنه انضم الى الحشد الشعبي في قتال الإرهاب ودحره من الموصل الى بغداد. وباللغة المذهبية المرفوضة فهذا الحشد سني، لكنه قليل العدد قياساً الى الحشد الشعبي، وهذا أمر طبيعي في بلد كان الارهاب يحتل مناطقه الوسطى مانعاً اهلها من التفاعل مع الدولة العراقية السياسية والعسكرية والاجتماعية حتى عندما أركن سياسيون من المناطق الوسطى الى الفرار الى تركيا والسعودية ظلت أصواتهم عبر وسائل الإعلام تدعو الى الفتنة والتقسيم ورفض دور الحشد الشعبي.
للتذكير فقط فإن سقوط الموصل ووصول الارهاب الى مشارف بغداد دعا المرجع العراقي السيستاني الى إطلاق دعوة للجهاد في سبيل العراق، ممهداً الطريق لولادة الحشد الشعبي الذي نجح بالتعاون مع الجيش في القضاء على دولة الخلافة، لذلك فإن ترحيب هذه المناطق باندماج الحشد الشعبي يشمل إقفال المكاتب العسكرية والاقتصادية والسياسية، دافعاً نحو الترابط الاهلي والوطني. وتكفي الاشارة الى ان احزاب تحالف القرار لأسامة النجيفي والمحور الوطني وائتلاف النصر مؤيّدون للدولة القوية.
يشمل هذا التأييد بغداد والجنوب بحيث يتحوّل فيها ترحيباً لا يرتدي شكل انهاء الحشد الشعبي لأسباب مسلكية او اخرى تتعلق بالتنافس الداخلي، بل لأن هناك تياراً يربط بين الدولة القوية والجيش القوي، وهذا لا يكون إلا بحصر السلاح مع طرف مقبول من الاجتماع الأهلي العراقي وتعبيراته السياسية.
اذا كانت مكوّنات العراق الثلاثية الأساسية الشيعة والسنة والأكراد ومعها الايزيديون والمسيحيون والصابئة موافقين على إيجابية هذا الدمج، فلماذا الخوف من تداعياته؟
مشكلة العراق متعدّدة وهي خارجية تستعمل وسيلتين: وهما الاحتلال الأميركي المتواصل منذ 2002 انما بوتائر أضعف من ذي قبل واستثمار الخارج والإقليم بالفتنة المذهبية بين السنة والشيعة فيتراجع الدور الوطني العراقي وتضعفُ مقابل صعود التباينات العرقية والطائفية وميليشيات المذاهب، لكن الحشد الشعبي حصر مداخلاته العسكرية بحرب ضروس شنّها على الإرهاب في مناطق الموصل ونينوى والأنبار وعند مشارف بغداد مشكلاً عاملاً اساسياً في رفع يد الإرهاب عن أرض الرافدين وبكاملها.
على المستوى الأميركي، فهناك تدخّلات متواصلة في سبيل منع تطوّر الدولة العراقية، وذلك بإثارة الخلافات التقليدية بين مكوناتها والتحريض وتعطيل المؤسسات الرسمية، لقد بذل الأميركيون في العراق كامل إمكاناتهم لتعطيل عودة الدولة الى قوتها مربكين مؤسساتها مؤسسين البشمركة الكردية في الشمال وهي لا تزال تصرُّ على عدم الاندماج بالجيش داعمين لعشرات الأحزاب والميليشيات في الوسط محاولين إحداث صدامات بين قوى مناطق الجنوب وبغداد وفصائل الحشد الشعبي.
فكيف يقبل الأميركيون بعراق قوي مرتكز على جيش وطني متمكن وهم الذين يواصلون احتلاله مستثمرين في العبث السياسي والاقتصادي به، لذلك فهم يريدون تحييد الحشد الشعبي من الصراع الأميركي الإيراني وليس دمجه في الجيش العراقي مع الإبقاء على الانقسامات الاجتماعية والسياسية على حالها.
تركيا بدورها تعمل على نسف فكرة دمج الحشد بالجيش عبر قوى سياسيّة تواليها من الاخوان المسلمين في منطقة الوسط لأن الجيش العراقي القوي والوطني يصبح قادراً على مجابهة الاحتلال التركي لأجزاء من الشمال وتقليص دوره في الوسط فلا يتبقى له إلا عراقيون فارون الى اسطنبول يعملون إعلامياً. وهذا ما ينطبق على السعودية التي تبذل طاقاتها لكبح أي مشروع يصبح فيه العراق قوياً وقادراً على ممارسة دور وطني يدفعه بسرعة نحو الإقليمية والتنسيق مع سورية لحماية المشرق من العدوانية التركية والإسرائيلية والسعودية والأميركية معاً.
أيمكن هنا نسيان داعش وعموم الإرهاب؟
ان موقف هذه المنظمات الارهابية التي تقلص نفوذها في العراق مشابهٌ تماماً للموقف الأميركي التركي السعودي وهو منع إنتاج جيش عراقي وطني لعراق يتمتع بالسيادة والدور الكبير في المنطقة بما يدفع الى الحذر من عودة قوية للعمليات الإرهابية في الوسط والجنوب لإثارة الرعب وإعادة العراق الى ما كان عليه قبل أربع سنوات.
المطلوب إذاً إنتاج عراق قادر على تجاوز كل هذه المعوقات الداخلية والخارجية، وذلك بدمج الفصائل الوطنية في الجيش والتنسيق مع سورية.
مع الاستعداد لمجابهة تركيا والسعودية والاحتلال الأميركي المختلفين في الظاهر والمتحالفين عملياً على مشروع الاستمرار في إضعاف أرض السواد لمواصلة إضعاف كامل الشرق الأوسط.
|